
في خطوة علمية جريئة أثارت جدلاً واسعًا في الأوساط العلمية والبيئية، تتجه الأنظار نحو مشروع طموح يهدف إلى إعادة إحياء طائر “الماوا” (Moa) العملاق، الذي انقرض قبل نحو 600 عام. هذا المشروع، الذي تدعمه شركة “كولوسال بيوساينس” (Colossal Biosciences) بتمويل من المخرج الشهير لثلاثية “سيد الخواتم”، بيتر جاكسون، يفتح الباب أمام تساؤلات عميقة حول حدود العلم، أخلاقيات التدخل في الطبيعة، ومستقبل التنوع البيولوجي على كوكبنا. فهل نحن على أعتاب ثورة في الحفاظ على الأنواع، أم أننا نغامر بمستقبل بيئي غير محسوب؟
محتويات المقال :
الحلم النيوزيلندي: إحياء أيقونة منقرضة
كان طائر الماوا، أو كما يعرف علميًا بالإنجليزية Dinornis، أيقونة نيوزيلندية بامتياز. هذا الطائر الضخم الذي لا يملك أجنحة، والذي بلغ ارتفاعه 3.6 أمتار ووزنه قرابة 250 كيلوغرامًا، جال في سهول وغابات نيوزيلندا لأكثر من 4000 عام، حتى اختفى تمامًا قبل نحو ستة قرون بسبب الصيد الجائر من قبل البشر. لطالما أسر هذا الكائن العملاق خيال النيوزيلنديين والعالم أجمع منذ القرن التاسع عشر، عندما عُرضت أول هياكله العظمية في المتاحف الأوروبية، مثل متحف يوركشاير في إنجلترا، ليصبح رمزًا للتراث الطبيعي المفقود.
واليوم، تسعى شركة “كولوسال بيوساينس” التي تتخذ من تكساس الأمريكية مقرًا لها، إلى تحويل هذا الخيال إلى حقيقة. أعلنت الشركة عن خطتها الطموحة لهندسة طيور حية وراثيًا لتشبه طائر الماوا العملاق. هذا المسعى العلمي غير المسبوق يأتي بدعم مالي كبير، حيث يساهم المخرج النيوزيلندي الشهير بيتر جاكسون بتمويل قدره 15 مليون دولار، تعبيرًا عن شغفه الشخصي بهذا الطائر الذي يمثل جزءًا أصيلاً من تاريخ بلاده. جاكسون، الذي يمتلك مجموعة شخصية تضم 300-400 عظمة لطيور الماوا جمعها بنفسه، يرى في هذا المشروع تحقيقًا لحلم يتجاوز أي إنجاز سينمائي، معتبرًا أن فكرة رؤية الماوا حيًا مرة أخرى تمنحه سعادة غامرة.
الهندسة الوراثية: جسر العودة من الانقراض؟
مشروع “كولوسال بيوساينس” لإحياء الماوا ليس المحاولة الأولى للشركة في هذا المجال. ففي السابق، حقق فريق “كولوسال” تقدمًا ملحوظًا في تطوير ذئاب رمادية معدلة وراثيًا تحمل سمات مشابهة للذئاب الرهيبة (Canis dirus) التي انقرضت منذ آلاف السنين. هذه التجارب السابقة منحت الشركة خبرة واسعة في مجال “إزالة الانقراض” (De-extinction)، وهو مصطلح يشير إلى عملية استعادة الأنواع المنقرضة.
لكن التحدي هذه المرة أكثر تعقيدًا وإثارة للاهتمام، لكونه يتعلق بالطيور. يواجه العلماء عقبة كبيرة تتمثل في اختلاف طريقة نمو أجنة الطيور داخل البيض تمامًا عن طريقة تكون الأجنة عند الثدييات. هذا الاختلاف يتطلب ابتكار مقاربات وتقنيات جديدة لضمان نجاح المشروع.
الفريق العلمي، بالتعاون مع مركز “نغاي تاهو” (Ngāi Tahu) البحثي في نيوزيلندا، يهدف إلى استخدام أحدث تقنيات الهندسة الوراثية (Genetic Engineering) لتعديل جينات طيور حية حالية. الطيور المرشحة لهذه العملية هي طيور “التينامو” (Tinamous) و”الإيمو” (Emus)، وهي طيور قريبة نسبيًا من الماوا من الناحية التصنيفية، وتحمل بعض السمات المشتركة. الهدف هو تعديل جيناتها لجعلها تشبه في صفاتها الطائر المنقرض.
تشرح الدكتورة بيث شابيرو (Beth Shapiro)، كبيرة العلماء في شركة كولوسال بيوساينس، الخطوات المنهجية للمشروع. المرحلة الأولى تركز على استخراج الحمض النووي (DNA) من عينات عظمية محفوظة جيدًا لطيور الماوا. هذه العينات، غالبًا ما تكون من بقايا عظام تم العثور عليها في الكهوف أو المستنقعات حيث ظلت محمية من التحلل، توفر المادة الوراثية اللازمة. بعد ذلك، سيتم مقارنة التسلسل الجيني للماوا مع الطيور الحية مثل التينامو والإيمو لتحديد الجينات المسؤولة عن الصفات الفريدة للماوا، مثل حجمها الهائل وعدم قدرتها على الطيران. هذه العملية، المعروفة باسم تحرير الجينات (Gene Editing)، تتطلب دقة عالية واستخدام تقنيات متطورة مثل نظام كريسبر-كاس9 (CRISPR-Cas9).
بعد تحديد الجينات المستهدفة وتعديلها، سيتم تطوير أجنة معدلة وراثيًا ووضعها في بيض لتفقيسها. هذه العملية تتطلب بيئة حضانة دقيقة ومراقبة مستمرة لضمان نمو الأجنة بشكل سليم. وتأمل “كولوسال” في تحقيق هذا الإنجاز العلمي خلال 5 إلى 10 سنوات. المرحلة النهائية للمشروع تتضمن إطلاق الطيور الناتجة في محميات طبيعية مغلقة، حيث يمكن مراقبتها ودراستها وتكاثرها في بيئة آمنة ومتحكم بها، مع الأخذ في الاعتبار أهمية الحفاظ على التوازن البيئي المحتمل.
بين الأمل والجدل: تحديات أخلاقية وعلمية
في حين يثير هذا المشروع حماسة بالغة لدى البعض، إلا أنه يواجه جدلاً علميًا وأخلاقيًا كبيرًا. يشكك العديد من الخبراء في إمكانية إعادة إنشاء أنواع منقرضة بدقة كاملة. يرى هؤلاء أن ما يمكن تحقيقه هو مجرد كائنات مهجنة (Hybrid Organisms) تحمل بعض سمات أسلافها المنقرضة، وليست نسخة طبق الأصل من الكائن الأصلي. فالحياة ليست مجرد تسلسل جيني؛ إنها نتاج تفاعلات معقدة بين الجينات والبيئة، وسلوكيات مكتسبة تنتقل عبر الأجيال. حتى لو تمكن العلماء من استنساخ جيني للماوا، فكيف سيتعلم هذا الكائن المنفصل عن بيئته الطبيعية وسلوكياته الأصلية كيفية العيش والتكيف؟
علاوة على ذلك، يخشى بعض العلماء والمنظمات البيئية من أن ينصب التركيز والموارد الهائلة على مثل هذه المشاريع المثيرة للجدل، على حساب الجهود المبذولة لحماية الأنواع المهددة بالانقراض حاليًا. فبدلاً من “إعادة” الأنواع المنقرضة، يفضل هؤلاء توجيه الجهود نحو منع المزيد من الانقراضات، والتركيز على ترميم الموائل الطبيعية وتوفير الحماية للأنواع المهددة بالزوال. يرى المنتقدون أن إحياء الماوا قد يكون “تشتيتًا” عن القضايا البيئية الأكثر إلحاحًا، ويُخشى أن يخلق سابقة خطيرة قد تدفع البعض للاعتقاد بأنه يمكننا ببساطة “إصلاح” الأضرار البيئية بعد وقوعها.
من ناحية أخرى، يرى مؤيدو “إزالة الانقراض” أن هذه التقنيات يمكن أن تفتح الباب أمام إمكانيات جديدة في مجال الحفاظ على التنوع البيولوجي (Biodiversity Conservation). فإعادة الأنواع الرئيسية (Keystone Species) إلى النظم البيئية التي اختفت منها يمكن أن يعيد التوازن البيئي ويحفز الانتعاش الطبيعي. على سبيل المثال، قد يلعب الماوا دورًا مهمًا في انتشار البذور وتشكيل الغابات، مما يعزز صحة النظام البيئي النيوزيلندي. كما يمكن أن توفر هذه المشاريع فرصًا لا تقدر بثمن للبحث العلمي، وفهم أعمق لآليات التطور والانقراض، وتطوير تقنيات جديدة قد تكون مفيدة في مجالات أخرى.
أحدث التطورات:
تواصل شركة كولوسال بيوساينس التقدم في أبحاثها، معلنة عن تطورات مستمرة في جهودها لإحياء الأنواع المنقرضة. على سبيل المثال، بالإضافة إلى مشروع الماوا والذئب الرهيب، تعمل الشركة أيضًا على مشروع لإعادة الماموث الصوفي (Woolly Mammoth) إلى سهول القطب الشمالي. هذه المشاريع تعتمد على أبحاث متقدمة في الجينوميات القديمة (Ancient Genomics) والبيولوجيا التركيبية (Synthetic Biology).
مشروع إحياء طائر الماوا العملاق يمثل نقطة تحول محتملة في تاريخ العلم البيئي. فمن جهة، يجسد هذا المشروع طموح الإنسان اللامحدود وقدرته على تسخير التكنولوجيا لحل المشكلات التي تبدو مستعصية. ومن جهة أخرى، يثير تساؤلات جوهرية حول مسؤوليتنا تجاه الطبيعة، والآثار طويلة المدى للتدخل البشري في مسار التطور.
بينما تنتظر “كولوسال بيوساينس” تحقيق إنجازها العلمي خلال العقد المقبل، يظل النقاش محتدمًا حول ما إذا كانت هذه المشاريع تمثل أملًا جديدًا للحفاظ على التنوع البيولوجي، أم أنها مجرد تشتيت للموارد والجهود التي يجب أن تركز على حماية ما تبقى لدينا من أنواع مهددة. الأيام القادمة ستحمل في طياتها الإجابة على هذه التساؤلات، لكن المؤكد هو أن قصة الماوا تعيد تعريف حدود ما هو ممكن، وتدفعنا للتفكير بعمق في علاقتنا بالماضي الطبيعي ومستقبله.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :