Ad

قد يبدو الشعور بالتمزق بشأن قضية سياسية بمثابة وصفة للتردد والتقاعس عن العمل. لكن دراسة جديدة تكشف عن رابط مفاجئ بين التناقض والتطرف، فالتناقض (الازدواجية) يمكن أن يدفع بعض الناس، وخاصة أولئك الذين لديهم وجهات نظر شديدة الاستقطاب، إلى دعم الأعمال المتطرفة، مثل العنف. الباحثون الذين أجروا هذه الدراسة، بقيادة جوزيف سييف، زميل ما بعد الدكتوراه في سلوك المستهلك في جامعة فيرجينيا، وريتشارد بيتي، أستاذ علم النفس في جامعة ولاية أوهايو، بحثوا في الجذور النفسية لهذه الظاهرة. نُشرت النتائج التي توصلوا إليها في 12 يونيو 2024 في مجلة (Science Advances)، وسلطت الضوء على العلاقة المعقدة بين التناقض والاستقطاب السياسي والتطرف.
أظهرت نتائج الدراسة المذهلة أن الأشخاص الذين لديهم معتقدات راسخة ومتضاربة حول قضية ما هم أكثر عرضة لدعم الإجراءات المتطرفة للإشارة إلى قوتهم وقناعتهم. يثير هذا الرابط المفاجئ بين التناقض والتطرف تساؤلات حاسمة حول العوامل النفسية التي تدفع الناس إلى السلوكيات المتطرفة.

الجذور النفسية للاستقطاب السياسي

هل تساءلت يومًا لماذا يحمل بعض الأشخاص آراء سياسية متطرفة، وغالبًا ما تكون بيقين لا يتزعزع؟ وكأنهم مقتنعون تماماً بموقفهم، ولا مجال للشك أو التنازل. تُعرف هذه الظاهرة باسم الاستقطاب السياسي (Political polarization)، وهي أصبحت منتشرة بشكل متزايد في مجتمع اليوم. ولكن ما الذي يدفع الناس إلى تبني مثل هذه الآراء الصارمة والمتشددة؟

أحد العوامل الرئيسية هو الطريقة التي تعالج بها أدمغتنا المعلومات. عندما نتعرض لرسائل سياسية، تقوم أدمغتنا تلقائيًا بتصنيفها إلى إما “جيدة” أو “سيئة”، أو “صحيحة” أو “خاطئة”. ويمكن أن يؤدي هذا التفكير الثنائي إلى الإفراط في التبسيط، مما يجعل من الصعب علينا التفكير في وجهات نظر أو فروق دقيقة بديلة.

تلعب عواطفنا دورًا مهمًا في تشكيل معتقداتنا السياسية. فعندما نشعر بقوة تجاه قضية ما، فإن استجابتنا العاطفية يمكن أن تتجاوز التفكير العقلاني، مما يجعلنا أكثر عرضة لتبني وجهات النظر المتطرفة. ويمكن أن يؤدي هذا الاستثمار العاطفي أيضًا إلى الشعور بالهوية الجماعية، حيث ننحاز إلى الأفراد ذوي التفكير المماثل ونبعد أنفسنا عن أولئك الذين يختلفون معهم.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن للتأثير الاجتماعي والانحياز التأكيدي (Confirmation bias) أن يعزز معتقداتنا الحالية، مما يجعلنا أقل عرضة للتفكير في وجهات نظر متعارضة. يمكن لهذه العوامل النفسية أن تساهم في تطوير وجهات نظر سياسية متطرفة، والتي، كما رأينا، يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى التناقض.

تاريخ موجز للتناقض في المعتقدات السياسية

إن مفهوم التناقض في المعتقدات السياسية ليس جديدًا. في الخمسينيات من القرن الماضي، قدم عالما النفس ليون فيستنجر ودانيال كاتز فكرة التنافر المعرفي (Cognitive dissonance)، والتي تشير إلى الانزعاج الذي يشعر به الناس عندما تتعارض معتقداتهم وأفعالهم. ويمكن أن يؤدي هذا الانزعاج إلى تغييرات في السلوك أو المواقف لتقليل التنافر. ومع ذلك، اكتسبت الأبحاث حول التناقض في المعتقدات السياسية زخمًا في السبعينيات والثمانينيات، مع دراسات تستكشف كيفية تأثير المواقف المتضاربة على صنع القرار السياسي.

وجدت إحدى الدراسات المؤثرة التي نشرت في عام 1980 أن الأشخاص الذين لديهم مواقف متناقضة تجاه مرشح سياسي كانوا أقل عرضة للتصويت لهذا المرشح. يبدو أن هذه النتيجة تشير إلى أن التناقض يؤدي إلى التردد والتقاعس عن العمل. ومع ذلك، فقد طعنت الأبحاث الحديثة في هذا الافتراض، وكشفت أن التناقض يمكن في الواقع أن يغذي التطرف لدى بعض الأفراد.

الرابط بين التناقض والتطرف

العلم وراء تعويض الضعف بالسلوك المتطرف

عندما نحمل وجهات نظر قوية ومستقطبة حول قضية ما، ولكننا نشعر في الوقت نفسه بالتضارب بشأن تلك المعتقدات، يمكن أن تشعر عقولنا بعدم الراحة. ينبع هذا الانزعاج من الشعور بالضعف أو عدم الأمان الذي يخلقه تناقضنا. للتعويض عن هذا الضعف الملحوظ، قد تسعى أدمغتنا إلى إثبات قوتنا من خلال دعم الإجراءات الأكثر تطرفًا. فكر في الأمر وكأنه محاولة لتحقيق التوازن بين قوتين متعارضتين داخل نفسك.

هذا السلوك التعويضي متجذر في رغبتنا في تأكيد الذات. عندما نشعر بعدم اليقين بشأن معتقداتنا، قد نحاول إثبات قناعاتنا من خلال اتخاذ إجراءات، حتى لو كان هذا الإجراء متطرفًا. وتذكرنا هذه الظاهرة باحترام الذات الهش، حيث قد يشعر الأفراد بالحاجة إلى إثبات قيمتهم باستمرار.

ويكشف التناقض عن ديناميكية نفسية معقدة، حيث يمكن للحاجة إلى إثبات قوة المرء وقناعته أن تطغى على التصرفات المعتدلة، مما يؤدي إلى سلوك متطرف. ولهذه النتيجة آثار مهمة على فهمنا للتطرف السياسي، مما يسلط الضوء على أهمية معالجة الجذور النفسية للتطرف.

ووجد الباحثون أن الأشخاص ذوي وجهات النظر المتطرفة الذين يشعرون بالتضارب بشأن معتقداتهم هم أكثر عرضة لدعم الإجراءات المتطرفة، مثل طرد المعارضين من وظائفهم أو تقديم الدعم المالي للمنظمات المتطرفة. ولا يقتصر هذا التأثير المتناقض على قضية واحدة محددة، حيث أظهرت الدراسة نتائج مماثلة عبر مواضيع سياسية مختلفة، بما في ذلك الإجهاض وفرض ارتداء أقنعة كوفيد-19.

عواقب في الحياة الواقعية

إن اكتشاف رابط بين التناقض والتطرف له آثار بعيدة المدى على حياتنا اليومية. وفي عصر يتسم بتزايد الاستقطاب السياسي، يشكل فهم العوامل النفسية التي تدفع التطرف أهمية بالغة. ويمكن أن يكون للتطرف عواقب على أرض الواقع، مثل توفير الدعم المالي للجماعات التي تروج للأيديولوجيات المثيرة للانقسام.

لنقل أنك متناقض بشأن موقفك من حماية البيئة، وتشعر بالتمزق بين شغفك بالقضية وشكوكك حول الأساليب التي تستخدمها مجموعات معينة. قد تكون أكثر عرضة للتبرع لمنظمة تشجع التخريب والعصيان للدفاع عن البيئة، بدلا من دعم مجموعة أكثر اعتدالا. يمكن أن يكون لهذه الظاهرة تأثير كبير على الطريقة التي نتفاعل بها مع المنظمات السياسية، وفي نهاية المطاف، على اتجاه مجتمعنا.

وبينما نتنقل عبر تعقيدات الخطاب السياسي، من الضروري أن ندرك الآليات النفسية الدقيقة التي يمكن أن تدفعنا نحو التطرف. ومن خلال فهم العواقب المترتبة على التناقض في الحياة الواقعية، يمكننا تطوير استراتيجيات لتعزيز التفكير النقدي والتعاطف والاعتدال. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا إنشاء مجتمع أكثر شمولا وتسامحا، حيث يتم تقدير واحترام وجهات النظر المتنوعة.

المصادر:

Study suggests ambivalence and polarized views can promote political violence / phys.org

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


منطق علم نفس

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 356
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *