عندما تشعر بالألم، تتوقع أن يأخذ الأطباء معاناتك على محمل الجد ويقدمون لك العلاج المناسب. ولكن ماذا لو كان جنسك يؤثر على كيفية إدراك الألم وعلاجه؟ كشفت دراسة حديثة نشرت في دورية (Proceedings of the National Academy of Sciences) عن التحيز الجنسي في معالجة الألم. فالنساء أقل احتمالًا لتلقي مسكنات الألم من الرجال، وغالبا ما يضطررن إلى الانتظار لفترة أطول قبل أن يفحصهن الطبيب. لا يقتصر هذا التحيز على مستشفى أو دولة واحدة، بل إنه قضية واسعة الانتشار تؤثر على كيفية علاجنا للألم في جميع أنحاء العالم.
وهذا التحيز اللاواعي له عواقب وخيمة على صحة المرأة. إذا لم يؤخذ الألم على محمل الجد، فإنه يمكن أن يؤدي إلى عدم كفاية العلاج، والمعاناة لفترات طويلة، وحتى الضرر على المدى الطويل. والسؤال هو: لماذا يوجد هذا التحيز، وكيف يمكننا التغلب عليه؟
محتويات المقال :
إدراك الألم
الألم هو تجربة معقدة وذاتية للغاية ولا زالت غير مفهومة بشكل كامل. ويتأثر الألم بالعديد من العوامل، بما في ذلك حالتنا العاطفية، وتجاربنا السابقة، وحتى جيناتنا الوراثية. ولكن هل تعلم أن جنسنا يلعب أيضًا دورًا مهمًا في كيفية إدراكنا للألم والاستجابة له؟
أظهرت الأبحاث أن الرجال والنساء لديهم مستويات مختلفة من الإحساس بالألم ومستويات تحمل مختلفة. على سبيل المثال، وجدت الدراسات أن النساء تميل إلى أن تكون أكثر حساسية لأنواع معينة من الألم، مثل الألم الناتج عن الحرارة، في حين أن الرجال أكثر حساسية للألم الميكانيكي (مصدر الألم قد يكون في مفاصل العمود الفقري أو الفقرات أو الأنسجة الرخوة). ويعتقد أن هذه الاختلافات بين الجنسين في إدراك الألم تتأثر بمجموعة من العوامل، بما في ذلك التقلبات الهرمونية، وبنية الدماغ، والأعراف الاجتماعية والثقافية.
أحد العناصر الرئيسية في إدراك الألم هو نظام المكافأة في الدماغ (Reward system)، وهو المسؤول عن إطلاق المواد الكيميائية التي تساعد على الشعور بالسعادة مثل الدوبامين والإندورفين. تساعد هذه المواد الكيميائية على تقليل إدراك الألم وتحسين الحالة المزاجية. ومع ذلك، وجدت الدراسات أن أدمغة النساء تميل إلى إطلاق مستويات أقل من هذه المواد الكيميائية استجابةً للألم، مما قد يساهم في زيادة حساسيتها لأنواع معينة من الألم.
هناك عامل مهم آخر وهو دور الهرمونات الجنسية، مثل هرمون الاستروجين والتستوستيرون. يمكن أن تؤثر هذه الهرمونات على معالجة الألم من خلال التأثير على نشاط الخلايا العصبية التي تستشعر الألم وإطلاق المواد الكيميائية التي تخفف الألم. على سبيل المثال، تبين أن هرمون الاستروجين يزيد من حساسية الخلايا العصبية التي تستشعر الألم، في حين وجد أن هرمون التستوستيرون يقلل من حساسية الألم.
ماضي علاج الألم بين الجنسين
جذور علاج الألم قديمة، حيث تعود أقدم الجهود المسجلة إلى الحضارات القديمة في مصر واليونان وروما. في تلك الأوقات، كان علاج الألم يعتمد إلى حد كبير على الخرافات والمعتقدات الدينية، مع القليل من الفهم للأسباب الكامنة. مع تقدم المعرفة الطبية، تطور فهم الألم أيضًا، ولكن ظهر اتجاه غريب، فالسجلات التاريخية تكشف عن نمط ثابت من التحيز الجنسي في معالجة الألم، حيث غالبًا ما يتم تجاهل النساء أو عدم علاجهن.
في القرنين السابع عشر والثامن عشر، اتُهمت النساء في كثير من الأحيان بالهستيريا، وهي حالة تتميز بالسلوك الدرامي وغير العقلاني، والذي يُعتقد أنه ناجم عن “رحم متنقل” (Wandering womb). أدى هذا إلى انتشار الافتراض بأن ألم المرأة كان عاطفيًا أو نفسيًا، وليس جسديًا. ووصف الأطباء في ذلك الوقت، مثل توماس سيدنهام، النساء بأنهن “هستيريات” ووصفن علاجات مثل الأفيون، والتي لم تفعل الكثير لمعالجة الأسباب الكامنة وراء آلامهن.
وفي الوقت نفسه، غالبًا ما يُعزى ألم الرجال إلى أسباب جسدية، مثل الإصابة أو المرض، ويتم علاجه وفقًا لذلك. استمر هذا النهج القائم على النوع الاجتماعي في التعامل مع الألم حتى القرن العشرين، مما أثر على تطور علاج الألم وأدى إلى إدامة التفاوت الذي نراه اليوم.
التحيز الجنسي اللاواعي في معالجة الألم في غرفة الطوارئ
عندما يتعلق الأمر بمعالجة أسباب الألم في غرفة الطوارئ، يمكن أن تكون البيانات أداة قوية في كشف الحقيقة. قام أليكس جيليليس هيليل وفريقه بتحليل أكثر من 20.000 مذكرة خروج من المشفى (discharge notes) من المرضى الذين زاروا أقسام الطوارئ في المستشفيات الإسرائيلية والأمريكية والذين يعانون من شكاوى ألم غير محددة، مثل الصداع. وكانت النتائج مذهلة، حيث كشفت التحليلات الإضافية أن درجات الألم لدى المريضات أقل بنسبة 10% من حيث احتمالية تسجيلها من قبل الممرضات، وأن المريضات يقضين 30 دقيقة إضافية في قسم الطوارئ مقارنة بالمرضى الذكور. علاوة على ذلك، كانت النساء أقل احتمالًا لتلقي مسكنات الألم من الرجال، بغض النظر عن جنس الممرضة أو الطبيب.
الأرقام تقول أن التحيز اللاواعي يلعب دورًا في غرفة الطوارئ. إن الافتقار إلى مقاييس موضوعية للألم يعني أن الأطباء يضطرون إلى الاعتماد على التقارير الذاتية للمرضى، مما يسمح للتحيزات بالتسلل. وكما لاحظ جيليلز هيليل، فالنساء يمكن أن يحملن نفس وجهات النظر النمطية مثل الرجال حول آلام النساء. وهذا يعني أنه حتى العاملات في مجال الرعاية الصحية قد يكن متحيزات عن غير قصد.
ولكن ماذا تعني هذه الأرقام بالضبط من حيث الحياة الواقعية؟ لنقل أن لديك مريضين، جون وسارة، يصلان إلى غرفة الطوارئ مصابين بصداع مؤلم. كلاهما يعانيان من نفس مستوى الألم، ولكن من المرجح أن يتم رفض سارة باعتبارها “مبالغة” أو “هستيرية”، بينما يُنظر إلى جون على أنه “صادق” ويستحق العلاج الفوري. وهذا الاختلاف في الإدراك يمكن أن يكون له عواقب وخيمة، مما يؤدي إلى تأخير أو عدم كفاية الرعاية المقدمة للنساء.
التكنولوجيا والتدريب والوعي للحد من التحيز
وفقًا للدكتور أليكس جيليلس هيليل، فإن رفع مستوى الوعي بين المتخصصين في الرعاية الصحية يعد أول خطوة حاسمة. حيث يقول أن الأطباء ليسوا على علم بهذا التحيز. ولا يقتصر هذا الوعي على التعرف على التحيز فحسب، بل يتعلق أيضًا بفهم كيفية تأثيره على إدراكنا لألم المرضى.
إحدى الطرق للقيام بذلك هي دمج التدريب على الحد من التحيز في التعليم الطبي. وتقترح الدكتورة ديان هوفمان، الباحثة في قانون الرعاية الصحية، أن تسلط كليات الطب الضوء على قضية التحيز الجنسي في علاج الألم أثناء التدريب. وهذا من شأنه أن يزود المتخصصين في الرعاية الصحية بفهم أفضل للألم وإمكانية التحيز عند علاجه. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا ضمان أن المتخصصين في الرعاية الصحية مجهزون بشكل أفضل لتوفير علاج عادل ومتساوي لجميع المرضى، بغض النظر عن الجنس.
الحل المحتمل الآخر يكمن في التكنولوجيا. حيث يمكن لأدوات دعم القرار الحاسوبية أن تدفع مقدمي الرعاية الصحية إلى تسجيل درجة الألم لجميع المرضى ووصف مسكنات الألم وفقًا لدرجة الألم المبلغ عنها. يمكن أن يساعد هذا في تقليل الاعتماد على التقييمات الذاتية وتقليل تأثير التحيز على قرارات العلاج. ومن خلال رفع مستوى الوعي ودمج استراتيجيات الحد من التحيز في الممارسة الطبية، يمكننا أن نبدأ في كسر دائرة التحيز على أساس الجنس في علاج الألم وضمان حصول جميع المرضى على الرعاية التي يحتاجون إليها.
المصادر
Data reveal how doctors take women’s pain less seriously than men’s | nature
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :