بتولي السلطان سليم الأول للعرش العثماني، كان قد صحب ذلك تغيير جذري في استراتيجية سياسة الدولة العثمانية التوسعية. فمعه توقفت الغزاوات التوسعية ناحية الغرب واتجهت ناحية الشرق الإسلامي. فبدأ سليم عهده بالدبلوماسية والسلمية متمثلا في إقامة سفارات مع كل من فيينا وهنغاريا وروسيا من أجل تأمين الالتفات نحو الشرق. وبعد ما عرضناه من جذور الصراع بين المماليك والعثمانيين فلا أهمية هنا لمناقشة عديد الآراء حول تفسير هذا التغيير في الاتجاه نحو الشرق الذي اتخذه سليم الأول. فالفترة ما قبل عصر سليم قد مهدت الطريق وهيأت للصدام الحتمي، ومعظم هذه الأحداث قد عاصرها سليم واليًا. وقد أثرت في تكوينه السياسي وفي نظرته لدولة المماليك.
محتويات المقال :
صراع ثلاثي
ولأن هذه الحرب في معظم الأحيان لم تكن في صالح العثمانيين. فهذا التحرك ناحية الشرق ليس مرده إلى إنقاذ العالم الإسلامي من التحرك الإسباني في البحر المتوسط أو خطرالبرتغاليين في المحيط الهندي، كما يقول بعض الباحثين المؤدلجيين. وإنما كان من أجل تصفية الموقف الملتبس في المشرق الإسلامي حول مسألة السيادة الإسلامية العليا. ففي مطالع القرن السادس عشر الميلادي، كان هناك تنافس عميق وعنيف في الشرق بين ثلاث قوى تعمل كل منهم على سيادة العالم الإسلامي. فبجانب دولة المماليك والتي كانت احتفظت بمقرالخلافة وتسيطرعلى ثلاث مدن إسلامية مقدسة وهي مكة والمدينة والقدس، وترى أنها دولة الإسلام العظمى ومركز ثقله.
ثانيهم، الدولة العثمانية التي تعتبر نفسها أقوى دولة إسلامية منذ سقوط القسطنطينية على يد محمد الفاتح، الذي حاول إرساء بعض النفوذ العثماني المعنوي والمادي في بعض المدن المقدسة كمكة والمدينة. وكان أول من فطن له هو خشقدم كما وضحنا سابقا، وذلك حتى قبل أن يدرك السلطان قايتباي بصورة مؤكدة مجيء خطر الزحف العثماني صوب السلطنة المملوكية بتدخلهم في شئون إمارتا قرمان ودلقادر المشمولتين بالحماية المملوكية.
ثالثهم، الدولة الصفوية بقيادة الشاه إسماعيل التي حاولت الولوج إلى منطقة صراع النفوذ على هذه المنطقة. اعتقد الصفويون أن القضاء على الدولة العثمانية سيؤدي حتما إلى اضمحلال وابتلاع دولة المماليك وليس العكس. فعلى خلاف ما يرى بعض الباحثين بأن المماليك قد أصبحوا قوة تابعة فعليا للعثمانيين بعد تدمير الأسطول المصري بمعركة (ديو)، فهناك من يرَ من المؤرخين الأتراك مثل كيلماز أزوتونا أنها قد أصبحت تابعة حتى قبل عهد السلطان سليم الذي وضع يديه فعليا وعمليا على الأسطول المصري. بل ومنذ عهد بايزيد الثاني الذي أرسل البعثات والمهمات الاستراتيجية والبحارة والفنيين العسكريين والجنرالات العثمانيين إلى مصر.
الخطط الصفوية
لطالما كانت السلطنة المملوكية تمر بفترة انحطاط وتدهور وآخذة في الآفول، وهذا ما كان يدركه جيدا الشاه اسماعيل. فإذا كانت الدولة العثمانية تمتلك قوة بحرية وبرية شرسة جالت بها شرقي أوروبا، كانت قوة فارس الصفوية تتنامى على نحو لم يسبق له مثيل. وقد كانت قوة المماليك أضعف من مجابهة العثمانيين أو الصفويين بحريا كان أو بريا، وهذه حقيقة لم يفطن لها بعد المماليك في مصر.
لذلك وبعد أن انتصر الشاه اسماعيل على دولة (ألاق قوينلو) داخل فارس الكبرى وجعل من تبريزعاصمة له، عمل على حملاته الهامة في ما وراء حدود فارس. فهاجم مرعش والبستان وإمارة دلقادر. ومنذ ذلك الحين، أعلن عن بزوغ قوى إقليمية جديدة، تقف ندا لند مع كل من المماليك والعثمانيين لسيادة المنطقة. فبعد فارس تطلع الشاه مدفوعا بأسباب سياسية ومذهبية واقتصادية لضم العراق، والذي كان لا يزال تحت حكم مراد بن يعقوب بن مرزا أحد أحفاد أوزون حسن.
أسباب مذهبية
من حيث الأسباب المذهبية، عمل الشاه على نشر المذهب الإثنى عشري بحيث اعتبر نفسه المدافع الأول عن هذا المذهب الشيعي. واعتقد أن بنشره ذلك المذهب وسيطرته على العراق، يكون قد حازعلى مكانة رفيعة لدى المسلمين الشيعة بما للعراق من أهمية مذهبية. ولا شك أن العراق مركز المذهب وثقله بضمه مزارات وعتبات وجبانات أئمتهم وبه مجمل تراثهم، مما سيساعده على التوجه قدما نحو إقامة دولة شيعية كبرى.
أسباب اقتصادية
العامل الإقتصادي الواضح من فكرة ضم العراق، يكمن في الرقعة الزراعية الخصبة للعراق القادرة على تلبية حاجة سكان إيران الكبرى. يضاف إلى ذلك، رغبة الشاه في إحكام السيطرة على الطريق التجاري الرابط بين ديار بكر والموصل والذي يصب في عمق وادي الرافدين نحو الخليج العربي عبر بغداد، ومنه الولوج إلى بلاد الشام ومن ثمّ إلى عالم البحر المتوسط.
كانت هذه غايات وأهداف الشاه اسماعيل من ضم العراق، والتي كان قد ركن إليها مراد بن يعقوب. وأدرك مراد في الوقت نفسه عجزه عن أن يقف بمفرده أمام أطماع وطموحات الشاه، فلجأ للسطان الغوري الذي أدرك بدوره هو الأخر توجه الشاه صوب المشرق العربي حيث السلطنة المملوكية. فأراد الغوري أن يعد العدة ويرسل التجريدات والحملات للتصدى لتلك التحركات. وعلى ما يبدو أن تحركات البرتغاليين في المحيط الهندي وسواحل البحر الأحمر قد حالت بين الغوري وبين الشاه في ذلك التوقيت.
استغلال الظرف
واستغلالًا لهذه الظروف التي تمر بها السلطنة المملوكية، هاجم الشاه الحدود الشمالية الشرقية متمثلة في ملطية. فتصدى له علاء الدولة وأجبره على الارتداد إلى حدود دولته، قبل أن تدخل القوات الصفوية إلى داخل الحدود المملوكية عبر البيرة. من الناحية الأخرى وفي هذه الأثناء، بنى الشاه سياسته التوسعية على ركيزيتين.
خطة الشاه
أولا،عمل الشاه على عقد تحالفات مع القوى المؤثرة والمعادية للماليك والعثمانيين حينئذ. فيحدثنا ابن إياس عن أن حاكم البيرة قد ألقى القبض على شخص قبرصي يحمل خطابا من الشاه اسماعيل إلى بعض ملوك الفرنج وقناصلهم بدمشق والإسكندرية. ويدعوهم لأن يكونوا عونا له على سلطان مصر بأن: “يجوا هم من البحر لمصر ويجي هو من البر”. كما يطلب منهم العون بإرسال إمدادات عسكرية للقضاء على الدولة العثمانية. مما حدى بالسلطان المملوكي القيام باستدعاء سفراء الفرنج بكل من ثغر الاسكندرية ودمشق وطرابلس اعتراضا على جواسيس اسماعيل الصفوي.
وثانيا، عمل الشاه على بث المذهب الشيعي بالأناضول داخل الحدود العثمانية. فما كان من السلطان بايزيد الثاني إلا أن قام بإرسال الرسل للشاه اسماعيل لثنيه عن نشر مذهبه داخل حدود دولته. ولم يقم بايزيد بأي عمل جدي ضد تحركات الشاه الدعوية والسياسية، حيث أنه على الأغلب لم يقدر خطورة أطماع الشاه بتحركاته هذه. وظلت الأمور على حالها إلى أن تغيرت تلك المعادلة السياسية وانقلبت رأسا على عقب، بموت السلطان بايزيد الثاني وتولي ابنه السلطان سليم الأول سلطنة الدولة العثمانية. وقد لمع دور سليم الأول في عملياته ضد الصفويين وإدراكه للخطرالشيعي، منذ أن كان حاكما لطرابزون جراء جهود الشاه في تحويل الأناضول للمذهب الشيعي كخطوة للسيطرة على الدولة العثمانية من الداخل. مما كان سيؤدي إلى فتح الطريق أمامه لدى الإنكشاريين، وإجبار بايزيد الثاني تخليه عن عرش السلطنة له رغم كونه أصغر اخواته السلطان أحمد والأمير قورقود سنا.
قضاء سليم على الصفويين
يعتبر عهد سليم الأول البداية الحقيقية للصراع العثماني الصفوي سياسيا واقتصاديا وعقائديا. ومن أسباب ذلك أيضا خلافا لسعي الشاه في نشر المذهب الشيعي داخل حدود الدولة العثمانية، هو إيواء الإيوان الصفوي لعشرات الأمراء العثمانيين الهاربين من سليم الأول، خشية تنفيذ قانون نامة ضدهم أو تصفيتهم في صراعه الداخلي. وما أن فرغ سليم من بعض المراسم الدموية التي دأب العثمانيون على تنفيذها تأمينا لعرشه، إلا أن بدأت مساعيه في تجهيز جيشه لمحاربة الشاه والزحف نحو أزنيق وقونية وقيسارية. وعند موقع اسمه جالديران التقى الجمعان، فانهزم الصفويون وتشتتوا وحقق سليم بقواته انتصارا كبيرا. وزحف بقواته نحو العاصمة تبريز ولم يبق فيها سوى وقت قليل بعد ضغط من قادة جيشه بالمغادرة.
تلك كانت حلقة ثالثة من حلقات سلسلة بعنوان “في مسألة الغزو العثماني لمصر وللشام”.
المصادر:
– ابن اياس بدائع الزهور في وقائع الدهور، أجزاء الثالث والرابع والخامس.
– العراك بين المماليك والعثمانيين الأتراك لابن أجا.
– إنباء الغمر بأنباء العمر لابن حجر العسقلاني.
– أخرة المماليك لابن زنبل.
– در الحبب في تاريخ أعيان حلب لابن الحنبلي.
– حوادث الزمان في وفيات الشيوخ والأقران لابن الحمصي.
– مفاكهة الخلان في حوادث الزمان لابن طولون.
– مقالة نهاية سلاطين المماليك، دكتور محمد مصطفى زيادة.
– المجتمع المصري تحت حكم العثماني مايكل وينتر.
– تاريخ الدولة العثمانية، يلماز اوزتونا.
– تاريخ المماليك، محمد سهيل طقوش.
– دراسة بعنوان “التجسس في العصرين الأيوبي والمملوكي”، عبدالله عيد كمال.
– تكوين العرب الحديث، سيار الجميل.
– التحفة البهية في تملك آل عثمان الديار المصرية، محمد بن أبى السرور الصديقي البكري.
– الفتح العثماني للشام ومصر، أحمد فؤاد متولي.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :