
عاصفة في سماء المعرفة.. هل تتهاوى أسس البحث العلمي؟
في عالمنا الحديث، تتسارع وتيرة إنتاج المعرفة العلمية بشكل لم يسبق له مثيل. الملايين من الأوراق البحثية تُنشر سنويًا، في تدفق لا يتوقف يهدف إلى إثراء فهمنا للعالم من حولنا. لكن هل كل ما يلمع ذهبًا؟ وهل هذا الكم الهائل يعني بالضرورة جودة عالية؟ هذا هو السؤال الذي بات يؤرق العلماء والمؤسسات الأكاديمية حول العالم، بعد أن فجّرت حادثة غريبة، وصادمة في آن واحد، قضية جودة النشر العلمي إلى الواجهة، وأعادت تسليط الضوء على تحديات جمة تواجه صناعة النشر الأكاديمي، والتي تعد حجر الزاوية في تقدم البشرية.
القصة بدأت ببحث علمي، بدا للوهلة الأولى عاديًا، ضمن ملايين الأبحاث التي تُنشر سنويًا، وكان من المفترض أن يظل حبيس الأوساط المتخصصة في مجال الإشارات البيولوجية في الخلايا الجذعية المخصصة لتكوين الحيوانات المنوية. لكن ما لبث أن خرج هذا البحث عن نطاقه الضيق، ليحظى باهتمام عالمي واسع، ليس لمحتواه العلمي، بل لصورة غريبة أرفقت به: فأر ذو قضيب عملاق للغاية، وخصيتين زائدتين، مع تسميات عبثية لأجزاء جسده مثل “testtomcels” و “dck”. هذه الصورة، التي تبين لاحقًا أنها مولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعي (AI)، أثارت موجة عارمة من السخرية في وسائل الإعلام الرئيسية، وكشفت عن أخطاء فادحة في عملية المراجعة والتحقق، مما دفع بالمجلة العلمية المرموقة “Frontiers in Cell and Developmental Biology” إلى سحب الورقة بعد ثلاثة أيام فقط من نشرها.
هذه الحادثة، التي تبدو مجرد خطأ ساذج ناتج عن سوء استخدام الذكاء الاصطناعي، هي في الواقع نافذة تطل على مشكلات أعمق وأكثر تعقيدًا في قلب صناعة النشر العلمي. فالمجلات العلمية ليست مجرد سجلات تاريخية للمعرفة، بل هي حراس البوابة للمعلومات التي تشكل عالمنا، وتُبنى عليها قرارات مصيرية تتعلق بالحياة والموت. من تطوير الأدوية وتوجيه الممارسات الطبية، إلى صياغة السياسات الحكومية وتحديد الاستراتيجيات الجيوسياسية، يلعب النشر العلمي دورًا حاسمًا. فما الذي يحدث إذن؟ ولماذا يرى كبار العلماء أن نظام النشر العلمي “معطل” وغير مستدام، وينتج عددًا هائلاً من الأوراق التي لا قيمة لها تقريبًا؟ هذا التقرير سيتعمق في هذه الأسئلة، مستكشفًا الأبعاد المختلفة لهذه الأزمة، وتأثيراتها المحتملة على مستقبل العلم والمعرفة.
تشريح أزمة النشر العلمي: من الفأر الخارق إلى طوفان الأبحاث
تاريخيًا، كانت المجلات العلمية هي المرجع الأساسي للتفكير العلمي الجاد. صدرت أول مجلة علمية، “Philosophical Transactions”، عن الجمعية الملكية (Royal Society) عام 1665، وكانت تنشر اكتشافات رائدة في مجالات متنوعة. فيها، طرح علماء مثل إسحاق نيوتن (Isaac Newton)، وألبرت أينشتاين (Albert Einstein)، وتشارلز داروين (Charles Darwin) نظرياتهم التاريخية، وصاغت ماري كوري (Marie Curie) مصطلح “النشاط الإشعاعي” (radioactivity) لأول مرة في إحدى المجلات العلمية. كانت هذه المجلات بمنزلة سجلات دقيقة وموثوقة لتقدم البشرية.
ولكن، منذ ذلك الحين، تغير المشهد بشكل جذري. فبعد التوسع الهائل في الممارسات العلمية والنشر، خاصة تلك التي روج لها قطب الصحافة روبرت ماكسويل، أصبحت عشرات الآلاف من المجلات العلمية تنشر ملايين الأوراق سنويًا. تُظهر التحليلات التي أجرتها شركة “كلاريفيت” (Clarivate)، وهي شركة متخصصة في تحليل البيانات، أن عدد الدراسات البحثية المفهرسة في قاعدة بياناتها “ويب أوف ساينس” (Web of Science) ارتفع بنسبة 48%، من 1.71 مليون إلى 2.53 مليون بين عامي 2015 و2024. وإذا ما أضفنا الأنواع الأخرى من المقالات العلمية، يصل الإجمالي إلى 3.26 مليون. هذا النمو الهائل، وإن كان يعكس توسعًا في النشاط البحثي العالمي، إلا أنه يثير تساؤلات جدية حول القدرة على الحفاظ على الجودة والتدقيق العلمي.
طوفان الأبحاث: هل يغرق العلماء في بحر من المعلومات؟
وصف الدكتور مارك هانسون (Mark Hanson) من جامعة إكستر (University of Exeter)، في ورقة بحثية بارزة العام الماضي، كيف أصبح العلماء “مُرهقين بشكل متزايد” من حجم المقالات المنشورة. إن مجاراة الأعمال الأصلية الحقيقية ليست سوى مشكلة واحدة. فقد أصبحت متطلبات مراجعة الأقران (Peer Review) – حيث يتطوع الأكاديميون بوقتهم لتقييم عمل بعضهم البعض – مكثفة لدرجة أن محرري المجلات يواجهون صعوبة في العثور على خبراء راغبين في هذه المهمة.
ووفقًا لدراسة حديثة، قضى الأكاديميون عالميًا أكثر من 100 مليون ساعة في مراجعة الأوراق للمجلات في عام 2020 وحده. وبالنسبة للخبراء في الولايات المتحدة، بلغت قيمة الوقت الذي قضوه في المراجعة ذلك العام أكثر من 1.5 مليار دولار من العمل المجاني. هذا يوضح الضغط الهائل على النظام، ويثير تساؤلات حول مدى استدامته. يقول فينكي راماكريشنان (Venki Ramakrishnan)، الرئيس السابق للجمعية الملكية والحائز على جائزة نوبل في مختبر البيولوجيا الجزيئية بمجلس البحوث الطبية: “يتفق الجميع على أن النظام معطل نوعًا ما وغير مستدام، ولكن لا أحد يعرف حقًا ماذا يفعل حيال ذلك.”
“انشر أو تهلك”: حافز الكم على حساب الكيف
في عالم الأكاديميا، حيث يسود مبدأ “انشر أو تهلك” (Publish or Perish)، فإن عدد المرات التي ينشر فيها الباحث، وأين ينشر، وعدد الاستشهادات التي تتلقاها أوراقه، كلها عوامل تحدد مساره الوظيفي. المنطق وراء هذا معقول: أفضل العلماء غالبًا ما ينشرون في أفضل المجلات. ولكن هذا النظام يمكن أن يدفع الباحثين إلى مطاردة المقاييس. قد يجرون دراسات أسهل، أو يبالغون في نتائج لافتة للنظر، أو ينشرون نتائجهم في عدد أكبر من الأوراق مما هو ضروري. يقول هانسون: “يحفزهم معهدهم أو وكالات التمويل الحكومية على نشر أوراق تحمل أسماءهم، حتى لو لم يكن لديهم ما هو جديد أو مفيد ليقولوه.”
هذا السعي المحموم وراء الكم يؤدي إلى ما يصفه البروفيسور أندريه غيم (Andre Geim)، الحائز على جائزة نوبل في جامعة مانشستر، بأنه “نشر الكثير من الأوراق التي لا فائدة منها”. ويضيف: “للأسف، بعد الوصول إلى كتلة حرجة، تصبح المجتمعات البحثية ذاتية الديمومة بسبب المصالح العاطفية والمالية للمشاركين فيها.”
النموذج الاقتصادي الفريد للنشر العلمي: من الاشتراكات إلى “الوصول المفتوح”
تتمتع صناعة النشر العلمي بنموذج عمل فريد. فالباحثون، الذين يمولهم عادة دافعو الضرائب أو الجمعيات الخيرية، يجرون البحث ويكتبونه، ويراجعون عمل بعضهم البعض للحفاظ على معايير الجودة. ثم تتولى المجلات إدارة مراجعة الأقران ونشر المقالات.
تاريخيًا، كانت العديد من المجلات تفرض رسومًا مقابل الوصول إلى محتواها من خلال الاشتراكات (subscriptions). ولكن الناشرين يتبنون بشكل مطرد نماذج الوصول المفتوح (Open Access)، حيث يمكن للمؤلفين دفع ما يصل إلى 10,000 جنيه إسترليني لجعل ورقة واحدة متاحة مجانًا عبر الإنترنت. وفقًا لتحليل حديث، دفع الباحثون عالميًا أكثر من مليار دولار كرسوم وصول مفتوح بين عامي 2015 و2018 لأكبر خمسة ناشرين أكاديميين: إلزيفير (Elsevier)، سيج (Sage)، سبرينغر نيتشر (Springer Nature)، تايلور وفرانسيس (Taylor & Francis)، ووايلي (Wiley).
يساعد الوصول المفتوح في نشر الأبحاث على نطاق أوسع. ولأنه ليس خلف جدار دفع (paywall)، يمكن لأي شخص في أي مكان قراءة العمل. ولكن هذا النموذج يحفز الناشرين التجاريين على نشر المزيد من الأوراق. يطلق البعض مجلات جديدة لجذب المزيد من الدراسات، بينما يطلب آخرون أوراقًا لأعداد هائلة من “القضايا الخاصة” (special issues).
فعلى سبيل المثال، بالنسبة لناشر سويسري مثل MDPI، تعد “القضايا الخاصة” مصدر دخل رئيسي. إحدى مجلات MDPI، وهي “المجلة الدولية لعلوم الجزيئات” (International Journal of Molecular Sciences)، تدعو إلى تقديم أبحاث لأكثر من 3,000 قضية خاصة. وتبلغ رسوم النشر (Article Processing Charge – APC) لمقال واحد 2,600 جنيه إسترليني. وحتى العام الماضي، رفضت المؤسسة الوطنية السويسرية للعلوم دفع رسوم النشر للقضايا الخاصة وسط مخاوف بشأن الجودة.
تداعيات الحوافز الخاطئة: التلاعب، المجلات المفترسة، وأبحاث “مصانع الأوراق”
تُلقى باللوم على الحوافز غير المجدية في النشر الأكاديمي لتسببها في مستويات قياسية من عمليات سحب الأوراق البحثية (Retractions)، وارتفاع في عدد المجلات المفترسة (Predatory Journals) – التي تنشر أي شيء مقابل رسوم – وظهور الدراسات المكتوبة بواسطة الذكاء الاصطناعي (AI-written studies) ومصانع الأوراق البحثية (Paper Mills)، التي تبيع أوراقًا مزيفة لباحثين عديمي الضمير لتقديمها إلى المجلات. كل هذه الظواهر تلوث الأدبيات العلمية وتخاطر بإلحاق الضرر بالثقة في العلم. في وقت سابق من هذا الشهر، أوقفت دار النشر “تايلور وفرانسيس” (Taylor & Francis) عمليات تقديم الأوراق إلى مجلتها “بايوإنجينيرد” (Bioengineered) بينما يحقق المحررون في 1000 ورقة تحمل علامات تلاعب أو قادمة من مصانع أوراق بحثية.
بينما تعد عمليات الاحتيال والتزوير مشكلات مهمة، يشعر الدكتور هانسون بقلق أكبر بشأن الكم الهائل من الأوراق البحثية التي لا تسهم إلا القليل في تقدم المعرفة العلمية. يقول: “الخطر الأكبر بكثير من حيث الحجم والأعداد الإجمالية هو الأشياء الأصيلة ولكن غير المثيرة للاهتمام وغير المفيدة.” ويضيف: “بات من الممكن الآن نشر مقال خاضع لمراجعة الأقران في مجلة لا يقدم عمليًا أي شيء جديد. هذه الأوراق تستنزف النظام بشكل كبير من حيث الأموال المستخدمة لنشرها ودفع ثمنها، والوقت الذي يقضى في كتابتها، والوقت الذي يقضى في مراجعتها.”
دعوات للإصلاح: نحو نظام يركز على الجودة
تستعد الجمعية الملكية لإصدار مراجعة رئيسية للنشر العلمي في نهاية الصيف، وستركز على “الاضطرابات” التي تواجهها الصناعة في الخمسة عشر عامًا القادمة. يقول السير مارك والبرت (Sir Mark Walport)، كبير العلماء الحكوميين السابق ورئيس مجلس النشر بالجمعية الملكية: “يتم تحويل كل جانب تقريبًا من النشر العلمي بواسطة التكنولوجيا، في حين أن الحوافز المتجذرة للباحثين والناشرين غالبًا ما تفضل الكمية على الجودة.” ويؤكد والبرت أن “الحجم محرك سيئ”، وأن “الحافز يجب أن يكون الجودة، وليس الكمية. الأمر يتعلق بإعادة هندسة النظام بطريقة تشجع البحث الجيد من البداية إلى النهاية.”
يعتقد هانسون أن المشكلة ليست في الوصول المفتوح أو رسوم النشر بحد ذاتها، بل في الناشرين الربحيين الذين يسعون لنشر أكبر عدد ممكن من الأوراق. ويرى أن الضغط على النشر الأكاديمي يمكن تخفيفه بشكل كبير إذا ما اشترطت وكالات التمويل أن يتم نشر العمل الذي تدعمه في مجلات غير ربحية.
من جانبها، قالت هانا هوب (Hannah Hope)، رئيسة الأبحاث المفتوحة في مؤسسة “ويلكوم تراست” (Wellcome Trust)، إنه بشكل عام، يجب نشر الأبحاث الجيدة بما يكفي للتمويل، وأن زيادة الاستثمار في العلوم، خاصة خارج أمريكا الشمالية وأوروبا، ساهمت في زيادة الأوراق العلمية. لكنها اتفقت على أن مراجعة الأقران قد تستخدم بشكل أكثر انتقائية. وأضافت: “أنا متأكدة من أن مراجعة الأقران تؤدي إلى تحسين البحث. هل تستحق دائمًا الوقت الذي تستغرقه؟ أعتقد أن هذا شيء يجب أن نطرحه كسؤال في هذا المجال، وما إذا كانت مراجعة الأقران تحدث بالشكل الحالي على كل شيء.”
التكنولوجيا كجزء من الحل: الذكاء الاصطناعي بين المشكلة والحل
في المقابل، رفضت ريتو دهاند (Ritu Dhand)، كبيرة المسؤولين العلميين في دار النشر “سبرينغر نيتشر” (Springer Nature)، فكرة “الناشرين الجشعين” الذين يكسبون المال عن طريق نشر أوراق رديئة الجودة. وأشارت إلى أن المشهد البحثي قد مر بـ “تحول جذري”، تضاعف حجمه أربع مرات خلال الـ 25 عامًا الماضية. فالبحث، الذي سيطرت عليه الدول الغربية لفترة طويلة، أصبح الآن عالميًا بشكل أكبر، وتقوده الصين بدلاً من الولايات المتحدة.
وتساءلت: “هل الحل هو عدم السماح لبقية العالم بالنشر؟ نحن نعيش في عالم رقمي. بالتأكيد، لا يهم عدد الأوراق التي يتم نشرها.” وترى دهاند الحلول في تحسين أدوات التصفية والبحث والتنبيهات حتى يتمكن الباحثون من العثور على العمل الذي يهمهم حقًا، وتوسيع عالمي لعدد مراجعي الأقران لاستيعاب الطلب.
بينما تشكل التكنولوجيا تحديات جديدة لناشري الأبحاث الأكاديمية، يتفق راماكريشنان على أنها قد تكون الإجابة على بعض المشكلات. وقال: “في النهاية، ستتم كتابة هذه الأوراق كلها بواسطة وكيل ذكاء اصطناعي، ثم سيقوم وكيل ذكاء اصطناعي آخر بقراءتها وتحليلها وإنتاج ملخص للبشر. أعتقد بالفعل أن هذا ما سيحدث.”
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :