تناولنا في المقال السابق الحديث عن بطارية بغداد. وناقشنا تباين الآراء حولها، وعلاقتها بخلية الطلاء، وعملية طلاء الذهب. في هذا المقال سنتعمق أكثر عبر فحص هذه الآراء بشكل منطقي لنعرف أكثر طبيعة هذا الاكتشاف، ونصل إلى حل لغز بطارية بغداد.
محتويات المقال :
لغز بطارية بغداد وحرفيي بلاد ما بين النهرين
تُصنف بلاد ما بين النهرين – المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات – على أنها مهد ما نطلق عليه اليوم بالحضارة “الغربية”. وُجدت عدة حضارات في أماكن أخرى قريبة على مدى آلاف السنين قبل ظهور المسيح. ولكن عند حديثنا عن الحضارة الغربية ككل، فإننا نميل إلى التركيز على تلك المنطقة وتطورها.
خلال هذا التطور، نشأت بعض الحضارات المعقدة، وسقطت حضارات أخرى.
ومن خلال عدة تقارير متفرقة تتحدث عن الاكتشافات الأثرية بشكل متكرر، استطعنا أن نستدل على أن حرفيي هذه الحضارات أحبوا التفاصيل. ويبدو أن قدرتهم على بلوغ مرحلة متطورة في صناعتهم لم يكن بالأمر الغريب. وذلك جراء تجربة واختبار تقنياتهم قبل استخدامها.
أسس فحص لغز بطارية بغداد
تقنيات التذهيب التي وصفها الباحثون، تم تطويرها بواسطة الفنيين على مدى آلاف السنين. ومع أن تلاشي استخدام تقنية معينة قد يحدث في فترة ما، إلا أنها لا تلبث أن تعود للسطح و تستخدم أو تكتشف لاحقا.
فلربما اكتشف أحد هؤلاء الفنيين شكلاً مبسطًا من الطلاء الكهربائي. ورغم أن هذا المهني القديم لم يكن يفهم آلية حدوث العملية كما نفعل نحن، إلا أن هذا لا ينفي استفادته من الظاهرة بحد ذاتها دون الحاجة لفهمها.
أولاً، من الضروري وجود وسيلة للحصول على جهد كهروكيميائي.
ثانيًا، هناك حاجة إلى وسيلة لإحالة هذا الجهد إلى القطعة المراد طلاؤها.
ثالثًا، يلزم وجود خلية طلاء تحتوي على العنصر الرابع وهو محلول المعدن المراد استخدامه في عملية الطلاء.
يبدو أن تمتع هذا الفني بالعبقرية لتجميع الخلية وتقديم عمله كإنجاز، أو كونه يحظى باحترام كبير لدرجة أن بعض أدواته دفنت معه عندما مات هو ما جعله يحظى بمراسيم دفن رسمية مما سهل إيجاد قبره بعد آلالاف السنين، أو أن مكانته الاجتماعية العالية. فمعظم الحرفيين كانوا مجرد عبيد مهرة، لهذا لا نجد جثثهم عادة في القبور القديمة؛ إلا إذا قُتلوا ودُفنوا عند وفاة أسيادهم.
سنبدأ الآن بفحص كل جانب من جوانب هذا اللغز، وتقييم المعلومات المتاحة لدينا.
مصدر جهد بطارية بغداد
مصدر الجهد هو الجزء السهل من هذا التحليل. كل ما نحتاجه هنا هو مسمار حديدي في الخل أو النبيذ مع أنبوب نحاسي.
لا يوجد شك في أي من المقالات المتاحة أن الوعاء بإمكانه إنتاج الجهد، كما يصف كونيش. لكن السؤال الصعب هو ما إذا كان قد تم استخدامه بالفعل بهذه الطريقة.
لا ينبغي أن نتوقع من المخترع/الحرفي القديم معرفة وجود القطب الموجب والسالب في خليته لتعمل كما تعمل جميع البطاريات الحديثة بأطراف موجبة وسالبة واضحة للعيان. ورغم أن وعاء كونيش يحتوي على طرف سالب واضح (المسمار الحديدي)، إلا أن الأسطوانة النحاسية لا تتاح بسهولة للاتصال بخلية الطلاء لأنها كانت مغطاة بالكامل بسدادة الإسفلت.
عادةً ما تُظهر رسومات وعاء كونيش الوعاء مليئًا بسائل لاستخدامه كخلية جلفانية كالنبيذ أو الخل. إلا أن الجزء النحاسي من الخلية عبارة عن أسطوانة ذات قاع مغلق، وليس أنبوبًا مفتوحًا.
بالتالي، فإن السائل الموجود في الوعاء لن يؤثر في النشاط الكهروكيميائي – فقط الكمية الأصغر من السائل داخل الأسطوانة محكمة الإغلاق حيث يتم تعليق المسمار الحديدي. مرة أخرى، يمكن أن يكون للسائل وظيفة أخرى.
إذا تم بالفعل استخدام الوعاء كبطارية عند ملئه بخل أو نبيذ يشبه الحمض، فإن النحاس قد يذوب في المحلول. لا نتوقع العثور على دليل كيميائي واضح من بقايا النبيذ أو الخل. ولكن بقايا أملاح النحاس في الوعاء لم تحدث بالتآكل الطبيعي، والتقارير كلها لا تناقش هذه النقطة البتة.
عملية نقل الجهد
كان القدماء يمتلكون أسلاكًا لبعض آلاتهم الموسيقية الوترية، قد يكون مصدر معظم أوتارها من الحيوانات. ولكن تم العثور على قيثارة في أور تعود إلى ما قبل 4500 عام، ويبدو أنها تحتوي على سلك معدني.
كان السلك قد تحلل مع الإطار الخشبي، لكن علماء الآثار ملأوا الثقوب بعناية حتى حصلوا على قيثارة من جص باريس. على الرغم من عدم الإبلاغ عن أي أسلاك في أي من المواقع التي تم العثور فيها على هذه الأوعية، قد يكون السلك الرفيع قد تحلل بمرور الوقت ولم تتم ملاحظته. وقد تكون المسامير الحديدية الإضافية الموجودة في الموقع مع الأوعية القصيرة نوعًا ما وجدت لهذا الغرض.
فإذاً، كما هو مذكور أعلاه، يبدو أنه لا توجد ميزة في جزء الأسطوانة النحاسية للخلية لتوفير اتصال مناسب بخلية طلاء خارجية. لكن، قد لا يستخدم المخترع القديم الطريقة المتبعة حديثًا.
خلية الطلاء الكهربائي
لم تُظهر أي من التقارير الواردة من المواقع التي تم العثور فيها على الأوعية أي شيء يمكن أن يعتبر خلية طلاء كهربائي. من الممكن أن يكون المبتكرون/المخترعون متكتمين إلى حد ما بخصوص صناعتهم ولم يسمحوا لأي شخص بربط البطارية بأي من الأجهزة الأخرى. لذا، عند موتهم كان الجزء الوحيد المدفون معهم والمرتبط بمهارتهم هو البطارية. ومع ذلك، ربما كانت هنالك أوعية أخرى عُثر عليها في المواقع التي لم يبلغ عنها كونيش.
بطارية بغداد وخلية الطلاء الكهربائي
إن خلية الطلاء التي وصفها كونيش والتي استخدمها صناع المجوهرات في بلاد الرافدين في الثلاثينيات من القرن الماضي هي خلية متفردة، ولكنها لا تشبه الإناء القديم الذي يصفه أبداً. فبحسب ترتيب صائغي المجوهرات للخلية، يُكوّن القدر وقطعة الزنك البطارية، بينما تعتبر الأوعية الداخلية هي خلية الطلاء. وهذا يخالف ما وجد في المواقع الفرثية، بحيث تعتبر الأوعية بحد ذاتها البطارية.
كون الأوعية غير مطلية بحد ذاتها تعتبر إشارة مهمة تعيد النظر في وظيفتها الأساسية، فهذا يسمح -مثلًا-لاستخدامها كأوانٍ مسامية. إذا كان وعاء بطارية كونيش مغمورًا في وعاء أكبر يحتوي على محلول ملح ذهبي، فقد يكون من الممكن حمل الأداة المراد طليها ليتم تغطيتها بخطاف وإلحاق الخطاف بالمسمار الحديدي للبطارية. سيكون الوعاء المسامي الوصلة الكهربائية الثانية. وعلى الرغم من عدم وجود تقارير عن وجود خطافات مع الأوعية، إلا أن المسامير الحديدية الإضافية الموجودة في المقابر قد تخدم هذا الغرض.
مع هذا، إذا تم استخدام الإناء بهذه الطريقة (أي مغمور في حوض الطلاء)، فيجب أن نرى بقايا أملاح ذهبية أو فضية مترسبة على جدران الوعاء، إلا أنه لا نجد أي معلومات أو تقارير بهذا الشأن. حتى إجراء اختبار ليتحقق من الأمر لم يتم.
المحلول المعدني لخلية الطلاء
يُعتقد أن القدماء استخدموا البطارية لطلاء الأواني بالذهب والفضة. بشكل عام، يجب أن يحتوي وسط الطلاء على بعض السيانيد إن كان الغرض الطلاء بالذهب أو الفضة.
استخدام السيانيد لعدة أغراض لا يعد بالأمر الغريب، فالسيانيد متواجد في الطبيعة بهيئة عدة مركبات.
قدم العديد من الباحثين قوائم بالمحاصيل الغذائية الطبيعية التي تحتوي على كميات كبيرة من مركبات السيانيد مثل نبات الكاسافا، والذي يستخدم في أفريقيا لعدة أغراض، ويبدو أنه وفير منذ العصور القديمة.
كون مركبات السيانيد متاحة من عدة مصادر، إضافة إلى دراية القدماء الجيدة بالسموم الطبيعية المتواجدة. يتيح احتمال قيام أحد الحرفيين بإجراء تجارب مستخدمًا المواد المتاحة، ومن هنا استطاع معرفة أن رقائق الذهب الممزوجة بغسول الكسافا المركز تنتج المحلول المطلوب لعملية الطلاء.
الاستنتاج حول لغز بطارية بغداد
لا تقدم التقارير المتوفرة ما يكفي من الأدلة للسماح لنا باستنتاج أن الحرفيين في بلاد ما بين النهرين اكتشفوا واستخدموا عملية الطلاء الكهربائي. لكننا نعلم أن وجود ورق البردي داخل الأسطوانة النحاسية يشير إلى أن الأوعية كانت تستخدم لتخزين الرسائل المكتوبة على ورق البردي للعالم الآخر والتي ذكرناها في مقالنا السابق، والتي تم إغلاقها في الأوعية بسدادات الإسفلت التي وجدت معها تباعًا.
المصادر
The UnMuseum – Bagdad Battery
Electricity in the Ancient World
N. Kanani, Oberfl achen Werkstoffe
Kurzman, Galvanotechnik
W.A. Oddy, Endeavour
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :