Ad

نحتفل هذا العام بمرور أكثر من قرن ونصف على نشر أحد أهم الكتب في تاريخ العلم، “أصل الإنسان واختياره فيما يتعلق بالجنس” (The Descent of Man, and Selection in Relation to Sex) لتشارلز داروين. هذا العمل الرائد، الذي صدر في فبراير 1871، لا يزال يثير جدلاً واسعاً ويستفز العقول، فهو ليس مجرد عرض لنظرية التطور البشري، بل هو نافذة على عقل داروين نفسه، وعلى أفكار حقبة زمنية كانت تشهد تحولات عميقة. في هذا التقرير، سنغوص في أعماق هذا الكتاب، مستعرضين جوانبه المضيئة والمظلمة، ونكشف عن مدى تأثيره على فهمنا للطبيعة البشرية والمجتمع، وكيف أن بعض أفكاره، وإن كانت صادمة، لا تزال تتردد أصداؤها بقوة في عصر الثورة الجينية.

داروين: ملاحظات آسرة ونظرة إنسانية

قد يرى البعض في كتاب “سقوط الإنسان” عملاً جافاً، مليئاً بالتحليلات العلمية المعقدة. لكن الحقيقة أن داروين، بأسلوبه المميز، يمزج بين العلم والملاحظات الشخصية التي تكشف عن جوانب آسرة من شخصيته. ففي الصفحات الأولى من الفصل الأول، يفاجئنا داروين بملاحظاته الطريفة عن تشابه سلوك الحيوانات مع البشر، لدرجة أنه يصف ثلاث من حيوانات الكوالا “لديها شغف قوي بالروم وتدخين التبغ”، وقردًا أمريكيًا من فصيلة الأتيليس (Ateles monkey) “بعد أن سكر بالبراندي، لم يمسه مرة أخرى، وهكذا كان أحكم من كثير من البشر”. ويسترسل في وصف عواقب الإفراط في تناول “البيرة القوية” على مجموعة من قرود البابون الإفريقية:
“في صباح اليوم التالي كانوا في غاية السخط والكآبة؛ كانوا يمسكون برؤوسهم المؤلمة بكلتا اليدين، وبدوا في تعبير يرثى له: عندما عُرضت عليهم البيرة أو النبيذ، أداروا وجوههم باشمئزاز…”
هذه الحكايات الظريفة المنتشرة في أنحاء النص تمنح القارئ لمحة عن داروين كإنسان، وليس مجرد عالم عبقري. فهي تضفي لمسة من الفكاهة والإنسانية على عمل علمي جاد، وتبرز مدى اهتمام داروين بمراقبة سلوك الكائنات الحية وتفسيره.

داروين والنظرة المزدوجة للإنسانية: إعجاب بالحيوان وتحفظ على الإنسان

يُنهي داروين كتابه باستنتاج مؤثر يدعو فيه إلى عدم الخجل من انحدارنا من كائنات أكثر تواضعًا. ويقول: “بالنسبة لي، أفضل أن أنحدر من ذلك القرد الصغير البطولي الذي خاطر بعدوه اللدود لإنقاذ حياة حارسه؛ أو من ذلك البابون العجوز الذي، نازلاً من الجبال، حمل رفيقه الصغير منتصراً من بين حشد من الكلاب المندهشة – على أن أنحدر من متوحش يستمتع بتعذيب أعدائه، ويقدم تضحيات دموية، ويمارس قتل الأطفال دون ندم، ويعامل زوجاته كعبيد، ولا يعرف اللياقة، وتطارده أشد الخرافات فظاعة.”
هذا المقطع، على الرغم من صراحته، يكشف عن جانب مظلم في تفكير داروين. فهو يفضل الحيوانات على بعض فئات البشر، خاصة “المتوحشين” منهم، مما يعكس تحيزًا واضحًا وسائدًا في عصره. هذا التحيز يصبح أكثر وضوحًا عندما يتذكر داروين لقائه الأول مع “الفيوجيين” (Fuegians) سكان أرض النار (Tierra del Fuego) خلال رحلته على متن سفينة البيجل (HMS Beagle):
“الصدمة التي شعرت بها لن أنساها أبدًا… فقد خطرت لي الفكرة فورًا – هؤلاء كانوا أسلافنا. كان هؤلاء الرجال عراة تمامًا وملطخين بالطلاء، وشعرهم الطويل متشابك، وتفوح من أفواههم رغوة من الإثارة، وتعبيرهم كان وحشيًا، مذعورًا، وغير واثق.”
هذا الوصف يثير أسئلة حول كيفية التعامل مع النصوص العلمية التي تعكس تحيزات مؤلفيها. فهل يمكننا فصل الملاحظات العلمية عن الآراء الشخصية المتحيزة؟ وهل تؤثر هذه التحيزات على موضوعية الحجج المقدمة؟

الجدل حول العرق والطبقة: بذور الأفكار المقلقة

على الرغم من أن داروين لم يكن عنصريًا صريحًا مثل ابن عمه فرانسيس غالتون (Francis Galton)، الذي صاغ مفهوم “اليوجينيا” (Eugenics) وروج له، إلا أن “سقوط الإنسان” لا يخلو من الحجج المقلقة حول العرق والطبقة. فقد كان داروين ابن عصره، حيث كان الاعتقاد سائدًا بأن الإنجليز (وربما الأسكتلنديين) هم الأول بين “الأجناس المتحضرة”. يعكس الكتاب أيضًا المفهوم السائد للتسلسل الهرمي البشري، الذي ينحدر من الأوروبيين عبر مختلف “الأجناس البربرية” و”المتوحشة” أو “الأدنى” إلى أقرب أقارب البشر الأحياء بين “القرود الشبيهة بالإنسان” (anthropomorphous apes).
في مقطع أصبح سيئ السمعة الآن، يصنف داروين السكان الأصليين لأفريقيا وأستراليا على أنهم “أعلى قليلاً من الغوريلا في السلم الطبيعي”. وفي الوقت نفسه، يستنتج ببرود أن “الأجناس المتحضرة من البشر ستُبيد، وبشكل شبه مؤكد، الأجناس المتوحشة في جميع أنحاء العالم وتحل محلها”. هذه الأفكار، على الرغم من فظاعتها، لم تكن غريبة في سياق زمني شهد صعود الإمبراطوريات الاستعمارية وتبريرها بـ”تفوق العرق الأبيض”.

الطبقات الدنيا والمخاوف اليوجينية: إرث داروين المثير للقلق

لم يقتصر تحيز داروين على الأجناس الأخرى، بل امتد ليشمل الطبقات الدنيا من مجتمعه. فقد لاحظ أن “مع المتوحشين، يختفي الضعيف جسدياً أو عقلياً بسرعة؛ وأولئك الذين يبقون على قيد الحياة عادة ما يظهرون حالة صحية قوية”. وبالمقابل، يرى أن “الرجال المتحضرين، من ناحية أخرى، يبذلون قصارى جهدهم لوقف عملية الإقصاء؛ فنحن نبني مصحات للمتخلفين، والمعوقين، والمرضى؛ ونضع قوانين للفقراء؛ ويبذل أطباؤنا قصارى جهدهم لإنقاذ حياة كل فرد حتى آخر لحظة… وهكذا يتكاثر أفراد المجتمعات المتحضرة الضعفاء. ولا يشك أحد ممن حضروا تربية الحيوانات الأليفة أن هذا يجب أن يكون ضارًا جدًا للجنس البشري”.
تُعد هذه المقاطع مثيرة للقلق بشكل خاص في العصر الحديث، حيث شهدت العلوم الجينية تطورات هائلة. فمع القدرة المتزايدة على استخدام التقنيات الجينية للقضاء على الجينات الضارة – مثل تلك المسببة لمرض هنتنغتون (Huntington’s disease) – من الأجيال القادمة، يطرح السؤال: أين الخط الفاصل بين السمة الضارة بوضوح والسمة غير المرغوب فيها؟ وهل إنهاء حمل جنين مصاب بمتلازمة داون (Down syndrome) يعتبر يوجينيا؟ أو ماذا عن أولئك الذين يتم فحصهم للكشف عن سمات التوحد؟
في عصر داروين الذي سبق علم الجينات، لم يكن بالإمكان طرح هذه الأسئلة، ناهيك عن الإجابة عليها. لكن مخاوف داروين الشخصية، لاسيما بعد زواجه من ابنة عمه إيما ويدجوود (Emma Wedgewood)، بشأن الآثار الوراثية المحتملة لزواج الأقارب على أطفاله، كانت ذات صلة. ومع ذلك، يؤكد داروين بثقة في “سقوط الإنسان” أن العلم سيجد الإجابة في النهاية:
“عندما تُفهم مبادئ التكاثر والوراثة بشكل أفضل، لن نسمع أعضاء مجالسنا التشريعية الجهلاء يرفضون باحتقار خطة للتأكد مما إذا كانت الزيجات بين الأقارب ضارة للإنسان أم لا.”

العلم والقيم: معضلة أخلاقية أبدية

على الرغم من أن العلم يمكن أن يوجه قراراتنا الأخلاقية (أو، في هذه الحالة، القانونية)، إلا أنه لا يمكن أن يحددها – فالحقائق لا تحدد القيم. يعترف داروين بذلك بشكل متردد عندما يقر بأنه لا ينبغي لنا “أن نكبح تعاطفنا [مع “الضعفاء”]، حتى بناءً على إلحاح العقل الصارم، دون تدهور في أنبل جزء من طبيعتنا”.
في الفقرة الختامية لكتاب “سقوط الإنسان”، يدعي داروين “نحن لسنا معنيين هنا بالآمال أو المخاوف، بل بالحقيقة فقط بقدر ما يسمح لنا عقلنا باكتشافها”. وبينما تبدو العديد من آمال ومخاوف داروين متشابكة بشكل لا ينفصم مع نسخته الذاتية من “الحقيقة”، فإن وصفه الأخير لـ”الصفات النبيلة” و”القوى المتسامية” للبشرية هو ما قد يشير إلى الطريق لتجاوز هذه المعضلات الأخلاقية: “التعاطف الذي يشعر بأشد الناس انحطاطًا”، و”الإحسان الذي يمتد ليس فقط إلى البشر الآخرين بل إلى أحقر الكائنات الحية”، و”عقلنا الإلهي الذي اخترق حركات وتكوين النظام الشمسي”.

إن كتاب “سقوط الإنسان” لتشارلز داروين هو عمل معقد ومتناقض، يجمع بين الملاحظات العلمية الثاقبة والآراء الشخصية المتحيزة. لقد أثر هذا الكتاب بشكل كبير على فهمنا لأصول الإنسان وتطوره، لكنه في الوقت نفسه أثار العديد من الأسئلة الأخلاقية حول العرق والطبقة والوراثة. ففي حين أن بعض أفكار داروين قد تبدو صادمة من منظورنا الحديث، إلا أنها تعكس سياقًا زمنيًا معينًا وتحديات فكرية واجهها داروين نفسه.
مع التقدم الهائل في علم الجينات اليوم، أصبحنا قادرين على “اختراق” “تكوين” الحياة نفسها. هذا التقدم يمنحنا قوة غير مسبوقة، لكنه يطرح في الوقت نفسه معضلات أخلاقية جديدة ومعقدة. إن فهمنا لما أصاب به داروين وما أخطأ فيه من خلال تاريخ العلم، يمكن أن يساعدنا على تمديد “تعاطفنا”، و”إحساننا”، و”عقلنا الإلهي” لمواجهة “الشياطين الأخلاقية” التي استدعتها هذه القوة الجديدة. يجب أن نتعلم من الماضي لتوجيه قراراتنا في المستقبل، والتأكد من أن التقدم العلمي يخدم الإنسانية جمعاء، دون أن يقع في فخ التحيزات أو التمييز.
إن قراءة “سقوط الإنسان” اليوم ليست مجرد رحلة في تاريخ العلم، بل هي دعوة للتأمل في أخلاقية العلم ومسؤوليات العلماء، وتذكير بأن الحقيقة العلمية، مهما كانت صارمة، يجب أن تتوازن دائمًا مع القيم الإنسانية النبيلة.

طارق قابيل
Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أكاديمية البحث العلمي

User Avatar

د. طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.


عدد مقالات الكاتب : 8
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *