
منذ فجر التاريخ، والإنسان ينظر إلى الأرض بعينين تائهتين بين روعة سطحها وغموض أعماقها. لطالما كانت الحركات الخفية في باطن كوكبنا هي المحرك الرئيسي لكل ما نشهده من ظواهر جيولوجية عنيفة وهادئة على حد سواء. وكأنما الأرض تحتفظ بأسرارها الكبرى في صميمها، ولا تفتح صناديقها إلا للعقول المثابرة التي لا تكل ولا تمل من البحث والتنقيب.
اليوم، نحن على موعد مع كشف علمي مبهر، جاء على يد فريق بحثي دولي ضم نخبة من العلماء، وعلى رأسهم زميلتنا الدكتورة ندى عزت علي عبد الحق من قسم الجيولوجيا بكلية العلوم، جامعة القاهرة. هذا البحث، الذي نُشر في مجلة “Nature Communications” المرموقة، لا يضيف سطرًا جديدًا إلى كتاب علوم الأرض، بل يُعيد كتابة فصلٍ كاملٍ منه!عندما يتبدل فهمنا لانتقال الحرارة في وشاح الأرض
دعونا نبدأ من الأساس: كيف تنتقل الحرارة في باطن الأرض؟ لعقود طويلة، كان فهمنا يعتمد بشكل أساسي على التوصيل الحراري الشبكي؛ أي انتقال الحرارة عبر اهتزازات الذرات في المواد الصلبة. كنا نُصوّر الأرض كجسم صلب يُسخن من الأسفل، وتنتقل الحرارة فيه ببطء عبر جزيئاته المتجاورة. لكن الطبيعة، كما عودتنا، غالبًا ما تخبئ لنا مفاجآت تتجاوز أبسط تصوراتنا.
هذه الدراسة الجديدة تُلقي ضوءًا ساطعًا على آلية أخرى، كانت تُهمل أو يُقلل من شأنها، وهي التوصيل الحراري الإشعاعي (Radiative thermal conductivity). تخيلوا معي أن باطن الأرض، ليس مجرد كتلة صماء تنتقل فيها الحرارة بالتلامس، بل هو أيضًا وسط يمكن للإشعاع الحراري أن يخترقه وينتقل خلاله، تمامًا كدفء الشمس الذي يصلنا عبر الفضاء. وهذا ما أثبته البحث ببراعة.
محتويات المقال :
الأوليفين: أكثر من مجرد صخرة
البطل الحقيقي في هذه القصة العلمية هو معدن يعرف باسم الأوليفين (Olivine). هذا المعدن الأخضر الزيتوني، الغني بالمغنيسيوم والحديد، يُشكل الغالبية العظمى من الوشاح العلوي للأرض (Upper Mantle) وكذلك الصفائح التكتونية الهابطة (Subducting Slabs). هذه الصفائح هي المحركات الكبرى لديناميكية كوكبنا، حيث تغوص أجزاء من القشرة الأرضية في أعماق الوشاح، ساحبة معها القارات ومسببة الزلازل والبراكين.
السؤال الذي حير العلماء طويلاً هو: كيف تتصرف هذه الصفائح حرارياً في ظروف الضغط والحرارة القصوى في باطن الأرض؟ الإجابة كانت تفتقر إلى جزء حيوي.
قفزة نوعية في قياسات باطن الأرض
هنا يأتي الإنجاز الفارق لهذا الفريق البحثي. لقد تمكنوا، لأول مرة، من قياس شفافية معدن الأوليفين عند ضغط ودرجة حرارة مرتفعين في آن واحد، وهي الظروف الواقعية الموجودة في باطن الأرض. تخيلوا معي التحدي التقني الهائل الذي يتطلبه هذا الأمر! لقد استخدموا تقنيات متطورة للغاية، مثل خلايا السندان الماسي المسخنة بالليزر (Laser-heated diamond anvil cells)، وهي أدوات دقيقة تسمح بإعادة تهيئة الظروف القاسية لباطن الأرض على عينة صغيرة جدًا في المختبر.
النتائج كانت مذهلة: أظهرت القياسات أن الأوليفين، حتى تحت هذه الظروف القاسية، يظل شفافًا نسبيًا للأشعة تحت الحمراء. هذا يعني أنه لا يمتص كل الإشعاع الحراري، بل يسمح لجزء كبير منه بالمرور عبره. بناءً على هذه القياسات الدقيقة، قدّر الفريق أن الموصلية الحرارية الإشعاعية تُمثل حوالي 40% من إجمالي الحرارة المنتشرة في الوشاح العلوي الغني بالأوليفين. رقم مذهل يُشير إلى أننا كنا نغفل جزءًا كبيرًا من الصورة الحرارية لكوكبنا!
200 كلفن: تغيير جذري في درجة حرارة الصفائح
بعد هذه القياسات الرائدة، قام الباحثون بدمج هذه البيانات الجديدة في النماذج العددية الحرارية (Thermo-kinematic numerical models) لمحاكاة سلوك الصفائح التكتونية الهابطة. وهنا جاءت الصدمة العلمية الكبرى: أظهرت النماذج أن هذا الانتقال الحراري المتزايد، الناتج عن التوصيل الإشعاعي للأوليفين، يُنتج زيادة في درجة الحرارة تصل إلى 200 كلفن (أي 200 درجة مئوية) في الصفائح الهابطة مقارنة بالنماذج السابقة التي لم تأخذ التوصيل الإشعاعي في الاعتبار بشكل كامل.
دعونا نتوقف لحظة عند هذا الرقم: 200 درجة مئوية! تخيلوا تأثير هذه الزيادة الكبيرة على العمليات الجيولوجية العميقة. الأمر أشبه باكتشاف موقد خفي كان يعمل في باطن الأرض دون أن ندرك حجم تأثيره الحقيقي.
تداعيات عميقة على فهمنا لكوكبنا
هذه الزيادة في درجة حرارة الصفائح الهابطة لها تداعيات عميقة وتُعيد تشكيل فهمنا للعديد من الظواهر الجيولوجية:
- ديناميكية الصفائح وتحركات الوشاح: الصفائح الأكثر دفئًا تكون أقل لزوجة (أكثر ليونة). هذا يعني أن حركة الصفائح التكتونية في الوشاح قد تكون أسرع وأكثر مرونة مما كنا نتصور. هذا التغير يؤثر على أنماط تدفق الوشاح، وهي القوة الدافعة لحركة الصفائح، وبالتالي يؤثر على توزيع الزلازل ومواقع البراكين. إنها معادلة معقدة تتطلب إعادة نظر شاملة.
- نقل المياه العميقة والنشاط البركاني: تُعد الصفائح الهابطة بمثابة “ناقلات مياه” عملاقة، حيث تحمل الماء من سطح الأرض إلى باطنها العميق في معادن معينة. عندما ترتفع درجة حرارة الصفيحة بمقدار 200 درجة مئوية، يحدث تجفيف مبكر لهذه المعادن، مما يؤدي إلى إطلاق الماء في الوشاح عند أعماق أقل مما كان متوقعًا. هذا الماء المحرر يقلل من نقطة انصهار الصخور، مما يُسهل تكوين الصهارة والنشاط البركاني المرتبط بمناطق الاندساس (Subduction Zones). كما يمكن أن يؤثر على حدوث الزلازل العميقة البؤرة (Deep-focus earthquakes)، التي لا تزال ظاهرة غامضة للعلماء.
- التطور الحراري للأرض: يلعب التوصيل الإشعاعي دورًا في كيفية تبريد الأرض بمرور الزمن. فهم هذه الآلية الجديدة يُحسن من نماذجنا لكيفية تطور كوكبنا حراريًا على مدى مليارات السنين، وكيف تتغير ديناميكيته مع مرور الوقت.
إنجاز مصري في صميم التعاون الدولي
هذا الإنجاز ليس فقط إضافة علمية عظيمة، بل هو شهادة حية على قيمة التعاون الدولي المثمر في البحث العلمي. فريق العمل ضم باحثين من معهد علوم الأرض وجامعة بوتسدام بألمانيا، ومعهد فيزياء الأرض وعلوم الفضاء بالمجر، وبقيادة علمية واضحة للدكتورة ندى عزت علي عبد الحق من كلية العلوم بجامعة القاهرة. هذا التضافر في الخبرات والموارد هو ما يُمكننا من كشف هذه الأسرار المعقدة في عالمنا.
آفاق جديدة تنتظر الكشف
إن هذا الاكتشاف العلمي ليس مجرد تفصيل أكاديمي، بل هو خطوة عملاقة نحو فهم أعمق لكوكبنا الحي. فمعرفة أن الأوليفين يعمل كموقد خفي يرفع حرارة الصفائح التكتونية بمثل هذا القدر يفتح آفاقًا بحثية لا حصر لها. نحن الآن بحاجة إلى إعادة تقييم العديد من النماذج الجيوفيزيائية، والبحث عن آليات حرارية أخرى ربما لم ندركها بعد.
إن الأرض، بفضل أمثال الدكتورة ندى وفريقها، تواصل الكشف عن أسرارها العميقة، مؤكدة أن العلم لا يعرف حدودًا وأن الفضول البشري هو مفتاح كشف الحقائق. تهانينا القلبية للدكتورة ندى عزت علي عبد الحق وكلية العلوم بجامعة القاهرة على هذا الإنجاز المشرف، الذي يُضاف إلى سجل مصر المضيء في خدمة العلم والمعرفة الإنسانية.
المصادر:
رابط الدراسة على موقع Nature Communications: https://www.nature.com/articles/s41467-025-61148-8
المصدر الرئيسي للدراسة: Marzotto, E., Koptev, A., Speziale, S., Koch-Müller, M., Abdel-Hak, N., Cichy, S. B., & Lobanov, S. (2025). Olivine’s high radiative conductivity increases slab temperature by up to 200K. Nature Communications, 16(1), 6058.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :