
هل اقتربنا من “الدماغ الرقمي”؟
في عالم يتسارع فيه الابتكار التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، أصبح الذكاء الاصطناعي (AI) القوة الدافعة للعديد من التغييرات الجذرية التي نشهدها. ومنذ سنوات، يسعى العلماء والمهندسون جاهدين إلى تجاوز حدود قدرات الحواسيب التقليدية، التي تستهلك كميات هائلة من الطاقة وتواجه صعوبة في محاكاة مرونة الدماغ البشري وكفاءته. لقد كان الحلم دائماً هو بناء أنظمة حاسوبية قادرة على التفكير والتعلم والتكيف بنفس الطريقة التي يعمل بها دماغنا.
الآن، يبدو أن هذا الحلم يقترب من أن يصبح حقيقة بفضل إنجاز علمي مذهل. فقد تمكن فريق من الباحثين الصينيين من جامعة فودان (Fudan University) من تطوير نوع جديد من الخلايا العصبية الاصطناعية (Artificial Neurons) التي لا تكتفي بمحاكاة طريقة عمل الخلايا العصبية الحية في الدماغ فحسب، بل وتتميز أيضاً بمرونة تكيفية (Adaptive Plasticity) تسمح لها بتغيير قوة روابطها بناءً على الخبرة، تماماً كما يحدث في الدماغ البشري. هذا الابتكار قد يمهد الطريق لجيل جديد من الأجهزة الذكية التي تستهلك طاقة أقل وتتميز بذكاء ومرونة أكبر. فما هو سر هذا الاختراع؟ وما هي آثاره المحتملة على مستقبل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي؟
الخلايا العصبية الاصطناعية: بناء على أساس بيولوجي
لطالما كان الدماغ البشري هو المصدر الأسمى للإلهام لعلماء الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي. فعلى الرغم من تعقيداته، يتميز الدماغ بكفاءة لا مثيل لها في استهلاك الطاقة وقدرة خارقة على التعلم والتكيف. وتعتبر الخلية العصبية (Neuron) هي الوحدة الأساسية للدماغ، حيث تقوم باستقبال ومعالجة ونقل الإشارات الكهربائية. هذه الخلايا لا تعمل بشكل منعزل، بل تتواصل عبر روابط تسمى المشابك العصبية (Synapses)، والتي تتغير قوتها باستمرار بناءً على النشاط العصبي. هذه القدرة على التغيير هي ما يعرف بـ المرونة التكيفية (Adaptive Plasticity)، وهي الأساس الحيوي للتعلم والذاكرة.
ومن هنا، جاءت فكرة بناء أجهزة إلكترونية تحاكي هذه الوظائف. لكن الحواسيب التقليدية التي تعتمد على هندسة “فون نيومان” (Von Neumann Architecture) والتي تفصل بين وحدة المعالجة المركزية والذاكرة، تستهلك طاقة كبيرة وتواجه ما يعرف بـ “عنق الزجاجة” (Bottleneck) عند نقل البيانات. هذا ما دفع الباحثين إلى البحث عن نماذج جديدة، مثل الحوسبة المستوحاة من الدماغ أو الحوسبة العصبية (Neuromorphic Computing)، التي تدمج بين المعالجة والذاكرة في وحدة واحدة.
المكونات الأساسية للخلية العصبية الجديدة
تمكن الباحثون الصينيون من تطوير خلية عصبية اصطناعية تجمع بين عنصرين رئيسيين:
- طبقة فائقة الرقة من ثنائي كبريتيد الموليبدينوم (MoS₂): هذه المادة شبه الموصلة تتميز بخصائص إلكترونية فريدة تسمح لها بالعمل كعنصر فعال في معالجة الإشارات.
- ذاكرة ديناميكية (DRAM): يتم استخدام هذه الذاكرة لتخزين الشحنة الكهربائية، التي تحاكي الجهد الغشائي (Membrane Potential) للخلايا العصبية البيولوجية. هذا الجهد هو ما يحدد ما إذا كانت الخلية ستطلق إشارة كهربائية (Spike) أم لا.
الجمع بين هاتين المادتين سمح للباحثين ببناء جهاز يقوم بعملية مزدوجة: محاكاة الجهد الغشائي (باستخدام ذاكرة DRAM) و إطلاق النبضات العصبية (باستخدام طبقة MoS₂). هذا المزيج التقني هو ما يمنح الخلية العصبية الاصطناعية الجديدة قدرتها على التعلم والتكيف.
كيف تعمل؟ محاكاة الرؤية والتعرف على الأنماط
لاختبار مدى فعالية ابتكارهم، قام الباحثون ببناء شبكة عصبية صغيرة تتكون من 3×3 خلايا عصبية اصطناعية. ثم قاموا بتعريض هذه الشبكة لضوء متدرج الشدة، بهدف محاكاة عملية الرؤية البشرية في ظروف إضاءة مختلفة.
أظهرت النتائج أن الشبكة كانت قادرة على تكييف استجابتها للبيانات المدخلة (الضوء) بناءً على الخبرة، مما يؤكد قدرتها على التعلم. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل استخدم الباحثون نظامهم لتشغيل نموذج للتعرف على الصور، والذي أظهر أداءً واعداً وكفاءة عالية في استهلاك الطاقة. هذه النتائج تشير إلى أن هذا الابتكار يمكن أن يكون أساساً لتطبيقات مستقبلية في الرؤية الحاسوبية (Computer Vision) والتعرف على الأنماط (Pattern Recognition).
آفاق مستقبلية وتحديات
هذا الإنجاز ليس مجرد تقدم تقني، بل هو خطوة مهمة نحو تحقيق أهداف أوسع نطاقاً:
- كفاءة الطاقة: تعد أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية من أكبر مستهلكي الطاقة في العالم. تطوير خلايا عصبية اصطناعية موفرة للطاقة يمكن أن يقلل بشكل كبير من البصمة الكربونية للحوسبة.
- الحوسبة المتنقلة والذكية: أنظمة مثل هذه يمكن دمجها في الأجهزة المحمولة الصغيرة، مما يسمح لها بمعالجة البيانات المعقدة بشكل مباشر دون الحاجة إلى الاتصال بالشبكات السحابية، مما يفتح الباب أمام تطبيقات جديدة في الأجهزة القابلة للارتداء (Wearables) والسيارات ذاتية القيادة.
- فهم أعمق للدماغ البشري: إن بناء نماذج تحاكي الدماغ لا يقتصر على التطبيقات الهندسية، بل يمكن أن يساعد العلماء في فهم أفضل لكيفية عمل الدماغ البشري نفسه، مما قد يؤدي إلى علاجات جديدة للأمراض العصبية.
ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات. فبينما أظهرت الشبكة الصغيرة نتائج واعدة، يبقى السؤال الأهم هو كيفية توسيع نطاق هذا الابتكار لبناء شبكات أكبر وأكثر تعقيداً. كما أن تكلفة الإنتاج وتوافر المواد المستخدمة قد تشكل عائقاً في المراحل الأولى.
نحو عصر جديد من الذكاء المستوحى من الطبيعة
لقد نجح الباحثون في جامعة فودان في تحقيق إنجاز كبير من خلال تطوير خلايا عصبية اصطناعية تجمع بين كفاءة الدماغ البشري ومرونته التكيفية. هذا الابتكار الذي يعتمد على مزيج من ثنائي كبريتيد الموليبدينوم وذاكرة DRAM، يمثل خطوة هامة في مسار الحوسبة العصبية (Neuromorphic Computing)، حيث يتم دمج الذاكرة والمعالجة. النتائج الأولية مبهرة، خاصة في مجالات الرؤية الحاسوبية والتعرف على الصور، وتفتح الباب أمام جيل جديد من الأجهزة الذكية التي تستهلك طاقة أقل وتتمتع بذكاء ومرونة أكبر.
في الختام، يمكن القول إن هذا الاختراع ليس مجرد تحسين تقني، بل هو تغيير في النموذج الفكري الذي نبني عليه أنظمة الذكاء الاصطناعي. فبدلاً من محاولة جعل الحواسيب تعمل بشكل أسرع، أصبح الهدف هو جعلها تعمل بذكاء أكبر، مستلهمة من أروع نظام بيولوجي عرفته البشرية. إنها بداية الطريق نحو عصر جديد، قد نشهد فيه أجهزة ذكية تحاكي ليس فقط قدرتنا على التفكير، بل أيضاً قدرتنا على التعلم والتكيف.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :