Ad

الكون ليس كما يبدو، فالنجوم والكواكب والثقوب السوداء، وحتى نحن البشر، كل المواد التي يمكننا رؤيتها والتفاعل معها، تمثل فقط 20 إلى 30 % من كتلة الكون. والباقي عبارة عن مادة مظلمة. ولكن ما اعتقدناه دائمًا هو أن تلك المادة بعيدة في الكون السحيق، وليس داخل مجموعتنا الشمسية، ولكن أتى من يهدم ذلك الاعتقاد. اكتشف العالمان كارلوس بلانكو من جامعة برينستون وريبيكا لين من مختبر المسرع الوطني بمركز ستانفورد الخطي (SLAC) في أحدث أبحاثهما، أن المادة المظلمة قد تكون مختبئة على مرأى من الجميع، في الغلاف الجوي للكواكب مثل كوكب المشتري.

وتفتح هذه الدراسة الرائدة آفاقا جديدة للكشف عن المادة المظلمة، ومن المحتمل أن تفتح أسرار هذه المادة الغامضة ودورها في تشكيل الكون. بينما نتعمق في قصة المادة المظلمة، سنستكشف التاريخ المثير للاهتمام لنظرياتها، والعلم وراء اكتشافها، وإمكانية اكتشافها في مناطق مجهولة من أجواء الكواكب الخارجية.

فهم لغز المادة المظلمة

يُشار إلى المادة المظلمة غالبًا على أنها مادة “غير مرئية” أو “”غامضة” تشكل حوالي 70 إلى 80 % من كتلة الكون. ولكن ما هي المادة المظلمة بالضبط، ولماذا هي بعيدة المنال إلى هذا الحد؟

لفهم المادة المظلمة، دعونا نفكر أولاً في مفهوم المادة العادية، التي تشكل كل شيء يمكننا رؤيته والتفاعل معه، من النجوم والكواكب إلى البشر والغبار. تتكون المادة العادية من ذرات تتكون من بروتونات ونيوترونات وإلكترونات. وتتفاعل هذه الجسيمات مع بعضها البعض من خلال القوى الأساسية مثل الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوى النووية القوية والضعيفة.

من ناحية أخرى، لا يبدو أن المادة المظلمة تتفاعل مع المادة العادية بأي من هذه الطرق. فهي لا ينبعث منها أو تمتص أو تعكس أي إشعاع كهرومغناطيسي، مما يجعلها غير مرئية لتلسكوباتنا. ولا تتفاعل مع المادة العادية من خلال القوى النووية القوية أو الضعيفة، مما يعني أنها لا تشارك في التفاعلات النووية. ولا تستجيب للقوى الكهرومغناطيسية، مما يعني أنها لا تمتص الضوء أو ينبعث منها.

إذًا، كيف نعرف بوجود المادة المظلمة إذا لم نتمكن من رؤيتها أو التفاعل معها بشكل مباشر؟ الجواب يكمن في تأثير الجاذبية. يتم الشعور بوجود المادة المظلمة من خلال قوة جاذبيتها للمادة العادية. ومن خلال طرح تأثير الجاذبية للمادة العادية، يمكن للعلماء استنتاج وجود المادة المظلمة. ويُعتقد أن هذه الكتلة “غير المرئية” هي المسؤولة عن تأثيرات الجاذبية المرصودة.

أثارت الطبيعة المراوغة للمادة المظلمة قدرًا كبيرًا من الفضول والتكهنات العلمية. ماذا يمكن أن تكون هذه المادة الغامضة؟ هل هي نوع جديد من الجسيمات أو المجال؟ هل تتفاعل مع المادة العادية بطرق لم نكتشفها بعد؟

تاريخ موجز لنظريات المادة المظلمة

لقد كان مفهوم المادة المظلمة موجودًا منذ ما يقرب من قرن من الزمان، مع ظهور التلميحات الأولى لوجودها في ثلاثينيات القرن العشرين. اقترح عالم الفيزياء الفلكية السويسري فريتز زويكي أنه لا بد من وجود كتلة غير مرئية في الكون، بناءً على ملاحظاته لمجموعات المجرات. لقد أدرك أن المجرات الموجودة داخل هذه العناقيد كانت تتحرك بسرعات أكبر من المتوقع، مما يشير إلى وجود كتلة أكبر مما يمكن تفسيره بالمادة المرئية.

وفي السبعينيات، قام عالما الفلك فيرا روبين وكينت فورد باكتشاف مماثل أثناء دراسة منحنيات دوران المجرات. ووجدوا أن النجوم والغاز في هذه المجرات كانت تتحرك بسرعة ثابتة، بدلاً من أن تتباطأ كما ينبغي، مما يعني أن هناك قوة غير مرئية تلعب دورها. أُطلق على هذه “الكتلة المفقودة” اسم المادة المظلمة، وأصبحت منذ ذلك الحين عنصرًا أساسيًا في فهمنا للكون.

على مر السنين، ظهرت نظريات عديدة لشرح طبيعة المادة المظلمة، بدءًا من جسيمات التفاعل الضعيف الضخمة (WIMPs) وحتى الأكسيونات (axions) والنيوترينوات العقيمة (Sterile Neutrino). ولكل من هؤلاء المرشحين مجموعته الخاصة من الخصائص والتفاعلات، التي يعمل العلماء على اكتشافها ودراستها. واحدة من أكثر النظريات إثارة للاهتمام هي أن المادة المظلمة تتكون من جسيمات ذاتية الإبادة، وهو بالضبط ما يقترحه الباحثان كارلوس بلانكو وريبيكا لين حدوثه وتواجده في الغلاف الأيوني لكوكب المشتري.

دليل على وجود المادة المظلمة

يحمل الجانب الليلي من كوكب المشتري سرًا قد يحل لغز المادة المظلمة. وفي أعماق الغلاف الجوي للكوكب، تم اكتشاف وهج خافت للأشعة تحت الحمراء، ويعتقد العلماء أنه قد يكون علامة على وجود المادة المظلمة. يتم إنتاج هذا التوهج في طبقة الأيونوسفير بواسطة كاتيونات ثلاثي الهيدروجين (H3+)، وهي أيونات الهيدروجين المشحونة والموجودة بكثرة في الغلاف الجوي لكوكب المشتري. لكن المثير للاهتمام هو أن هذه الأيونات يمكن أن تنشأ نتيجة لتفاعل المادة المظلمة مع الكوكب.

إن كوكب المشتري بمثابة حوض جاذبية عملاق، يلتقط جزيئات المادة المظلمة التي تصطدم بعد ذلك وتفني بعضها البعض في غلافه الأيوني. ستؤدي هذا الإبادة إلى إطلاق دفعة من الطاقة، مما يؤدي إلى تأين الذرات المحيطة وإنشاء أيونات (H3+) التي تنبعث منها وهج الأشعة تحت الحمراء. تقترح النظرية أن هذا الفائض من أيونات (H3+) يمكن أن يكون دليلًا دامغًا على وجود المادة المظلمة، مما يوفر طريقة للكشف عن هذه المادة المراوغة بشكل غير مباشر.

جمال هذا النهج يكمن في بساطته. فمن خلال تحليل تركيبة الغلاف الأيوني وأنماط الإشعاع، تمكن العلماء من اكتشاف وجود المادة المظلمة بشكل غير مباشر. استخدم الباحثون بيانات من مطياف رسم الخرائط المرئية والأشعة تحت الحمراء (VIMS) الخاص بمسبار كاسيني للبحث عن علامات تؤكد هذه العملية. على الرغم من أنهم لم يجدوا زيادة واضحة في H3+، إلا أن نتائجهم قدمت دليلًا قيمة على كيفية تصرف المادة المظلمة.

المادة المظلمة في كوكب المشتري

إمكانية اكتشاف المادة المظلمة في الكواكب الخارجية

إن الاكتشاف الرائد لاحتمال إبادة المادة المظلمة في الغلاف الجوي لكوكب المشتري قد فتح الأبواب أمام حدود جديدة في الفيزياء الفلكية: وهي إمكانية اكتشاف المادة المظلمة في الكواكب الخارجية. هذا الاكتشاف له آثار بعيدة المدى على فهمنا للكون، ومن المحتمل أن يفتح أسرار المادة المظلمة الغامضة. ويقترح الفيزيائيان كارلوس بلانكو وريبيكا لين أن القياسات عالية الدقة لأطياف الكواكب يمكن أن تكون المفتاح لحل هذا اللغز.

ومن خلال تطبيق نفس مبادئ إبادة المادة المظلمة في الغلاف الجوي لكوكب المشتري على الكواكب الخارجية، قد يتمكن العلماء من اكتشاف بصمات تصادم جزيئات المادة المظلمة وفنائها. مما ينتج عنه إشعاعات مؤينة يمكن قياسها. قد يؤدي هذا إلى فهم أعمق لخصائص المادة المظلمة وسلوكها، مما يؤدي في النهاية إلى تسليط الضوء على طبيعتها المراوغة.

إن إمكانيات هذا الاكتشاف هائلة، حيث تنتظر آلاف الكواكب الخارجية دراستها. ويمثل كل واحد منها فرصة لكشف أسرار المادة المظلمة، ومع التقنيات المتقدمة وطرق الكشف المتطورة، فإن الاحتمالات لا حصر لها. وبينما نغامر أكثر في المجهول، فإن اكتشاف المادة المظلمة في الكواكب الخارجية يمكن أن يكون المفتاح لكشف أسرار الكون الخفي.

المصادر:

A Glow in Jupiter’s Night Could Be The Smoking Gun Signal For Dark Matter / science alert

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


فلك فضاء

User Avatar


عدد مقالات الكاتب : 339
الملف الشخصي للكاتب :

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *