
كيف سيغير “مشروع الجينوم المرجعي” وجه الطب والبحث العلمي في المنطقة؟
في خطوة تاريخية تؤسس لمرحلة جديدة من السيادة العلمية والطبية، شهد المتحف القومي للحضارة المصرية فعاليات “يوم الجينوم الثالث”، وهو الحدث الذي لم يعد مجرد احتفالية سنوية، بل أصبح منصة لإعلان ميلاد “الطب الدقيق” في مصر وشمال إفريقيا. هذا المشروع القومي العملاق، الذي يحظى برعاية رئاسية مباشرة، يهدف إلى فك شفرة المادة الوراثية للمصريين، ليكون بمثابة حجر الزاوية في تحسين صحة المواطن، وتطوير أدوية تتناسب مع طبيعته الجينية، وحمايته من الأمراض الوراثية والمستعصية.
إن مشروع “الجينوم المرجعي للمصريين وقدماء المصريين” ليس مجرد مبادرة بحثية، بل هو استثمار استراتيجي في الأمن القومي الصحي، يضع مصر على خارطة الدول الكبرى التي تمتلك “أصولاً جينية” وبيانات ضخمة تمكنها من قيادة مستقبل التكنولوجيا الحيوية في المنطقة.
“يوم الجينوم الثالث”
شهد الدكتور أيمن عاشور، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، فعاليات هذا الحدث الهام الذي نظمته أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، بحضور نخبة من صناع القرار العلمي والطبي في مصر، وعلى رأسهم الدكتور محمد عوض تاج الدين، مستشار رئيس الجمهورية لشئون الصحة والوقاية، وقيادات القوات المسلحة ممثلة في مركز البحوث الطبية والطب التجديدي.
1. الجينوم كأصل وطني واستثمار للمستقبل
في كلمته الافتتاحية، أكد الدكتور أيمن عاشور أن هذا المشروع، الذي انطلق في مارس 2021، يمثل “نواة الطب الشخصي” في مصر. وأوضح الوزير أن الاستثمار في العلم هو الاستثمار الأنجع، مشيراً إلى أن المشروع يستهدف بحلول عام 2027 الانتهاء من جمع وتحليل 25 ألف عينة. هذا الرقم الضخم سيمكن العلماء من بناء أكبر قاعدة بيانات جينية للمصريين، مما يفتح الباب أمام تطبيقات عملية ثورية في التشخيص والعلاج والوقاية.
وأضاف الوزير أن المشروع يرسخ مكانة مصر الإقليمية، مثمناً الدور المحوري لمركز البحوث الطبية والطب التجديدي للقوات المسلحة، والشراكة الفعالة بين الوزارات والجامعات والمراكز البحثية، معتبراً المشروع “عملاً وطنياً موحداً” لاستعادة ريادة مصر في العلوم الحيوية.
2. المسارات الخمسة للمشروع: شمولية الرؤية
أحد أهم المستجدات التي تم الكشف عنها هو توسيع نطاق المشروع. فبعد أن كان يرتكز على أربعة مسارات، تم الإعلان عن التجهيز لمسار خامس. وتتوزع المسارات كالتالي:
أولاً: الجينوم السكاني (Population Genome): ويهدف لرسم الخريطة الجينية المرجعية التي تميز المصريين عن غيرهم من الشعوب، مما يساعد في فهم القابلية للإصابة بالأمراض الشائعة.
ثانياً: جينوم الأمراض النادرة (Rare Diseases Genome): وهو مسار حيوي نظراً لارتفاع معدلات زواج الأقارب في بعض المناطق، مما يزيد من احتمالية الأمراض الوراثية. يهدف هذا المسار لتشخيص هذه الأمراض بدقة والقضاء عليها.
ثالثاً: الجينوم الرياضي (Sports Genome): لدراسة السمات الجينية للرياضيين المصريين، مما يساعد في صناعة الأبطال وتوجيههم للرياضات المناسبة لتكوينهم البيولوجي.
رابعاً: جينوم قدماء المصريين (Ancient Egyptian Genome): دراسة جينات المومياوات المصرية لفهم التاريخ التطوري للأمراض ومقارنتها بالجينات المعاصرة.
خامساً (الجديد): جينوم النوابغ والمبتكرين: مسار مستحدث لدراسة العوامل الجينية التي قد ترتبط بالقدرات العقلية والإبداعية الفائقة.
3. تمويل ملياري وبنية تحتية عالمية
أكدت الدكتورة جينا الفقي، القائم بأعمال رئيس أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، أن الأكاديمية خصصت أكثر من مليار جنيه مصري لتمويل المشروع على مدى خمس سنوات. هذا التمويل الضخم يغطي:
- تسلسل (Sequencing) لـ 25 ألف جينوم.
- إنشاء “المركز الوطني للجينوم”.
- تطوير بنوك حيوية (Biobanks) متقدمة لحفظ العينات.
- بناء كوادر بشرية شابة مؤهلة في المعلوماتية الحيوية (Bioinformatics) وعلم الوراثة.
وأشارت الفقي إلى أن المشروع يُعد نقطة تحول تضع مصر في صدارة الدول الإفريقية والشرق أوسطية في مجال الطب الدقيق.
4. دور الطب العسكري والشراكة الاستراتيجية
لعب مركز البحوث الطبية والطب التجديدي التابع للقوات المسلحة دور “الحاضنة التنفيذية” للمشروع. وأوضح اللواء دكتور محمد الجوهري، المدير التنفيذي للمركز، أن الشراكة الناجحة بين الأكاديمية والمركز أثمرت عن مخرجات بحثية واعدة، تم نشر بعضها في مجلات علمية عالمية مرموقة (من الفئة الأولى Q1). وأكد الجوهري أن المشروع يمتلك الآن بنية تحتية قوية وكوادر مصرية شابة قادرة على قيادة هذا المجال.
5. نتائج المرحلة الأولى وتطبيقات “الطب الدقيق”
كشف اللواء دكتور خالد عامر، الباحث الرئيسي للمشروع، عن إنجازات المرحلة الأولى، حيث تم إجراء دراسة استرشادية شملت 1024 عينة. ركزت هذه العينات على الأمراض النادرة وسرطان الكبد، وجارٍ نشر نتائجها علمياً. وأكد عامر أن المشروع أسس “ذاكرة وراثية لمصر”، مشدداً على أن الهدف النهائي ليس فقط النشر العلمي، بل التطبيق العملي داخل المستشفيات، بحيث يحصل المريض المصري على الدواء والجرعة المناسبة بناءً على شفرته الجينية، وهو ما يعرف بـ “علم الصيدلة الجيني” (Pharmacogenomics).
لماذا هذا المشروع مهم الآن؟
وفقاً لأحدث الأبحاث في علم الجينوم (Genomics) لعام 2024-2025، فإن العالم يتجه بقوة نحو إنهاء عصر “الدواء الواحد للجميع”. تشير الدراسات إلى أن الاختلافات الجينية بين الشعوب تؤثر بشكل جذري على فعالية الأدوية.
السيادة الجينية: معظم البيانات الجينية المتاحة عالمياً تأتي من أصول أوروبية، مما يجعل الأدوية المصممة بناءً عليها قد لا تكون بنفس الفعالية لسكان الشرق الأوسط وإفريقيا. لذا، فإن وجود “جينوم مرجعي مصري” يعني استقلالاً دوائياً وقدرة على تصميم علاجات تناسب التركيبة البيولوجية للمنطقة.
الاقتصاد الحيوي: يُتوقع أن يوفر المشروع مليارات الجنيهات التي تُنفق على علاجات غير فعالة للأمراض المزمنة، أو على رعاية مرضى الأمراض الوراثية التي يمكن تجنبها أو علاجها مبكراً بفضل الفحص الجيني.
يُعد مشروع الجينوم المصري بمثابة “مشروع القرن” في مجال العلوم الطبية بمصر. إنه يتجاوز كونه بحثاً أكاديمياً ليصبح ركيزة أساسية في بناء “الجمهورية الجديدة” القائمة على العلم والمعرفة. إن النجاح في فك شفرة الجينوم المصري لا يعني فقط فهماً أعمق لماضينا عبر دراسة قدماء المصريين، بل يعني تأميناً لمستقبل أجيال قادمة ستنعم برعاية صحية مصممة خصيصاً لها، مما يعزز من جودة الحياة ويرفع من كفاءة المنظومة الصحية والاقتصادية للدولة المصرية.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :