
في عالم يزداد فيه التنافس الأكاديمي، وتتسارع فيه وتيرة النشر العلمي، تبرز ظواهر سلبية تهدد مصداقية البحث وأمانته. لعل أبرز هذه الظواهر ما يُعرف بـ”التزوير في التأليف” أو “Forged Authorship“، وهي جريمة علمية خطيرة لا تقتصر على سرقة الأفكار، بل تتجاوزها إلى استغلال أسماء باحثين حقيقيين دون علمهم، لنشر أبحاث قد تكون مشبوهة أو غير دقيقة. هذه الممارسات لا تضر بسمعة الباحثين الأفراد فحسب، بل تمتد آثارها لتشمل المؤسسات الأكاديمية والمنظومة العلمية بأكملها. التقرير التالي يستعرض هذه الظاهرة، ويحلل دوافعها، ويقدم إرشادات للتعامل معها، بناءً على شهادة حية لأحد الأكاديميين الذين وقعوا ضحية لهذه الممارسات.
عندما يصبح الباحث ضحية: قصة واقعية تكشف عن حجم الجريمة
تلقى الأستاذ الدكتور محمد شعبان، الأستاذ بكلية الهندسة -جامعة تشونغ تشنغ الوطنية والباحث المصري العالمي الشهير، صدمة حقيقية حينما وصلته رسالة إلكترونية من إحدى المجلات العلمية المرموقة (ذات معامل تأثير عالٍ ومصنفة ضمن فئة Q1، تُخطره بقبول تعديلات على بحث لم يكتبه أو يقدمه من الأساس. لم تقتصر المفاجأة على ذلك، بل وجد البحث منشورًا باسمه كـ”مؤلف وحيد” (Single-Author)، مع ذكر عنوانه البريدي الصحيح وعنوانه الوظيفي. الأصعب من ذلك هو أن هذا البحث قد تم دفع رسوم نشره الباهظة، التي تتجاوز 2000 دولار أمريكي، مما يثير تساؤلات حول الجهة التي تقف وراء هذه العملية.
هذه القصة ليست مجرد حادثة فردية، بل هي كشف مروع عن مدى تطور أساليب “مافيا البحث العلمي” (Academic Mafia) التي تستخدم تكتيكات متطورة ومعقدة للإضرار بسمعة الباحثين. فبدلاً من سرقة الأبحاث ونسبتها لأنفسهم، لجأ هؤلاء إلى استغلال أسماء باحثين معروفين وذوي مصداقية، لنشر أبحاث مشبوهة أو منخفضة الجودة باسمهم، بهدف تشويه سمعتهم والانتقام منهم.
تحليل الظاهرة: من “المؤلف الوهمي” إلى “المؤلف المزور”
في السابق، كانت ظاهرة “المؤلف الشبح” (Ghost Authorship) أو “المؤلف الضيف” (Guest Authorship) هي الأكثر شيوعًا، حيث يتم إضافة أسماء لأشخاص لم يشاركوا في البحث، أو حذف أسماء آخرين شاركوا فعليًا. لكن ما حدث مع الدكتور شعبان يمثل تطورًا خطيرًا لهذه الظاهرة، وهو ما يطلق عليه “Forged Authorship”، أي تزوير المؤلفين. في هذه الحالة، يتم إنشاء بحث بالكامل، ووضع اسم باحث حقيقي عليه دون علمه أو موافقته.
ما هي الدوافع وراء هذه الجريمة؟
• الانتقام الشخصي: قد يكون الدافع هو الانتقام من باحث معين بسبب خلافات شخصية أو مهنية، أو بسبب مواقفه الصريحة ضد الممارسات غير الأخلاقية في النشر العلمي، كما هو الحال مع الدكتور شعبان الذي يناهض بشدة “مصانع الأوراق البحثية”.
• تشويه السمعة: الهدف الأساسي هو تشويه سمعة الباحث المستهدف، وجعله يبدو وكأنه متورط في ممارسات غير أخلاقية، أو أنه يقدم أبحاثًا رديئة الجودة.
• الاستفادة المادية أو الأكاديمية: على الرغم من أن هذا الدافع يبدو مستبعدًا في حالة الدكتور شعبان، إلا أنه في بعض الأحيان، قد يلجأ البعض إلى هذه الممارسات لرفع أسمائهم الأكاديمية أو الحصول على ترقيات، من خلال إضافة أسماء باحثين مرموقين كـ”مؤلفين” لزيادة مصداقية البحث.
• إرباك المنظومة العلمية: في حالات نادرة، قد يكون الهدف هو إرباك المنظومة العلمية، وزعزعة الثقة في المجلات المرموقة، وإثبات أن هذه المجلات قد تنشر أبحاثًا مشبوهة دون تدقيق كافٍ.
الإجراءات الواجب اتخاذها عند الوقوع ضحية
يؤكد الدكتور محمد شعبان أنه فور اكتشاف الأمر، اتخذ خطوات فورية لمواجهة هذا التزوير، وهي الخطوات الصحيحة التي ينبغي على أي باحث اتباعها في حالة مماثلة:
- التواصل الفوري مع رئيس تحرير المجلة: يجب إخطار رئيس التحرير (Editor-in-Chief) أو هيئة التحرير (Editorial Board) في المجلة، وتقديم شرح مفصل للوضع، مع التأكيد على عدم وجود أي علاقة للباحث بالبحث المنشور.
- طلب سحب البحث (Retraction): يجب المطالبة بسحب البحث بالكامل من قاعدة بيانات المجلة، مع نشر إعلان رسمي يوضح سبب السحب (لأنه تم نشره دون موافقة المؤلف المزعوم). سحب البحث هو إجراء رسمي يُتخذ عندما يثبت وجود خطأ جسيم أو تزوير.
- إبلاغ المؤسسة الأكاديمية: من الضروري إبلاغ إدارة الجامعة أو المؤسسة التي ينتمي إليها الباحث، وتقديم الأدلة اللازمة لدعم موقفه. هذا الإجراء يحمي الباحث من أي اتهامات محتملة في المستقبل.
- نشر بيان توضيحي: في بعض الحالات، قد يكون من الضروري نشر بيان توضيحي على وسائل التواصل الاجتماعي أو المنصات الأكاديمية، لتوضيح الحقيقة للزملاء والمتابعين، ومنع انتشار الشائعات.
- مسؤولية المجلات العلمية في حماية الباحثين
تتحمل المجلات العلمية مسؤولية كبيرة في حماية الباحثين من هذه الممارسات. يجب على المجلات تعزيز آليات التدقيق والتحقق من هويات المؤلفين (Author Identity Verification) قبل قبول الأبحاث للنشر.
من الإجراءات المقترحة:
• التواصل المباشر مع المؤلفين: يجب على المجلات التواصل مع جميع المؤلفين المدرجين في البحث، عبر بريدهم الإلكتروني الرسمي (التابع للمؤسسة الأكاديمية)، للتأكد من موافقتهم على النشر ومشاركتهم الفعلية في البحث.
• مراجعة الأخلاقيات (Ethics Review): ينبغي أن تكون مراجعة أخلاقيات البحث جزءًا أساسيًا من عملية المراجعة (Peer Review Process)، للتأكد من عدم وجود أي ممارسات مشبوهة.
استخدام أنظمة التحقق الرقمي: مثل نظام “أوركيد” (ORCID)، الذي يمنح كل باحث معرفًا رقميًا فريدًا، مما يسهل التحقق من هويته ونسبة الأبحاث إليه بشكل صحيح.
تُعد ظاهرة تزوير المؤلفين في الأبحاث العلمية تطورًا خطيرًا في عالم النشر الأكاديمي، وتُظهر كيف يمكن أن تتحول الأدوات العلمية إلى أسلحة تستخدم في الانتقام وتشويه السمعة. هذه الممارسات لا تضر بسمعة الأفراد فحسب، بل تُقوض الثقة في المنظومة العلمية بأكملها. تتطلب مواجهة هذه الظاهرة تضافر جهود الباحثين، والمؤسسات الأكاديمية، والمجلات العلمية، من خلال تعزيز آليات الحماية والتدقيق، ونشر الوعي حول خطورة هذه الممارسات.
في عالم يزداد فيه الشر والغيرة والكيد، يجب أن يظل العلم منارة للأمانة والصدق. قصة الدكتور محمد شعبان هي دعوة لكل باحث ليكون يقظًا، وللتحقق من أسمائهم وأبحاثهم بشكل دوري. إن حماية الأمانة العلمية ليست مجرد مسؤولية فردية، بل هي واجب جماعي يقع على عاتق كل من يعمل في حقل البحث الأكاديمي. وعلى الرغم من أن هذه الممارسات قد تبدو محبطة، إلا أن كشفها والوقوف ضدها هو أول خطوة نحو تطهير المجال العلمي من الشوائب التي قد تعكر صفوه.
المصادر:
• Committee on Publication Ethics (COPE): (https://publicationethics.org/retraction-guidelines) – يقدم هذا الموقع إرشادات مفصلة للمجلات والباحثين حول كيفية التعامل مع حالات التزوير وسحب الأبحاث.
• ORCID (Open Researcher and Contributor ID): (https://orcid.org/) – منصة عالمية لتوحيد هوية الباحثين، والتي تساعد في منع حالات التزوير.
• Nature Journal: (https://www.nature.com/) – يُعد المصدر الأكثر موثوقية للأخبار والمقالات العلمية، ويُمكن البحث فيه عن مقالات حول أخلاقيات النشر.
• Retraction Watch: (https://retractionwatch.com/) – موقع متخصص في متابعة حالات سحب الأبحاث المنشورة، ويقدم قاعدة بيانات واسعة حول ممارسات سوء السلوك العلمي.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :