Ad

في عالم البحث العلمي، حيث تُبنى المسيرة المهنية للعلماء على أساس الأصالة والدقة العلمية والاعتراف من الأقران، ظهر اسم جديد ليقلب الموازين ويثير تساؤلات عميقة حول آليات التقييم والموثوقية. هذا الاسم ليس لأستاذٍ جامعي مخضرم أو باحثٍ مرموق، بل لقطٍ أليف يُدعى “لاري ريتشاردسون“. ففي “تمرين على العبثية” قاده عالِم الأحياء الحاسوبية ريس ريتشاردسون (Reese Richardson) بمساعدة الخبير في سوء السلوك العلمي نِك وايز (Nick Wise)، تمكّن هذا القط من تحقيق إنجازٍ مذهل: أكثر من 130 استشهادًا (Citations) بحثيًا في غضون أربع سنوات فقط، مما جعله “نجمًا” علميًا صاعدًا في مجال البحث. لكن الحقيقة الصادمة هي أن الأوراق البحثية التي تحمل اسم لاري لم تكن سوى نصوصٍ هزلية لا معنى لها، تم إنشاؤها آليًا عبر برامج متخصصة، وقد كشفت هذه القصة الغريبة عن ثغراتٍ خطيرة في عالم النشر الأكاديمي وكيف يمكن التلاعب بمؤشرات الأداء العلمي بسهولة.

هذه القصة لا تقتصر على كونها حكاية طريفة لقطٍ “عالِم”، بل هي دعوة صريحة لإعادة النظر في الأنظمة التي نعتمدها لقياس الإنجاز العلمي، وفي ثقافة “النشر أو الفناء” (Publish or Perish) التي تفرض على الباحثين سباقًا محتومًا لإنتاج الأبحاث، بغض النظر عن جودتها. يسعى هذا التقرير الصحفي إلى التعمق في هذه الظاهرة، من خلال استعراض قصة لاري ريتشاردسون وتفاصيل تجربته، مرورًا بتحليل الأسباب التي أدت إلى انتشار هذا النوع من الاحتيال العلمي، وصولًا إلى مناقشة التأثيرات المدمرة لهذه الممارسات على مصداقية العلم وثقة الجمهور به، لا سيما في المجالات الحساسة كالصحة العامة، واستعراض الحلول المقترحة لمواجهة هذه الأزمة.


رحلة “لاري” في دهاليز النشر العلمي

1. ولادة “نجم” أكاديمي من العدم

بدأت قصة لاري ريتشاردسون في لحظة إلهام، عندما لفتت انتباه ريس ريتشاردسون إعلاناتٌ على موقع “فيسبوك” تروّج لخدمات “زيادة الاستشهادات والمؤشر (h-index) الخاص بك على غوغل سكولر”. هذه الإعلانات كشفت عن وجود سوقٍ خفي لتضخيم السمعة الأكاديمية بشكل مصطنع. قرر ريتشاردسون وزميله نِك وايز اختبار مدى سهولة التلاعب بهذا النظام، فاختاروا “لاري”، قطة جدة ريتشاردسون، لتكون بطلة تجربتهم.

  • إنشاء الهوية الأكاديمية: تم إنشاء حساب على شبكة “ResearchGate”، وهي منصة تواصل اجتماعي للباحثين، باسم “لاري ريتشاردسون”، ووُصف بأنه باحث في الرياضيات في مرحلة مبكرة من حياته المهنية.
  • توليد الأوراق البحثية: قام الثنائي باستخدام برامج توليد النصوص الآلية مثل “Mathgen”، التي تنتج مقالاتٍ رياضية زائفة تحتوي على كلمات ومصطلحات تقنية ولكنها تفتقر لأي مضمون علمي حقيقي، ثم رفعوا 12 ورقة بحثية على حساب لاري كونه المؤلف الوحيد لها.
  • التلاعب بالاستشهاد: لضمان حصول لاري على الاستشهادات المطلوبة، قام ريتشاردسون ووايز بإنشاء 12 ورقة بحثية أخرى بأسماء مؤلفين وهميين، وقاموا فيها بالإشارة إلى أوراق لاري البحثية كـ “مصادر” (References). ولأن منصة “ResearchGate” تسمح للمؤلفين فقط بنشر أوراقهم الخاصة، فقد تم إدراج لاري كمؤلفٍ مشارك في هذه الأوراق الزائفة أيضًا.

بعد وقتٍ قصير، قام محرك البحث “غوغل سكولر” (Google Scholar)، الذي يقوم بفهرسة الأبحاث المتاحة على شبكة الإنترنت، بالتقاط هذه الأوراق والاستشهادات المتبادلة، مما منح لاري ريتشاردسون مؤشرًا علميًا (h-index) يصل إلى 11 و132 استشهادًا بحثيًا، متجاوزًا بذلك الرقم القياسي السابق لقطٍ آخر “أكاديمي” كان يُدعى “إف دي سي ويلارد” (F. D. C. Willard)، وهو قط عالم الفيزياء جاك هيثرينغتون، الذي شارك في تأليف ورقة بحثية عام 1975 وحصل على 107 استشهادات.

2. المشكلة الكبرى: “غابة” المجلات المفترسة و”ثقافة النشر أو الفناء”

قصة لاري ريتشاردسون ليست مجرد حالة فريدة من الاحتيال، بل هي عرضٌ لمرضٍ أعمق في المنظومة الأكاديمية العالمية. يعود هذا المرض إلى عاملين رئيسيين:

  • ثقافة “النشر أو الفناء”: يواجه الباحثون، وخاصةً الشباب منهم، ضغطًا هائلاً لنشر أكبر عدد ممكن من الأوراق البحثية من أجل الحصول على الترقية الأكاديمية، أو التمويل، أو حتى الاستمرار في وظائفهم. هذا الضغط يدفع البعض إلى السعي نحو الكمّ على حساب الكيف، مما يجعلهم فريسة سهلة للمجلات والمنصات غير الموثوقة.
  • ظاهرة المجلات المفترسة (Predatory Journals): ظهرت هذه المجلات كاستغلالٍ مباشر لثقافة “النشر أو الفناء”. هي مجلاتٌ وهمية أو شبه وهمية، لا تلتزم بمعايير المراجعة العلمية الرصينة (Peer-review)، وتهدف بشكل أساسي إلى جني الأرباح من خلال فرض رسوم نشر عالية على الباحثين. وتعتبر هذه المجلات بمثابة “طريق مختصر” للباحثين الذين يسعون لزيادة عدد منشوراتهم بسرعة.
  • التلاعب بمؤشرات الأداء: تعتمد المنظومة الأكاديمية بشكل كبير على مؤشرات مثل “عدد الاستشهادات” و”المؤشر العلمي (h-index)” لتقييم جودة الباحث. وكما أثبتت تجربة لاري ريتشاردسون، فإن هذه المؤشرات يمكن التلاعب بها بسهولة، خاصةً على المنصات الأقل رقابة مثل “غوغل سكولر” و”ResearchGate”، التي لا تخضع لنفس معايير الفهرسة الصارمة التي تتبعها قواعد البيانات الكبرى مثل “سكوبس” (Scopus) و”ويب أوف ساينس” (Web of Science).

3. التأثيرات المدمرة للاحتيال العلمي على الصحة العامة

على الرغم من أن قصة لاري ريتشاردسون كانت تهدف إلى إظهار مدى سهولة التلاعب بالمؤشرات الأكاديمية، فإن هذه الظاهرة لها عواقب وخيمة تتجاوز مجرد سمعة الباحثين. ففي المجالات التطبيقية، مثل الطب والصحة العامة، يمكن أن يؤدي الاحتيال العلمي إلى نتائج كارثية:

  • قرارات طبية خاطئة: إذا تم الاعتماد على دراسات مزيفة أو غير دقيقة في وضع المبادئ التوجيهية الطبية (Medical Guidelines)، فإن ذلك قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات خاطئة في علاج المرضى، مما يعرض حياتهم للخطر. على سبيل المثال، قد تؤدي ورقة بحثية مزيفة إلى الترويج لعلاج غير فعّال أو خطير، أو إلى التشكيك في فعالية لقاحات مثبتة، وهو ما حدث في حالاتٍ سابقة أدت إلى تدهور الثقة في اللقاحات.
  • إهدار الموارد البحثية: تعتمد الحكومات والمؤسسات على تقييم الباحثين لتوزيع التمويل على المشروعات العلمية. فإذا تم تضخيم سمعة باحثٍ ما بشكل مصطنع، فقد يحصل على تمويلٍ ثمين على حساب باحثين آخرين يقدمون أبحاثًا ذات جودة عالية، مما يؤدي إلى إهدار الموارد العامة وتوجيهها نحو أبحاثٍ عديمة الفائدة.
  • تآكل الثقة في العلم: عندما يكتشف الجمهور أن بعض الأبحاث المنشورة هي مجرد احتيال، فإن ذلك يزعزع الثقة في المؤسسة العلمية بأكملها. هذه الثقة هي حجر الزاوية الذي يقوم عليه تقدم المجتمع، وعندما تتآكل، يصبح المجتمع عرضةً للتضليل والمعلومات الخاطئة (Disinformation)، خاصةً في أوقات الأزمات الصحية.

تشير دراسة منشورة على موقع “الفنار” (Al-Fanar Media) إلى أن مشكلة سحب الأبحاث المزيفة منتشرة على نطاق واسع في المنطقة العربية، حيث تمتلك دول مثل مصر والمملكة العربية السعودية معدلات سحب للبحوث تفوق بكثير معدلات دول غربية مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ويعتبر إيفان أورانسكي، مؤسس قاعدة بيانات “Retraction Watch”، أن سحب الأوراق البحثية (Retraction) هو جزء أساسي من تطور العلم، ولكنه يؤكد في الوقت نفسه أن “العلوم السيئة تؤثر على الأشخاص الذين يجرون تجارب سريرية على نتائج مزيفة، كما أنها تؤدي أيضًا إلى انعدام الثقة في العلم بشكل عام”. رابط المصدر.

4. حلول لمكافحة الاحتيال العلمي: نحو ثورة “العلوم المفتوحة”

لمواجهة هذه الظاهرة، يتطلب الأمر جهودًا متكاملة من الأكاديميين والمؤسسات والجهات المانحة. من أبرز الحلول المقترحة:

  • التعليم والوعي: يجب على الجامعات والمؤسسات البحثية توعية الباحثين، وخاصة الشباب، بمخاطر المجلات المفترسة وكيفية التعرف عليها. وتوجد قوائم موثوقة، مثل “قائمة بيل” (Beall’s List) التي تساعد على تحديد المجلات والناشرين المفترسين، بالإضافة إلى أدوات مثل “Think, Check, Submit”. رابط المصدر.
  • تعزيز الشفافية والمساءلة: يجب على الجامعات تحديث سياساتها لتقييم الباحثين بحيث لا تعتمد بشكلٍ حصري على مؤشرات الكم، بل تأخذ في الاعتبار جودة الأبحاث، وأصالة المنهجية، والمساهمة العلمية الفعلية.
  • دعم “العلوم المفتوحة” (Open Science): تُعتبر مبادرة “العلوم المفتوحة” أحد أهم الحلول الجذرية. وهي حركة عالمية تهدف إلى جعل البحث العلمي وبياناته والمخرجات الأخرى متاحة للجميع، مما يعزز الشفافية ويسهل عملية التحقق من النتائج. وقد أصدرت منظمة اليونسكو توصية بشأن “العلوم المفتوحة” في عام 2021، تؤكد على أهمية هذا النهج في تعزيز الثقة والمساءلة في البحث العلمي. رابط المصدر.

خاتمة

كشفت قصة القط “لاري ريتشاردسون” عن هشاشة المنظومة الأكاديمية العالمية، حيث أظهرت مدى سهولة التلاعب بمؤشرات الأداء العلمي مثل عدد الاستشهادات والمؤشر (h-index). هذه التجربة، التي قادها عالِم الأحياء الحاسوبية ريس ريتشاردسون، كانت تمرينًا على “العبثية” لفضح الممارسات الاحتيالية. تكمن جذور المشكلة في ثقافة “النشر أو الفناء” وانتشار المجلات المفترسة التي تستغل هذا الضغط. لا تقتصر عواقب هذا الاحتيال على المجال الأكاديمي، بل تمتد لتشمل تهديدًا مباشرًا للصحة العامة من خلال الاعتماد على أبحاث مزيفة، وتآكل الثقة في المؤسسة العلمية. وتبرز مبادرات “العلوم المفتوحة” كحلٍ فعّال لمواجهة هذه الظاهرة من خلال تعزيز الشفافية والمساءلة في جميع مراحل البحث العلمي.

إن قصة “لاري” القط الأكاديمي، التي بدأت كتجربةٍ طريفة، تحولت إلى مرآة عاكسة تُظهر لنا أوجه القصور في عالم البحث العلمي. لقد حان الوقت للمجتمع الأكاديمي أن يتحرر من قيود ثقافة الكمّ، وأن يعيد بناء نظامه على أساس الجودة والأخلاق والشفافية. فالعلم ليس مجرد سباقٍ للحصول على أكبر عدد من الاستشهادات، بل هو سعيٌ دائم نحو الحقيقة، وهدفٌ نبيلٌ لخدمة البشرية. وفي النهاية، لا يزال السؤال يطرح نفسه بقوة: هل نستطيع أن نضمن أن الأوراق البحثية المنشورة في المستقبل ستكون نتاجًا لبحثٍ حقيقي، أم أننا سنستمر في إتاحة الفرصة لـ “لاري” آخر ليصبح نجمًا علميًا؟ الإجابة تكمن في مدى التزامنا بالأخلاق الأكاديمية ودعمنا للأنظمة التي تعزز الثقة والشفافية.

طارق قابيل
Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أكاديمية البحث العلمي

User Avatar

د. طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.


عدد مقالات الكاتب : 42
الملف الشخصي للكاتب :

التالي

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *