برمجة الخلايا ورحلة الخمسين عام لنوبل في الطب
لطالما لفتت الخلايا الجذعية الأنظار لها باعتبار كونها حل قوي للكثير من الأمراض، لكن في الوقت نفسه لا يمكن استغلال الخلايا الجذعية الموجوة في الأجنة نتيجة لقضايا متعلقة بأخلاقيات مهنة الطب، وكذلك خشيةً من تفاعلات رفض الأنسجة الغريبة التي يقودها جهاز مناعة الجسم. لكن ما بين أيدينا اليوم قد يمثل حل لتلك المشاكل حيث بإعادة برمجة الخلايا الجسمية المتمايزة للشخص وتحويلها لخلايا جذعية قد يوفر علينا الكثير من العناء. هذا ما تفائل به المجتمع العلمي بعد جائزة نوبل سنة 2012 التي حازها كلاً من «جون جوردون-John Gurdon» و «شينيا ياماناكا-Shinya Yamanaka».
محتويات المقال :
أساسيات لفهم طبيعة الخلايا الجذعية
مبدأياً الخلايا الجذعية ليست نوعاً واحداً إنما هي عدة أنواع مقسمة حسب قدرتها على إنتاج أنواع مختلفة من الخلايا والأنسجة. ولفهم الخلايا الجذعية بشكلٍ جيد لابد من أن ترجع معي بالزمن للوراء قليلاً حتى نصل لبداية حياتك. في البداية كانت هناك بويضة تحتوي على 23 كروموسوم تم تخصيبها عن طريق حيوان منوي يحتوي أيضاً على 23 كروموسوم، لينتج زيجوت ويحتوي على 46 كروموسوم. يقوم الزيجوت بالانقسام لتتضاعف الخلايا في العدد في تلك المرحلة لم تكن أنت سوى مجموعة من الخلايا الجذعية. أو بالأحرى كنت مجموعة من أقوى الخلايا الجذعية وهي ما تُعرف باسم «Totipotent» دعنا نتأمل قليلاً في تلك الكلمة لغوياً فكلمة «toti» أصلها لاتيني، وهو «totus» وتعني (كل شيئ)، و«potent» تعني قوى؛ فتلك الخلية بالفعل قادرة على إعطاء كل شيء وأي شيء؛ فمنها يأتي الجنين والمشيمة والحبل السري، فهي الأساس لكل ما بعدها لذلك هي الأقوى.والآن بعد أن كون الزيجوت أعداد متضاعفة من الخلايا يتحول تركيب الجنين من كرة مصمتة من الخلايا من النوع «Totipotent» إلى كرة خلوية مجوفة تُسمى «Blastocyst-الكيسة الأريمية» في داخل تلك الكورة يوجد مجموعة من الخلايا التي تُسمى «الخلايا الداخلية-inner cell mass» نوعها يسمى «Pluripotent» وأصل الكلمة كما العادة لاتيني وهو «pluris» وتعني الأكثر. لاحظ أننا قلنا الأكثر وليس الكل؛ لأن ذلك النوع من الخلايا يعطي كل ما يخص جسم الإنسان من أنسجة فيما بعد، ولكنه لا يعطي أي شيء خارج الجسم مثل المشيمة وغيرها.
وبعدها يتوالى نمو الجنين وفي أثناء ذلك تقل قدرة الخلايا على إعطاء عدد متنوع من الأنسجة بحيث تكون أكثر تخصصاً، فيزيد بمرور الوقت الخلايا المتخصصة مثل الجلد، والعضلات ، والأعصاب ….إلخ ويندثر وجود نوعي الخلايا الجذعية المذكورين سابقاً. لكن يظل في بعض أعضاء الجسم البالغ مثل نخاع العظام وبعض الأعضاء الأخرى نوع من الخلايا الجذعية وهو «multipotent»، وكما أصاب توقعك عزيزي القارئ أصلها لاتيني ومعناها «الكثير-many»؛ لإنها تعطي أنواع محدودة من الخلايا ليست جميع الأنواع فهي أقل قدرة من السابق ذكرهم.
بهذا عرفت أهم أنواع الخلايا الجذعية والتي يركز العلم عليها؛ لقدرتها على تعويض المفقود من الأنسجة وشفاء العلل. ولطالما نظر العلم لتلك المراحل التي يتطور فيها الجنين أو بالأحرى التي تتطور فيها الخلايا الجذعية إلى خلايا متخصصة على أنها نهر ذو اتجاه يذهب ولا يعود. لكن تجرتين فارقتين في تاريخ الطب إحداهما عام 1962 والأخرى عام 2006 غيرت وجهة نظر العلم كليتاً، وجعلت من المستحيل ممكن، وعليه كانت نوبل من نصيبهما عام 2012.
إنتاج ضفدعة كاملة من خلية في الأمعاء:
قام الدكتور جون جوردون عام 1962 بتجربة في معمل علم الأجنة بأكسفورد غيرت مسار التاريخ فيما بعد. حيث قام بعزل نوى من خلايا «النسيج الطلائي-Epithelial tissue» الموجود في الأمعاء من ضفدع، وزرعها في عدد من بويضات ضفدع تم تدمير نواتها الأصلية بالإشعاع. ثم راقب نمو وتمايز الخلية بعدها ونتج عن ذلك أكتر من سينارويو:
1. لم يحدث انقسام خلوي تماماً:
كان نسبة المرات الفاشلة في بدأ أي انقسام خلوي 48%، وبعد فحص تلك الخلايا الفاشلة تحت عدسة الميكرسكوب اتضح أن السبب لم يكن في النوى المزروعة إنما كان سبب تقني في زرعهم، ولا دخل للنوى فيه. فيمكن استبعاد تلك النسبة لوجود قدرة محتملة على تفاديها عند الاعتماد على تقنيات أكثر كفاءة في الزراعة.
2. انقسامات خلوية فاشلة:
«انقسامات خلوية فاشلة-Abortive Cleavage»: كان هناك محاولات للانقسام إلا أنها باءت بالفشل وذلك نتيجة حدوث خلل في الكروموسومات، فكان ذلك الخلل مميت بعد فترة؛ حيث تكونت خلايا غير متتظمة الأشكال والأحجام والنوى. ولكن لماذا؟
من وجهة نظر الدراسة كان السبب يتمثل في الاختلاف الكبير الموجود بين الوقت الذي تستغرقة خلايا الأمعاء من النسيج الطلائي بين الانقسامات الخلوية المتتالية والذي تستغرقة الخلايا الجذعية. حسناً لإيصال الفكرة دعنا نستعرض بشكلٍ بسيط دورة حياة الخلايا. تمر كل خلية بدروة الانقسام خلوي، وبعدها تستكين فترة لا تنقسم فيها، وتُسمى تلك الفترة «الطور البيني-Interphase» وفيه تُجهز الخلية نفسها للدخول في انقسام خلوي جديد. ذلك عن طريق بعض التغيرات الكيميائية، وتضاعف المادة الوراثية استعداداً لإنتاج خليتين لهما نفس العدد من الكروموسومات، ويتم أيضاً في تلك المرحلة تصحيح الأخطاء في المادة الوراثية وذلك لتجنب حدوث أي شكلة في الانقسام، وتجنب حدوث طفرات. باختصار للحفاظ على مادة وراثية كاملة صحيحة قابلة لإنتاج خليتين متطابقتين، وعليه هو طور مهم جداً يجب أن يكتمل لنهايته. تختلف فترة ذلك الطور من نوع خلايا إلى آخر ففي خلايا النسيج الطلائي للأمعاء لابد أن يكون أطول من الزيجوت. فما يحدث أن مجموعة من النوى تم زراعتها في فترة مبكرة من هذا الطور، فتم تحفيز عملية الانقسام الخلوي بشكل مبكر قبل إتمام العمل على المادة الوراثية فأدى إلى مجوعة انقسامات فاشلة تنتهى بالموت. فعلى ما سبق يتضح أن السبب هو اختيار النوى في وقت خاطئ في الطور البيني، فيمكن أيضاً استبعاد تلك النسبة إذا توافرت طريقة أكثر فاعلية لاختيار النوى في الوقت المناسب.
3. انقسام جزئي:
ما حدث هو تكوين عدة خلايا بعضها كان طبيعي وناجح في الانقسام، والباقي لم يحالفه الحظ. مما يؤدي إلى تطور الجنين لفترة ولكن لم يكتمل ذلك التطور لتراكم الخلايا الغير طبيعية، لكن لماذا لم تكن كلها طبيعية؟ كان ذلك أصعب سؤال في الدراسة الذي كلف جوردن القيام بتجارب كثيرة، وعليه توصل في دراسته أن السبب كان قلة جودة بعض البويضات التي يتم زراعة النوى فيها، فلم تكن المشكلة في النوى نفسها بل في جودة البويضات؛ حيث أنه عند تكرار عملية الزراعة لجيل بعد جيل قد تزيد نسبة النجاح، والوصول إلى فرد كامل، لكن لم يحدث ذلك كثيراً فاستخلص أن السبب في الفشل كان تباين صفات البويضات فبعضها كان جيد قابل للاستخدام -زاد من نسبة النجاح بشكل بسيط عند إعادة زراعة النوى- والبعض لم يكن كذلك.
4. النجاح في تكوين فرد كامل:
كان نسبة النجاح في تكوين فرد كامل في مجمل التجارب 7%، وذلك عندما نجحت عملية الزراعة من الناحية التقنية مع توفر الوقت المناسب للنوى في الطور البيني وكذلك كانت البويضة مناسبة. وإذا استبعدنا النسب القابلة للاستبعاد وهما نسبتي عدم وجود انقسامات على الإطلاق أو وجود انقسامات فاشلة فستزيد نسبة النجاح من 7% إلى 24%. وبذلك أثبت جوردن أن نوى الخلايا المتمايزة تحمل كامل المادة الوراثية مثلها مثل الخلايا الجذعية في الأجنة وأنه إذا توافرت الظروف المناسبة لها قد تُنتج فرد كامل. وألقى الضوء على كون سبب تمايز تلك الخلايا هو تعطيل بعض الجينات عن العمل والسماح للبعض الآخر، مما يؤدي لممارسة وظيفة محددة، واكتساب صفات شكلية وكيميائية محددة.
لكن هل يمكن إنتاج فرد كامل من خلية متمايزة سلمية؟ هذا ما أجاب عنه «شينيا ياماناكا-Shinya Yamanaka» بعدها بأكثر من أربعين عام تحديداً عام 2006.
هل يمكننا إعادة برمجة الخلايا؟
في دراسة منشورة عام 2006 لليابني شينيا ياماناكا المولود عام 1962 أثبت أنه يمكن إذا توافرت الظروف المناسبة للخلايا المتمايزة سيكون بإمكانها التحول لخلايا جذعية من نوع «Pluripotent». وكانت تجربته قائمة على خلايا «fibroblasts-الخلايا الليفية». في البداية كانت أنظاره مع فريقه واقعه على 24 عامل مميزين للخلايا الجذعية، وعليه افترضوا أن أحد تلك العوامل أو خليط منها قد يؤدي إلى إعادة برمجة الخلايا الليفية لتتحول إلى خلايا جذعية. بالفعل بدأوا باختبارتهم بذلك الصدد. بعد عدة تجارب قائمة على التبديل بين تلك العوامل توصلوا إلى كلمة السر المكونة من 4 عوامل من أصل 24. وبالفعل أنتجوا خلايا جذعية من نوع «Pluripotent» على الرغم من كونها ليست مطابقة للموجودة في الجنين. لكن كيف تأكدوا من قدرتها على إنتاج أنواع مختلفة من الخلايا؟ قاموا بتحفيز تلك الخلايا لإنتاج نوع من الأورام يسمى «teratome- الورم المسخ» وهو ورم يتكون من أنواع مختلفة من الأنسجة فقد يحمل نسيج غضروفي، وعصبي، عضلي،…….إلخ. وقد نجحت بعض تلك الخلايا في إنتاج الورم المسخ في الفئران، مما يدل على قدرتها على التمايز لأنواع عدة من الأنسجة والخلايا.
بذلك عزيزي القارئ على مدار خمسين عام تم تغيير مفهومنا كاملاً عن الخلايا الجذعية، وتفتحت الآفاق نحو منطقة جديدة للاستكشاف والبحث. فإنتاج خلايا جذعية من خلايا جسدية لهو أمل ضخم لعلاج الكثير من الأمراض الخطيرة التي تقضي على أنسجة الجسم، فبتلك التقنية قد يتوفرالعلاج الآمن السهل.
مصادر (برمجة الخلايا ورحلة الخمسين عام لنوبل في الطب):
أقرأ المزيد:
علاج السرطان بالمناعة، من الحُلم إلى نوبل في الطب
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :