Ad

في قلب جبال الأطلس المغربية، وعلى بعد أميال من بلدة بولمان الهادئة، يكمن كنزٌ جيولوجي وتاريخي عظيم، كشف عنه مؤخراً باحثون من جامعة برمنجهام البريطانية. هذا الكنز ليس ذهباً ولا معادن ثمينة، بل هو بقايا متحجرة لأحد أغرب المخلوقات التي عاشت على كوكب الأرض على الإطلاق. إنه ديناصور “سبايكوميلوس” (Spicomellus afer)، الذي عاش قبل نحو 165 مليون سنة في العصر الجوراسي، والذي يقلب كل المفاهيم المعروفة عن تطور الديناصورات المدرعة (أنكيلوصوريات). هذا الاكتشاف ليس مجرد إضافة جديدة لقائمة الديناصورات المكتشفة، بل هو نافذة على عالم ما قبل التاريخ، تكشف عن تطورات مذهلة في تصميم الحياة، وتُظهر كيف أن الطبيعة كانت أكثر إبداعاً وغرابة مما تخيلنا يوماً.

اكتشاف مدهش: ديناصور مغربي يغير قواعد اللعبة

تعتبر الديناصورات المدرعة، أو ما يُعرف بالأنكيلوصوريات (ankylosaurs)، من أكثر أنواع الديناصورات شهرة بسبب دروعها الواقية وأسلحتها الذيلية الضخمة التي تشبه الهراوة. لكن اكتشاف “سبايكوميلوس” في المغرب يطرح تساؤلات جديدة حول تاريخ تطور هذه الكائنات. ففي دراسة نُشرت في مجلة “نيتشر” (Nature) العلمية المرموقة، كشف فريق دولي من الباحثين بقيادة البروفيسور ريتشارد بتلر من جامعة برمنجهام البريطانية والبروفيسور سوسانا ميدمنت من متحف التاريخ الطبيعي في لندن، بالتعاون مع فريق مغربي من جامعة سيدي محمد بن عبد الله، عن تفاصيل مذهلة حول هذا الديناصور الفريد.

كان الوصف الأولي للديناصور في عام 2021 مبنياً على قطعة واحدة من ضلعه، مما جعل الباحثين يعتقدون أنه كان مجرد ديناصور مدرع عادي. لكن العثور على بقايا إضافية في نفس الموقع، ومنها عظام من الرقبة والذيل، أظهرت صورة مختلفة تماماً.

درع خارق وأشواك بطول متر: سبايكوميلوس ليس كأي ديناصور آخر

ما يميز “سبايكوميلوس” هو تركيبة درعه الغريبة، التي لم يُشاهد لها مثيل في أي فقاريات أخرى، حية أو منقرضة. كان جسد هذا الديناصور مغطى بالكامل بدروع وأشواك عظمية، بعضها كان مدمجاً مباشرة في هيكله العظمي. لكن الأكثر غرابة هو وجود طوق عظمي حول رقبته، كانت تبرز منه أشواك طويلة يصل طول بعضها إلى 87 سنتيمتراً، وقد تكون أطول من ذلك بكثير خلال حياته.

يوضح البروفيسور ريتشارد بتلر، أحد قادة المشروع، أن رؤية هذه الأحافير لأول مرة كانت “مثيرة للدهشة” (spine-tingling). وأضاف: “لم نصدق كم كان غريباً ومختلفاً عن أي ديناصور آخر، أو حتى عن أي حيوان نعرفه على قيد الحياة أو منقرض. إنه يقلب الكثير مما كنا نعتقده عن الأنكيلوصوريات وتطورها رأساً على عقب، ويوضح مدى ما لا يزال يتعين علينا تعلمه عن الديناصورات.”

ولم تقتصر غرابة “سبايكوميلوس” على درعه فقط. فقد كشفت الأحافير الجديدة عن وجود أشواك ضخمة متجهة إلى الأعلى فوق منطقة الورك، بالإضافة إلى مجموعة متنوعة من الأشواك الطويلة والشبيهة بالشفرات، وقطع من الدروع تتكون من شوكتين طويلتين، وصفائح أسفل الكتف. “لم نر شيئاً كهذا من قبل في أي حيوان” كما تقول البروفيسورة سوسانا ميدمنت.

أسرار الدروع: دفاع أم عرض؟

عادة ما يُعتقد أن دروع الديناصورات المدرعة كانت تستخدم للدفاع ضد الحيوانات المفترسة. لكن في حالة “سبايكوميلوس”، يطرح الباحثون فرضية أخرى. بما أن هذا الديناصور هو الأقدم من نوعه، وقد عاش في فترة لم تكن فيها الديناصورات المفترسة الضخمة قد ظهرت بعد، فإن درعه المتقن قد يكون قد استُخدم لأغراض أخرى.

يُرجح المؤلفون أن هذا الترتيب الفريد من الأشواك والدروع ربما كان يُستخدم لجذب الإناث أو للتفاخر أمام الديناصورات المنافسة. وهذا يمثل تناقضاً مثيراً للاهتمام، حيث أن الأنواع اللاحقة من الأنكيلوصوريات كانت تمتلك دروعاً أبسط، وربما كانت وظيفتها الرئيسية هي الحماية والدفاع.

تطور الدروع: من التباهي إلى الدفاع

ما الذي يمكن أن يفسر هذا التحول في وظيفة الدروع؟ يعتقد الباحثون أن ظهور الديناصورات المفترسة الأكبر حجماً في العصر الطباشيري (Cretaceous)، بالإضافة إلى الثدييات آكلة اللحوم والتماسيح والثعابين، ربما دفع الأنكيلوصوريات إلى تطوير دروع أبسط وأكثر فعالية في الحماية. فكلما زاد خطر الافتراس، كلما أصبحت الدروع أكثر دفاعية وأقل زخرفاً.

وهذا يشير إلى أن التطور لم يكن دائماً خطياً. فما كان يُعتبر سمة معقدة وغريبة في الماضي، ربما كان قد تحوّل إلى سمة أكثر عملية وبساطة في المستقبل، استجابةً للضغوط البيئية.

سلاح الذيل: تاريخ أقدم مما اعتقدنا

بالإضافة إلى درعه الغريب، كشفت أحافير “سبايكوميلوس” عن مفاجأة أخرى. فبالرغم من عدم العثور على طرف ذيله، فإن العظام الباقية تشير إلى أنه كان يمتلك سلاحاً ذيلياً يشبه الهراوة أو ما شابه ذلك.

يُظهر فحص الفقرات الذيلية لـ “سبايكوميلوس” أنها كانت مدمجة ببعضها البعض لتشكل بنية تُعرف بـ “المقبض” (handle). وهذه البنية لم تُكتشف من قبل إلا في الأنكيلوصوريات التي كانت تمتلك هراوة ذيلية، لكن جميع هذه الديناصورات عاشت بعد “سبايكوميلوس” بملايين السنين في العصر الطباشيري.

يعتقد مؤلفو الدراسة أن وجود سلاح ذيلي، بالإضافة إلى الدرع الذي كان يحمي منطقة الوركين، يشير إلى أن العديد من التكيفات الرئيسية للأنكيلوصوريات كانت موجودة بالفعل في زمن “سبايكوميلوس”، مما يجعلها أقدم ديناصور مدرع معروف يمتلك مثل هذه الخصائص.

أهمية الاكتشاف: المغرب كنز للحفريات

يُعزز هذا الاكتشاف أهمية السجل الأحفوري في حل الألغاز التطورية وتعميق فهمنا للتوزيع الجغرافي للديناصورات. كما أنه يثير شغف الجمهور بالديناصورات مع كل معلومة جديدة نكتشفها عن خصائص هذه الكائنات الفريدة.

يقول البروفيسور إدريس وعرشي، قائد الفريق المغربي من جامعة سيدي محمد بن عبد الله: “هذه الدراسة تساعد في دفع عجلة البحث العلمي المغربي إلى الأمام. لم نر ديناصورات كهذه من قبل، ولا يزال هناك الكثير مما يمكن أن تقدمه هذه المنطقة.”

وقد تم تنظيف وتجهيز بقايا “سبايكوميلوس” في قسم الجيولوجيا بكلية العلوم في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في مدينة فاس المغربية، باستخدام معدات علمية وفرتها جامعة برمنجهام. ويتم الآن فهرسة الأحافير وتخزينها في هذا الموقع.

يمثل اكتشاف ديناصور “سبايكوميلوس” في المغرب علامة فارقة في علم الأحافير. إنه ليس مجرد ديناصور آخر، بل هو مفتاح لفهم تطور الأنواع المدرعة، ويكشف عن تعقيدات لم نكن نتوقعها في تصميم الكائنات الحية. من خلال درعيه الغريبين وأشواكه الطويلة التي كانت ربما تستخدم للتباهي، يُعيد “سبايكوميلوس” كتابة تاريخ الأنكيلوصوريات، ويُظهر أن الطبيعة لم تتوقف أبداً عن مفاجأتنا.

في كل يوم، يواصل باحثو الحفريات في جميع أنحاء العالم كشف أسرار كوكبنا، قطعة تلو الأخرى. وهذا الاكتشاف الأخير في جبال الأطلس المغربية هو تذكير بأن ما نعرفه عن الماضي لا يزال مجرد قمة جبل جليدي. فبين طيات الصخور والطبقات الجيولوجية، تكمن قصص لم تُروَ بعد، عن كائنات غريبة ومذهلة عاشت على هذه الأرض قبل ملايين السنين. قصة “سبايكوميلوس” هي دعوة للمزيد من البحث والتنقيب، واستكشاف ما لا نعرفه عن عالمنا.

طارق قابيل
Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أكاديمية البحث العلمي

User Avatar

د. طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.


عدد مقالات الكاتب : 58
الملف الشخصي للكاتب :

التالي

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *