
في سابقة تشريعية وتاريخية، وبعد عقود طويلة من التكتم، والاتهامات المتبادلة بين نظريات المؤامرة والتفسيرات العلمية، حسم الكونغرس الأمريكي أمره بفتح واحد من أكثر الملفات غموضاً في تاريخ الحرب الباردة. ففي خطوة صادق عليها مجلس النواب والشيوخ ضمن قانون تفويض الدفاع الوطني للسنة المالية 2026، سيبدأ مكتب المحاسبة الحكومي تحقيقاً رسمياً في احتمالية قيام وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) باستخدام القراد وحشرات أخرى كأسلحة بيولوجية وتعديلها وراثياً لنشر الأمراض.
ويُمثل قرار الكونغرس الأمريكي بفتح تحقيق في ملف “تسليح القراد” ضمن قانون الدفاع لعام 2026 لحظة فارقة تجمع بين السياسة، والتاريخ العسكري، والصحة العامة. التحقيق، الذي جاء استجابة لضغوط نشطاء وشهادات تاريخية موثقة في كتاب “Bitten”، سيبحث في أرشيف الحرب الباردة للتأكد مما إذا كانت الولايات المتحدة قد طورت القراد كسلاح بيولوجي، وهل كان لذلك دور في وباء “لايم” الحالي. وبينما يتمسك العلم بوجود البكتيريا تاريخياً، يركز التحقيق على احتمالية “التعديل والنشر المتعمد”. النتائج المنتظرة من مكتب المحاسبة الحكومي قد تعيد كتابة تاريخ الأمراض المعدية وتوفر إجابات طال انتظارها للمرضى.
هذا التحقيق الذي طال انتظاره من قبل ملايين المرضى المصابين بداء “لايم”، لا يهدف فقط إلى كشف المستور عن برامج عسكرية سرية ما بين عامي 1950 و1975، بل يسعى للإجابة عن سؤال مرعب: هل كان الانتشار الانفجاري لهذا المرض في النصف الثاني من القرن العشرين نتيجة تجربة عسكرية خرجت عن السيطرة؟
تحقيق في “تسليح الطبيعة”: ما الذي تغير الآن؟
يأتي هذا التحرك الحاسم بجهود مضنية قادها النائب الجمهوري كريس سميث (عن ولاية نيوجيرسي)، الذي نجح أخيراً في تمرير تعديله التشريعي بعد محاولات سابقة تعثرت في أروقة مجلس الشيوخ. وينص التعديل، الذي أصبح الآن جزءاً من القانون الذي ينتظر توقيع الرئيس، على إلزام المفتش العام لوزارة الدفاع بمراجعة الأرشيف السري للجيش، وكذلك سجلات المعاهد الوطنية للصحة (NIH) ومركز مكافحة الأمراض (CDC) ووزارة الزراعة، للبحث عن أي أدلة تثبت إجراء تجارب لحقن القراد ببكتيريا ومسببات أمراض فتاكة بهدف استخدامها ضد “الأعداء المحتملين”.
وقد علق وزير الصحة والخدمات الإنسانية (في الإدارة الحالية) روبرت كينيدي جونيور على هذا القرار قائلاً: “لقد حُرم الأمريكيون الذين يعانون من مرض لايم لعقود من التشخيص الدقيق والرعاية التي يستحقونها. إجراءات اليوم تدفعنا بحزم نحو اختبارات وعلاجات موثوقة تستند إلى تجارب المرضى الواقعية”.
الشرارة التي أشعلت الفتيل
لم يأتِ هذا التحقيق من فراغ، بل كان مدفوعاً بشكل كبير بما كشفته الكاتبة والصحفية العلمية كريس نيوبي في كتابها المثير للجدل “مطعون: التاريخ السري لمرض لايم والأسلحة البيولوجية“(Bitten: The Secret History of Lyme Disease and Biological Weapons).
استندت نيوبي في كتابها إلى وثائق ومقابلات حصرية مع الدكتور ويلي بورغدورفر، الباحث السويسري-الأمريكي الشهير الذي يُنسب إليه اكتشاف البكتيريا المسببة للمرض (Borrelia burgdorferi) والتي سميت تيمناً به في أوائل الثمانينيات.
المفاجأة التي فجرها الكتاب هي أن بورغدورفر كان يعمل باحثاً في برامج الأسلحة البيولوجية الأمريكية خلال الحرب الباردة. وتشير الوثائق التي تم الكشف عنها إلى أنه تم تكليفه بمهام تشمل:
- تهجين القراد: تربية أعداد هائلة من القراد وحقنها بمزيج من البكتيريا والفيروسات لجعلها أكثر فتكاً وصعوبة في الكشف.
- الإسقاط الجوي: دراسة طرق نشر هذه الحشرات فوق مناطق العدو لإحداث شلل وبائي صامت.
- تجارب النظائر المشعة: إطلاق قراد مشع لتتبع مسارات انتشاره وتكاثره في الطبيعة.
وتشير الفرضية إلى أن تسرباً عرضياً قد يكون حدث من مختبرات مثل مركز “جزيرة بلام” (Plum Island) للأمراض الحيوانية الواقع قبالة سواحل نيويورك وكونيتيكت (قرب مدينة لايم حيث اكتشف المرض)، مما أدى إلى انتقال هذه “الحشرات المعدلة” إلى البر الرئيسي وانتشارها بين السكان.
الجدل العلمي: بين الحقائق التاريخية والنظريات
على الرغم من خطورة هذه الادعاءات، يواجه التحقيق تحديات علمية كبيرة. فالمجتمع العلمي السائد، ممثلاً في باحثين من جامعات كبرى ومراكز أبحاث، يطرحون أدلة مضادة، أبرزها:
الحمض النووي القديم
أظهرت دراسات جينية على عينات من المتاحف وعينات تاريخية أن بكتيريا (Borrelia burgdorferi) كانت موجودة في أمريكا الشمالية قبل فترة طويلة من الحرب الباردة، ووجدت في عينات تعود لآلاف السنين.
التغير البيئي
يعزو علماء البيئة الانفجار في أعداد الإصابات إلى عوامل مثل تفتت الغابات، وتغير المناخ الذي سمح للقراد بالعيش في مناطق كانت باردة سابقاً، وزيادة أعداد الغزلان والفئران (العوائل الوسيطة للمرض).
ومع ذلك، يرد أنصار التحقيق بأن وجود البكتيريا قديماً لا ينفي احتمالية قيام العلماء العسكريين باختيار سلالات أكثر عدوانية أو تعديلها لتكون مقاومة للمضادات الحيوية، ثم إطلاقها، وهو ما يفسر شدة الأعراض وصعوبة العلاج في الحالات المزمنة اليوم.
داء لايم: العدو الخفي
لفهم أهمية هذا التحقيق، يجب النظر إلى حجم المعاناة الصحية. داء لايم هو مرض بكتيري تسببه بكتيريا لولبية الشكل (Spirochete)، وينتقل عبر لدغة “القراد ذو الأرجل السوداء“.
الأعراض المبكرة: تشمل حمى، صداعاً، إرهاقاً شديداً، وطفحاً جلدياً مميزاً يُعرف بـ “عين الثور”، يظهر حول مكان اللدغة.
المضاعفات الخطيرة: إذا لم يُعالج المرض بالمضادات الحيوية في مراحله الأولى، قد تنتشر البكتيريا إلى المفاصل والقلب والجهاز العصبي، مسببة التهابات مفاصل مزمنة، شللاً في الوجه (Bell’s palsy)، واضطرابات في نظم القلب، ومشاكل في الذاكرة والتركيز، وهو ما يُعرف بـ “داء لايم المزمن” (Chronic Lyme Disease)، وهي حالة لا تزال تثير جدلاً طبياً حول أفضل طرق علاجها.
إن فتح هذا الملف الشائك ليس مجرد محاكمة للتاريخ، بل هو خطوة ضرورية نحو المستقبل. فإذا ثبت أن سلالات معينة من الأمراض التي تنقلها الحشرات اليوم هي نتاج “عبث بشري” في المختبرات، فإن ذلك قد يفتح الباب أمام طرق علاجية جديدة تعتمد على فهم التركيب الجيني لهذه السلالات المعدلة. وفي كل الأحوال، سواء أثبت التحقيق صحة النظرية أو دحضها، فإنه سيضع حداً لعقود من الشكوك، ويوجه الانتباه والموارد اللازمة لمكافحة واحد من أكثر الأمراض انتشاراً وإهمالاً في العصر الحديث. الحقيقة، مهما كانت مؤلمة، هي الدواء الأول الذي يحتاجه ملايين المرضى للتعافي.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :