في أعماق أروقة التاريخ وعلى أرض الشرق الأوسط، تتجسد مملكة الرُها القديمة كرمز للثراء الثقافي والتاريخي. إذ إنها أحدى الحضارات القديمة التي تنسجم ببهائها وتعمقها مع خيوط الزمن. حيث تتلاقى الأساطير والحقائق في سرد ملحمي يروي قصة هذه البقعة الفريدة.
محتويات المقال :
موقع مملكة الرُها
تقع مملكة الرُها في منطقة الجزيرة الفراتية. وتحديداً في الجزء الشمالي من سوريا بين نهري دجلة والفرات(جنوب شرق تركيا حالياً). تأسست هذه المملكة في مدينة الرُها عام (132 ق.م _ 244 م).
وقد سميت بعدة اسماء منها (اسروينا، أورهي، أدما، اديسا، عربايا). لأن سكانها من العرب الآراميين وكانت نسبة من سكانها من اليهود. وهذا ما كان يميزها عن باقي المدن. ويذكر إنها أولى الممالك التي اعتنقت الديانة المسيحية؛ ولهذا لقبت باسم المدينة المقدسة.
تاريخ مملكة الرُها
كانت مملكة الرُها مستوطنة قديمة، تم اختيارها لموقعها المفيد على سهل خصب مع مياه وفيرة من فرع قريب من نهر الفرات، بينما كانت محمية أيضاً بحلقة من التلال إلى الجنوب.
كان الموقع مركزاً لعبادة إله القمر. حيث قام سلوقس الأول، أحد قادة الإسكندر الأكبر المقدونيين الذين أسسوا الإمبراطورية السلوقية. بتأسيس المدينة كمستوطنة عسكرية في عام 304 قبل الميلاد. وأعطاها سلوقس الاسم الجديد للرها (إديسا)، بعد الاسم الأصلي للعاصمة القديمة لمقدونيا.
في القرن 2 قبل الميلاد، أصبحت العاصمة والمقر الملكي لمملكة الرُها. بالإضافة إلى أنَّ سكان الرُها كانوا مزيجاً من اليونانيين والبارثيين والآراميين الساميين. على الرغم من أن المملكة كانت في الواقع، دولة تابعة لبارثيا، إلا أنها أثبتت أنها منطقة عازلة مفيدة بين تلك الإمبراطورية والإمبراطورية الرومانية الناشئة.
حكام مملكة الرُها
حكمت الرها أسرة ذات أصول عربية وهي الأسرة الأبجرية. وسميت كذلك؛ نسبة لتكرار اسم ابجر او أبكر بين حكامها. ومعنى (ابجر) في اللغة الأرامية (أعرج). ومعناها باللغة العربية (صاحب الكرش). وكان عدد الحكام الذين توالوا على عرش مملكة الرُها ٣٠ ملكاً. وسنبرز منهم أهم الحكام:
أول ملك محلي استولى على عرش مملكة الرُها كان (اريو). ثم خلفه على حكم المملكة الملك (عبدو بن زرعو). الذي خلفه (أبراداشت) ، وخلفه (بكرو الأول) في سنة 94 ق.م شاركه في الحكم (معنو) وذلك لمدة أربعة أشهر. ثم شاركه في الحكم (أبجر بيقا) الذي قتل الملك (بكرو الثاني) في سنة 92 ق.م واستولى على عرش المملكة. وبعد ذلك خلفه أبجر الخامس أوكاما (الأسود) الذي كان من أهم الملوك المؤثرين في تاريخ المدينة، خصوصاً على صعيد الأسبقية الدينية المسيحية عبر مراسلاته الشهيرة مع المسيح و تلاميذه، وعبر دعوتهم مراراً إلى المدينة لإضفاء البركة عليها.
في السنة العاشرة لمملكته حدثت فتنة في أورهاي نفي على أثرها الملك أبجر أوكاما. و حكم عوضاً عنه أخوه (معنو الرابع). وأخيراً كان (أبجر الحادي عشر أبراهاط) سنة 242م، لم يستمر حكمه سوى سنتين، ومع نهاية حكم (أبجر الحادي عشر)، انتهت مملكة الرُها سياسياً.
الأوضاع الاقتصادية
شكلت الزراعة المصدر الأول للإقتصاد في الرُها، وعماد ثروة البلاد، ويشرف على الأراضي الزراعية الواقعة حول المدينة موظف يدعى (والي العرب). يقوم بجباية الضرائب من السكان ويحمي المزارعين من تعديات البدو والاعراب.
كما تركزت الزراعة في الأرياف والقرى وأهمها: زراعة الكروم والحبوب والخضار، ولم تكن حياة الفلاحين مرفهة وكثيراً ما كانوا يعجزون عن دفع الضريبة المتوجبة عليهم. كما شغل الصّناع مكانة متميزة في مملكة الرُها فقد أدّت التجارة دوراً مهماً في تعزيز مكانة مملكة الرُها وإنماء ثروتها.
فقد كان معظم التجار من المحليين والسلعة الرئيسة فيها الحرير. غير أن الحركة التجارية تراجعت بعد تحول طرق التجارة إلى البحر الأحمر ثم تدهورت بعد أن عمد الرومان إلى تربية دودة الحرير وإنتاج هذه السلعة ما أثّر ذلك على أوضاع التجار فترك قسم كبير منهم حرفتهم وانضموا إلى الحرس الملكي.
الديانة واللغة
اعتنق أهل مملكة الرها في بداية حياتهم، الوثنية كما انتشرت في بلاد الرافدين، وتقوم على عبادة الكواكب وبعض مظاهر الطبيعة. وتسمى الناس باسمائها وشيدوا لها الاصنام والمعابد وقدموا لها الاضاحي. نذكر أهم الهتهم: الشمس وسموها بعل عجلول، والقمر وأطلقوا عليه اسم سين ورسموه على نقودهم وتيجان ملوكهم. بالاضافة إلى بعلشمين وهو كبير الالهة.
واعتنقت فيما بعد الديانة المسيحية في العصر البيزنطي، فقد كان الأدب السرياني المسيحي الذي تشكل منذ اللحظات الأولى لوجود المسيحية، ترسخ مع الزمن، ليصبح جزءاً من تاريخ المدينة السريانية، التي قامت بتصديره إلى العالم المسيحي في الخارج، لتتأثر بها المناطق القريبة كأرمينيا بداية وروسيا في وقت متأخر.
وصلت شهرة المدينة في ذلك العصر إلى أقاصي أديرة وكهوف الرهبان في الغرب الأوربي. تربعت المدينة في العهد البيزنطي على قائمة المدن في الأهمية بالنسبة للدين المسيحي، عبر تقليدها العريق في الأدبيات الدينية. ويبدأ التقليد المسيحي الرهاوي بنقاش فكرة دخول المسيحية إلى بلاد ما بين النهرين وإلى الرها على الأخص.
إن التقليد في كنيسة مملكة الرها وما بين النهرين عموماً؛ يؤكد أن الرسل الذين بشروا في هذه المنطقة هم أربعة: توما الرسول؛ حواري المسيح، ثم التلميذ أدي من السبعين الذين اختصهم المسيح للكرازة. ترسخ هذا التقليد في كتب تاريخ مدينة الرها مع بدايات القرن الثالث الميلادي، ليزداد رسوخاً خلال القرون اللاحقة.
بعض المؤرخين يرجح أن يكون للمجوس الذين زاروا القدس، لرؤية المسيح، دور في نشر الدين في منطقة ما بين النهرين في القرن الأول الميلادي، بعد عودتهم إلى بلادهم. كما كانت لغة المملكة الرسمية هي اللغة السريانية والتي تسمى “لغة الرها” حيث أن هذه اللغة نشأت وانتشرت من هذه المدينة، وفي هذه المدينة استحدث الخط الأسطرنجيلي من الخط التدمري. والذي هو بدوره مستحدث من الآرامي والمسند اليمني.
البقايا الاثرية في الرها
شهدت بقايا أثرية قليلة ثمينة من تاريخ مملكة الرها الطويل والحافل بالأحداث لا تزال مرئية اليوم. ولعلَّ أكثر ما يلفت الانتباه هو عمودين، يبلغ ارتفاع كل منهما حوالي 18.2 متر (60 قدما)، يقفان على قلعة المدينة. كانت الأعمدة تعلوها ذات مرة تماثيل الملك أبجر الثامن وملكته ولكنها تعود إلى القرنين 3 و 4 الميلاديين كما هو موضح في نقش سرياني على إحدى القواعد.
تنتمي إلى تاريخ مماثل بقايا بركتين كبيرتين من الأسماك، كانتا تستخدمان في السابق للحفاظ على سمك الشبوط (الكارب) لاستخدامات دينية لآلهة الخصوبة. وهناك بعض الأجزاء من جدران التحصين في المدينة لا تزال في الموقع والعديد من المقابر والفسيفساء من أواخر العصور القديمة وأوائل العصور الوسطى في الرها. غالبية هذه الفسيفساء تعود للطبقات العليا الغنية، وغالباً ما تُظهر مشاهد من الحياة اليومية أو تمثيلات لشاغلي القبر وأسرهم.
أيقونة منديل الرها
وفقاً للأسطورة التي تم تسجيلها لأول مرة في القرن ال 6 الميلادي، أصبح (أبغار الخامس)، ملك الرها في أوائل القرن الأول الميلادي، مريضاً بشكل خطير ودعا يسوع المسيح لعلاجه. كان غير قادر على الزيارة شخصياً، ضغط المسيح على وجهه على قطعة قماش، مما ترك انطباعاً، ثُم أرسل قطعة القماش إلى أبغار. عند تلقي الهدية، تم شفاء الملك بأعجوبة وأصبح مسيحياً. والأهم من ذلك، كان يرافق المنديل رسالة، تعتبر في حد ذاتها أثراً مُقدساً، تنُصُّ على أنه طالما كانت المدينة في حوزتها المنديل، فلن يتم الاستيلاء عليها أبداً من قبل جيش العدو.
يبدو أن قصة المنديل استندت إلى التحول الفعلي إلى المسيحية لملك لاحق يحمل نفس الاسم، أبغار التاسع. مهما كانت أصول القصة، فإن الحقيقة المهمة هي أن شعب الرها، إلى جانب العديد من الآخرين في العالم المسيحي، اعتقدوا أنها صحيحة.
علاوةً على ذلك، تم نسخ الصورة الموجودة على أيقونة المعجزة، والتي ربما تكون أول الآثار المقدسة من نوعها، في العديد من اللوحات الجدارية والقباب في الكنائس حول العالم المسيحي حيث أصبح التمثيل القياسي المعروف باسم “المسيح ضابط الكُل” مع وجه المسيح الأمامي الكامل يحمل كتاب الإنجيل في يده اليسرى ويؤدي بركة بيمينه. ستلهم الصورة أيضا تصميم عملات الإمبراطورية البيزنطية. كان للمانديليون تأثيرات أخرى أيضا، حيث تم الاستشهاد بالأيقونة بشكل متكرر في الحجج اللاهوتية لتجسد المسيح كرجل حقيقي خلال العصور الوسطى.
الحملة الصليبة الثانية وانهيار مملكة الرها
دعا البابا أوجينيوس الثالث الذي حكم (1145-1153 م) رسمياً إلى شن حملة صليبية، ما يعرف الآن باسم الحملة الصليبية الثانية. الذي قاد الحملة الصليبية الملك الألماني كونراد الثالث ولويس السابع ملك فرنسا.
كما تم نهب المدينة مرة اخرى احتفاءً بقوة نور الدين زنكي الجديدة. وتم ذبح جميع المواطنين الذكور المسيحيين في المدينة، وتم بيع النساء والأطفال في العبودية، تماما كما حصل مع زملاؤهم الغربيون قبل عامين. لضمان عدم إمكانية استخدام الرها مرة أخرى من قبل العدو. وتم تدمير تحصيناتها بشكل منهجي.
المراجع:
1. Worldhistory
2. Britannica
3. Newadvent.org
4. Abouthistory
5. Historyfiled
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :