
تخيل أنك تستيقظ في غرفتك المظلمة تماماً. دون أن تفتح عينيك، ودون أن تلمس الجدران، يمكنك وبثقة تامة أن ترفع يدك لتلمس طرف أنفك بدقة متناهية. في تلك اللحظة، أنت لا تستخدم البصر ولا اللمس؛ بل تستخدم “حاسة الوضعية” التي تخبر دماغك بمكان أطرافك في الفراغ.
بينما تسير نحو الحمام، تشعر بتوتر طفيف في كتفيك، وتدرك توازن جسدك وأنت تتفادى حافة السرير. تفتح صنبور الماء، فتسمع صوته وتشعر بدفئه، لكن عقلك يدمج هذه الإشارات مع رائحة الصابون ليخلق تجربة “الانتعاش”. نحن نعيش في عالم نعتقد أننا نبصره ونسمعه فقط، لكن الحقيقة أن أجسادنا هي “مفاعلات حسية” تعمل فيها عشرات الحواس الخفية بتناغم مذهل، بعيداً عما لقنونا إياه في المدارس.
فقرة الجوهر
لقد حان الوقت لوداع أسطورة “الحواس الخمس” التي أرساها أرسطو قبل آلاف السنين. فالعلم الحديث، عبر دراسات نشرتها دوريات كبرى مثل “نيتشر”، يكشف أننا نمتلك منظومة معقدة تضم ما بين 22 إلى 33 حاسة. هذا الاكتشاف ليس مجرد ترف فكري؛ بل هو مفتاح لفهم أمراض غامضة مثل السكتة الدماغية، والسمنة، والاضطرابات النفسية. إن فهم كيف “يشعر” جسده بداخله وكيف تتواصل أمعاؤه مع دماغه، قد يغير قريباً الطريقة التي نعالج بها أجسادنا وعقولنا.
وداعاً أرسطو.. أهلاً بالمنظومة المتداخلة
لقرون، حبسنا أنفسنا في سجن الحواس الخمس (البصر، السمع، الشم، التذوق، اللمس). لكن علماء الأعصاب اليوم يشبهون الحواس بـ “أدوات الفرقة الموسيقية“؛ فلا توجد آلة تعزف وحدها. فما نسميه “تذوقاً” هو في الواقع مزيج معقد؛ هل شعرت يوماً أن شعرك أصبح أكثر نعومة بمجرد شم رائحة شامبو الورد؟ هذا ليس وهماً، بل هو تداخل حسي حيث يغير الشم إدراكنا للملمس.
“الحس الداخلي”: الجاسوس الذي يسكننا
في مختبرات جامعة لندن ومركز “إعادة التفكير في الحواس“، يبرز مصطلح مثير“الحس الداخلي“ إذا كانت الحواس التقليدية هي نوافذنا على العالم الخارجي، فإن “الحس الداخلي” هو شبكة مراقبة داخلية متطورة. إنه النظام الذي يخبر دماغك بتوقيت التنفس، ومستوى ضغط الدم، وحتى محاربة العدوى، دون أن تضطر للتفكير في الأمر.
ويوضح البروفيسور شين جين من معهد “سكريبس” أن هذا الحس هو “الحدود غير المكتشفة” في علم الأعصاب. فالخلل في هذه المسارات العصبية قد يكون السبب الخفي وراء آلام مزمنة أو اضطرابات نفسية كالاكتئاب والقلق.
ميكروبات الأمعاء: من يمسك بزمام شهيتك؟
الاكتشاف الأكثر إثارة جاء من جامعة “ديوك”، حيث كشف البروفيسور دييغو بوركيز عن “حاسة عصبية ميكروبية”. تخيل أن بكتيريا أمعائك تمتلك “هاتفاً مباشراً” مع دماغك! هناك خلايا متخصصة في جدار القولون تعمل مثل “حارس بوابة متيقظ“. عندما تهضم البكتيريا الطعام، تفرز بروتيناً يسمى “فلاجيلين”، تلتقطه هذه الخلايا وترسل إشارة فورية عبر “العصب المبهم” إلى الدماغ لتقول له: “توقف عن الأكل، لقد شبعنا”.
في التجارب، كانت الفئران التي تفتقر لهذه “الحاسة” تأكل بشراهة دون توقف، تماماً كسيارة تعطلت فيها مكابحها. هذا يعني أن “قوة إرادتك” أمام الطعام قد لا تكون مجرد قرار عقلي، بل حوار كيميائي معقد يدور في أحشائك.
لماذا نشرب عصير الطماطم في الطائرات؟
العلم يفسر حتى غرائب عاداتنا. هل تساءلت يوماً لماذا يطلب الكثيرون عصير الطماطم على ارتفاع 30 ألف قدم؟ الأبحاث أظهرت أن ضجيج محركات الطائرة يعمل كـ “مُشوش حسي” يضعف إدراكنا للطعم السكري والمالح، لكنه في المقابل يعزز نكهة “الأومامي” (الطعم اللذيذ الموجود في الطماطم). إن حواسك تتغير بتغير البيئة المحيطة بك، تماماً ككاميرا تغير إعداداتها حسب الإضاءة.
هل نعرف أنفسنا حقاً؟
نحن نسير في هذا العالم ونحن نحمل “أطلساً” من الحواس التي لم تُرسم خرائطها بالكامل بعد. من “حاسة التوازن” في أذنك التي تخدعك عند إقلاع الطائرة، إلى “حاسة الملكية الجسدية” التي تجعلك تشعر أن يدك تنتمي إليك.
العلم اليوم لا يكتفي بإضافة حاسة سادسة أو سابعة، بل يعيد صياغة تعريف “الإنسان” ككيان متصل مع ميكروباته وبيئته. يبقى السؤال المعلق: إذا كانت حواسنا بهذا التعقيد والقدرة على التداخل والخدع، فهل ما ندركه عن “الواقع” هو الحقيقة كاملة، أم مجرد نسخة “معدلة” يختارها دماغنا لنستطيع البقاء؟
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :