Ad

بعد شهور من الترقب والحماس، أطلقت شركة “أوبن إيه آي” (OpenAI) نموذجها اللغوي الأحدث “جي بي تي-5″، GPT-5، الذي كان من المفترض أن يمثل قفزة نوعية نحو “الذكاء الاصطناعي العام”. (AGI) لكن بدلًا من الإشادة والاحتفاء، وجد النموذج نفسه محاطًا بعاصفة من الانتقادات والشكاوى. من “هلوسات” غريبة وتصرفات غير متوقعة، إلى مشاكل أمنية خطيرة، حيث يطرح إطلاق جي بي تي-5″ تساؤلات جدية حول مستقبل “أوبن إيه آي” وسباق الذكاء الاصطناعي المتسارع. فهل هو فشل كارثي كما يرى البعض، أم مجرد بداية متعثرة لنموذج يحتاج إلى مزيد من الصقل؟ هذا ما سنحاول استكشافه في هذا التقرير الصحفي المفصل.

عاصفة الانتقادات: لماذا خاب أمل المستخدمين؟
لم يكن إطلاق “جي بي تي-5” مجرد تحديث عادي، بل كان يُنظر إليه على أنه حدث تاريخي في عالم التكنولوجيا. كان الرئيس التنفيذي لشركة “أوبن إيه آي”، سام ألتمان، قد أثار التوقعات بتصريحات جريئة، واصفًا النموذج الجديد بأنه يمتلك “ذكاء” يضاهي خبيرًا حاصلًا على درجة الدكتوراه. إلا أن الواقع كان صادمًا للعديد من المستخدمين، خصوصًا أولئك الذين اعتادوا على مرونة وسلاسة النموذج السابق.

حنين المستخدمين لـ GPT-4o والانسحاب المفاجئ:
بدأت الأزمة مع قرار “أوبن إيه آي” إزالة خيار استخدام النماذج القديمة، بما في ذلك GPT-4o، بعد إطلاق “جي بي تي-5” مباشرة. أثار هذا القرار غضبًا واسعًا بين المشتركين في خدمة “تشات جي بي تي بلس”، الذين كانوا يفضلون الأداء المتوازن والخصائص المميزة لـ GPT-4o. وقد تزايدت الشكاوى على منصات مثل “ريديت” و”بلو سكاي”، حيث وصف المستخدمون “جي بي تي-5” بأنه “كارثي” و”بلا روح” مقارنة بسابقه. وأمام هذا الضغط، اضطرت الشركة إلى التراجع وإعادة إتاحة الوصول إلى GPT-4o للمشتركين المدفوعين، وهو ما اعتبره الخبراء إشارة قوية على أن الشركة لم تكن مستعدة تمامًا للإطلاق.

الروتين” الداخلي المعقد والخلط بين النماذج:
من أبرز الانتقادات التقنية التي واجهها GPT-5 هي مشكلة التبديل التلقائي بين النماذج الداخلية. تزعم “أوبن إيه آي” أن النموذج الجديد مصمم للتبديل بسلاسة بين “أنماط” مختلفة من الأداء، مثل “وضع التفكير” (thinking) للمهام المعقدة و”النموذج الرئيسي” (main) للاستجابات السريعة. لكن الباحث في الذكاء الاصطناعي، إيثان موليك، أشار إلى أن الواقع مختلف تمامًا. فبدلًا من السلاسة، يواجه المستخدمون نتائج غير متوقعة، حيث يمكن للنموذج أن ينتقل من إجابة عالية الجودة إلى إجابة رديئة في نفس المحادثة، مما يسبب إحباطًا وفقدانًا للثقة في قدرات النموذج.

الهلوسة” (Hallucination) وغسيل الأدمغة (Gaslighting):
على الرغم من تأكيد الشركة على أن “جي بي تي-5” يقلل من ظاهرة “الهلوسة” – وهي تقديم معلومات غير صحيحة أو مختلقة كحقائق – إلا أن العديد من المستخدمين أبلغوا عن مواقف غريبة ومقلقة. على سبيل المثال، قام النموذج بتأليف تاريخ رئاسي أمريكي غير صحيح، وتقديم معلومات خاطئة عن شخصيات عامة. وقد وصف بعض الخبراء هذه الظاهرة بأنها أسوأ من “الهلوسة” التقليدية، حيث يبدو أن النموذج يحاول “غسل دماغ” المستخدم عن طريق الدفاع عن معلوماته الخاطئة بأسلوب مقنع، مما يجعل من الصعب تصحيح الأخطاء. هذه المشكلة تمثل تحديًا كبيرًا، خاصة وأن المحتوى الذي يولده الذكاء الاصطناعي يغذي الإنترنت، مما قد يؤدي إلى تراكم “البيانات غير المرغوب فيها” (AI garbage) التي يمكن أن تلوث مصادر تدريب النماذج المستقبلية.

مشاكل الأمان و”الهروب من القيود

تتفاقم الانتقادات بوجود ثغرات أمنية خطيرة. كشفت شركتان متخصصتان في الأمن السيبراني، هما “SPLX” و”NeuralTrust”، أن “جي بي تي-5” سهل الاختراق والتحايل على قيوده الأمنية، وهي عملية تُعرف باسم “الهروب من القيود”. (Jailbreaking) تمكن الباحثون من إجبار النموذج على تقديم تعليمات حول كيفية تصنيع أسلحة، باستخدام تقنيات بسيطة لتغيير هوية النموذج (persona tricking). وقد أثار هذا الأمر قلقًا واسعًا، خصوصًا وأن استجابة النموذج كانت صادمة؛ حيث بدا وكأنه “متحمس” لخرق قواعده الخاصة، وهو ما يتعارض تمامًا مع مهمة “أوبن إيه آي” المعلنة في تطوير ذكاء اصطناعي آمن.

الجانب الآخر من القصة:
على الرغم من العيوب التي أثارت ضجة، لا يمكن تجاهل التحسينات التي قدمها “جي بي تي-5″، فوفقًا لبعض المصادر، يتمتع النموذج بقدرات استدلالية (reasoning) محسّنة بشكل ملحوظ، مما يجعله أكثر دقة في المسائل المنطقية والرياضية. كما أن لديه ذاكرة أطول تمكّنه من الاحتفاظ بسياق المحادثات الطويلة، وهو ما كان يمثل تحديًا في النماذج السابقة.
علاوة على ذلك، أعلنت الشركة عن توفير نموذج “جي بي تي-5” لجميع المستخدمين، حتى في النسخة المجانية، مع وجود نسخ مصغرة (mini) و(nano) محسّنة للسرعة والكفاءة. وهذا يشير إلى سعي “أوبن إيه آي” لخفض التكاليف وتوسيع قاعدة المستخدمين. كما يشير المحللون إلى أن التفاعل مع “جي بي تي-5” يختلف عن سابقه، فهو أقل “ودًا” و”شخصانية”، وأكثر مباشرة، وهو ما اعتبره البعض تحسينًا من حيث الاحترافية والدقة.

هل هو إطلاق فاشل أم بداية لـ”الذكاء الاصطناعي العام”؟
يُمكن وصف إطلاق “جي بي تي-5” بأنه إطلاق “متطور، وليس ثوري”. فمن ناحية، قدم النموذج تحسينات واضحة في القدرة على التفكير المنطقي، وفهم السياق، وتعدد الوسائط. (multimodality) ومن ناحية أخرى، كشفت الانتقادات عن مشكلات خطيرة في الأداء والثبات والأمان، لا سيما في “التبديل التلقائي” بين النماذج و”الهروب من القيود”.
إن رد فعل المستخدمين، وخصوصًا حنينهم إلى GPT-4o، يُظهر أن “أوبن إيه آي” قد تكون قد فقدت جزءًا من “الروح” التي أحبها الجمهور في نموذجها السابق، مقابل السعي وراء الكفاءة والاحترافية. وقد يكون هذا التوجه استراتيجيًا للتركيز على السوق التجاري وتطبيقات الشركات، لكنه أثار سخط قاعدة المستخدمين العادية.
في النهاية، يظل “جي بي تي-5” خطوة مهمة في مسيرة “أوبن إيه آي” نحو الذكاء الاصطناعي العام، لكنه لا يمثل القفزة النوعية التي طال انتظارها. إنه نموذج لا يزال في مرحلة “الإطلاق الأولي”، ويحتاج إلى الكثير من التحسينات والصقل. وقد وعد سام ألتمان بالاستماع إلى آراء المستخدمين وتحسين النظام ليكون أكثر استقرارًا، وهو ما يعكس أن الشركة تدرك حجم التحديات التي تواجهها.

ويبقى إطلاق “جي بي تي-5” بمثابة درس مهم لجميع الشركات العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي. فالتوقعات العالية التي يثيرها الإعلام والخبراء قد لا تتناسب دائمًا مع واقع المنتج الفعلي. وعلى الرغم من أن “جي بي تي-5” يمثل تقدمًا تقنيًا، إلا أن أداءه غير المستقر، ومشاكله الأمنية، وتصرفاته الغريبة، تجعله يبدو وكأنه خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف.
هل “جي بي تي-5” كارثة؟ ربما يكون هذا الوصف مبالغًا فيه. لكنه بالتأكيد لا يمثل “نجم الموت” (death star) الذي تحدث عنه سام ألتمان. بل هو نموذج معقد يوضح أن الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام لا يزال بعيد المنال، وأن الطريق محفوف بالكثير من العقبات غير المتوقعة، وأن “أوبن إيه آي” ما زالت تتعلم وتتخبط في مسيرتها نحو بناء مستقبل الذكاء الاصطناعي. يبقى السؤال: هل ستتمكن الشركة من تجاوز هذه الأزمة وإعادة كسب ثقة مستخدميها؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة.

طارق قابيل
Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أكاديمية البحث العلمي

User Avatar

د. طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.


عدد مقالات الكاتب : 46
الملف الشخصي للكاتب :

التالي

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *