Ad

في ظل تسارع وتيرة التلوث البيئي، تبرز أزمة البلاستيك (Plastics) كواحدة من أخطر التحديات التي تواجه كوكبنا وصحة الإنسان. لطالما حذر العلماء والمنظمات البيئية من التراكم الهائل للنفايات البلاستيكية في محيطاتنا وأراضينا، ولكن الجديد والمثير للقلق، هو أن هذا التلوث لم يعد مقتصرًا على البيئة الخارجية، بل بات يتسلل إلى أعماق جسد الإنسان، مهددًا صحته وخصوبته. كشفت دراسة علمية حديثة، أصدرت عنها منظمة غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (Greenpeace MENA)، عن اكتشاف صادم: وجود الجزيئات البلاستيكية الدقيقة (Microplastics) في سائل المبيض البشري. هذا الاكتشاف يمثل جرس إنذار حقيقي، ويدفعنا للتساؤل: ما هو حجم هذا الخطر الصامت؟ وكيف يمكن لهذه الجزيئات الدقيقة أن تؤثر على مستقبل الإنجاب البشري؟


الميكروبلاستيك: ضيف غير مرغوب فيه في حرمة الخلية الإنجابية

لطالما ظن الإنسان أن جسده قلعة حصينة ضد الملوثات الخارجية، لكن مع التقدم العلمي وتطور تقنيات الكشف، تتكشف حقائق صادمة تغير هذا المفهوم. جاءت الدراسة الحديثة لتلقي الضوء على حقيقة مرعبة: الميكروبلاستيك، تلك الجزيئات الصغيرة جدًا من البلاستيك التي لا يتجاوز حجمها 5 مليمترات، قد وجدت طريقها إلى سائل المبيض البشري (Human Follicular Fluid). هذا السائل الحيوي هو الوسط الذي يحيط بالبويضة ويغذيها أثناء تطورها داخل المبيض، مما يعني أن وجود الميكروبلاستيك فيه يضع الجزيئات البلاستيكية على تماس مباشر مع الخلية التناسلية الأنثوية الأساسية.

أجريت الدراسة على عينات من سائل المبايض لسيدات كن يخضعن لعلاج الإخصاب في إيطاليا، وهي منطقة تقع على الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط الذي يعاني من مستويات عالية جدًا من التلوث البلاستيكي. وجود هذه الجزيئات في معظم العينات التي تم فحصها يثير تساؤلات جدية حول كيفية وصولها إلى هذا الموقع الحساس داخل الجسم، وما هي الآثار المترتبة على ذلك.

كيف تتسلل الجزيئات البلاستيكية الدقيقة إلى أجسامنا؟

إن انتشار الميكروبلاستيك في البيئة بات واسع النطاق، وهو ما يسهل وصولها إلى جسم الإنسان عبر مسارات متعددة، تشمل:

  • الغذاء والماء: تعتبر الأغذية والمياه الملوثة من المصادر الرئيسية لدخول الميكروبلاستيك إلى الجسم. فالمياه المعبأة في زجاجات بلاستيكية، والأسماك والمحاريات التي تعيش في بيئات ملوثة بالبلاستيك، وحتى ملح الطعام، قد تحتوي على كميات من الميكروبلاستيك.
  • الهواء الذي نتنفسه: تنتشر جزيئات الميكروبلاستيك في الهواء نتيجة لتآكل المنتجات البلاستيكية، وحرق النفايات، وتطاير الألياف الصناعية من الملابس. نستنشق هذه الجزيئات دون أن ندرك ذلك.
  • منتجات العناية الشخصية ومستحضرات التجميل: تحتوي بعض هذه المنتجات على حبيبات بلاستيكية دقيقة (Microbeads) تستخدم كمقشرات أو عوامل حشو، والتي قد تدخل الجسم عن طريق الجلد أو الفم.
  • الأدوات المنزلية اليومية: العديد من المنتجات البلاستيكية الشائعة، مثل مواد التغليف، والمستلزمات ذات الاستخدام الواحد، وأدوات الطهي غير اللاصقة، تطلق باستمرار جسيمات الميكروبلاستيك مع مرور الوقت والاستخدام.

بمجرد دخول هذه الجزيئات إلى الجسم، يمكنها أن تنتقل عبر الدم والسوائل الجسدية المختلفة، لتصل إلى الأعضاء والأنسجة، بما في ذلك الجهاز التناسلي.

الخطر على الصحة الإنجابية: تفاصيل مقلقة

تشير فرح الحطاب، مسؤولة حملة البلاستيك في منظمة غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى أن “هذه الأدلة الجديدة تكشف أن هذه الجسيمات باتت تتسلل إلى أكثر الأماكن خصوصية وجوهرية في جسم الإنسان.” وهذا التسلل يثير مخاوف جدية بشأن الصحة الإنجابية (Reproductive Health) لكل من النساء والرجال.

على الرغم من أن آليات التأثير الدقيقة للميكروبلاستيك على الصحة الإنجابية لا تزال قيد البحث والتطوير، إلا أن العلماء يشيرون إلى عدة فرضيات محتملة:

  1. الاضطراب الهرموني: يمكن للميكروبلاستيك أن يعمل كـ “مواد كيميائية معطلة للغدد الصماء” (Endocrine-Disrupting Chemicals – EDCs). هذه المواد تحاكي الهرمونات الطبيعية في الجسم أو تتداخل مع عملها، مما قد يؤثر على التوازن الهرموني الضروري لعملية الإنجاب، ويؤدي إلى مشاكل في الإباضة أو جودة الحيوانات المنوية.
  2. الالتهاب والإجهاد التأكسدي: قد تسبب جزيئات الميكروبلاستيك استجابة التهابية في الأنسجة التي تتواجد فيها، بالإضافة إلى الإجهاد التأكسدي (Oxidative Stress)، وهما عمليتان يمكن أن تلحق الضرر بالخلايا والأنسجة، بما في ذلك الخلايا التناسلية (البويضات والحيوانات المنوية) والأعضاء التناسلية.
  3. التأثير على جودة الخلايا الجنسية: وجود الميكروبلاستيك في سائل المبيض قد يؤثر مباشرة على جودة البويضات النامية، ويعيق نضجها الطبيعي، أو يقلل من قابليتها للإخصاب. كما تشير بعض الدراسات الأولية إلى أن الميكروبلاستيك يمكن أن يؤثر سلبًا على حركة الحيوانات المنوية وشكلها، مما يقلل من خصوبة الرجال.
  4. تأثيرات على الحمل والنمو الجنيني: إذا تمكنت هذه الجزيئات من الوصول إلى الرحم أو المشيمة، فقد يكون لها تأثيرات خطيرة على تطور الحمل وصحة الجنين، مما يزيد من مخاطر المضاعفات مثل الإجهاض أو الولادة المبكرة.

تؤكد الحطاب أن “وجود البلاستيك في المادة التي تحتضن الحياة قبل الولادة هو جرس إنذار لا يمكن للعالم تجاهله.” وتضيف أن العديد من المنتجات البلاستيكية الشائعة، “مثل القوارير البلاستيكية، وأدوات الطهي غير اللاصقة، ومستحضرات التجميل التي تحتوي على حبيبات دقيقة، وغيرها الكثير… تُشكّل تهديداً صامتاً لصحتنا وخصوبتنا ومستقبلنا”.


بؤرة لتسرب البلاستيك البحري

تزداد خطورة الوضع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (Middle East and North Africa – MENA). يشير تقرير البنك الدولي إلى أن هذه المنطقة تسجل أعلى معدل للفرد من تسرب البلاستيك إلى البيئة البحرية، حيث يُطلق الفرد الواحد في المتوسط أكثر من 6 كيلوغرامات من النفايات البلاستيكية إلى المحيط سنويًا. هذا الرقم المهول يعكس حجم التحدي وضرورة التحرك العاجل. فكلما زاد التلوث البلاستيكي في البيئة المحيطة بنا، زادت احتمالية دخول هذه الجزيئات إلى أجسادنا.


دعوة عاجلة لعمل عالمي: نحو مستقبل خالٍ من البلاستيك

في ظل هذه التطورات المقلقة، جددت منظمة غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دعوتها إلى اتخاذ إجراءات عاجلة على المستويين الدولي والفردي لمواجهة أزمة التلوث البلاستيكي.

على المستوى الدولي: معاهدة عالمية قوية ومُلزمة

تؤكد المنظمة على ضرورة إقرار معاهدة عالمية قوية وطموحة بشأن البلاستيك (Global Plastics Treaty) خلال الدورة الثانية من الجزء الخامس للجنة التفاوض الحكومية الدولية المعنية بوضع قالب قانوني مُلزم لمعالجة التلوث البلاستيكي، والمقرر عقدها في شهر أغسطس/آب في جنيف. هذه المعاهدة يجب أن تتضمن:

  • أهدافًا مُلزمة لتقليص الإنتاج: يجب أن يكون هناك تحديد وقيود واضحة على حجم إنتاج البلاستيك، خاصة البلاستيك البكر (Virgin Plastic)، لتقليل المصدر الأساسي للتلوث.
  • حظر المنتجات ذات الاستخدام الواحد (Single-Use Plastics): هذه المنتجات هي المساهم الأكبر في التلوث البلاستيكي، ويجب التوقف عن استخدامها واستبدالها ببدائل مستدامة.
  • تبني أهداف طموحة لإعادة الاستخدام (Reuse Targets): بدلاً من الاعتماد الكلي على إعادة التدوير (Recycling)، يجب التركيز على أنظمة إعادة الاستخدام التي تقلل من الحاجة إلى إنتاج جديد.
  • آليات تمويل قوية: لضمان انتقال عادل ومنصف نحو مستقبل خالٍ من البلاستيك، يجب توفير التمويل اللازم للدول النامية لمساعدتها على تطوير بنيتها التحتية وتقنياتها لمكافحة التلوث.

تطالب فرح الحطاب قادة المنطقة بـ “العمل من أجل معاهدة عالمية تتضمن أهدافاً ملزمة لتقليص الإنتاج، وحظر المنتجات ذات الاستخدام الواحد، وتبنّي أهداف طموحة لإعادة الاستخدام، وآليات تمويل قوية تضمن انتقالاً عادلاً ومنصفاً نحو مستقبل خالٍ من البلاستيك في منطقتنا”.

على المستوى الفردي: تغييرات بسيطة ذات تأثير كبير

لا يقل دور الفرد أهمية عن دور الحكومات والمؤسسات. يمكن لكل منا أن يساهم في الحد من تعرضه للميكروبلاستيك وتقليل بصمته البلاستيكية. تقترح غرينبيس الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عدة خطوات عملية:

  • استخدام عبوات وأدوات من الزجاج أو الفولاذ المقاوم للصدأ: استبدل القوارير البلاستيكية والأواني البلاستيكية ببدائل أكثر أمانًا وصديقة للبيئة.
  • التخلي عن المنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد: قلل من استخدام الأكياس البلاستيكية، والأكواب، والأدوات البلاستيكية، واستخدم البدائل القابلة لإعادة الاستخدام.
  • اختيار الملابس المصنوعة من الألياف الطبيعية: الملابس المصنوعة من الألياف الاصطناعية (مثل البوليستر والأكريليك) تطلق أليافًا بلاستيكية دقيقة أثناء الغسيل. اختر الأقمشة الطبيعية مثل القطن والكتان والصوف.

تذكر الحطاب أن “الحلول موجودة في التقاليد قليلة النفايات التي لطالما مارسناها في منطقتنا”، في إشارة إلى أن مفهوم الاستدامة ليس بجديد على ثقافتنا العربية.


معركة من أجل حقنا في الحياة والصحة

إن اكتشاف الميكروبلاستيك في سائل المبيض البشري ليس مجرد خبر علمي عابر، بل هو إنذار قاسٍ يذكرنا بالثمن الباهظ الذي ندفعه جراء تلوثنا المستمر للبيئة. هذا الخطر الصامت يتسلل إلى أجسادنا، ويهدد أساس وجودنا: القدرة على الإنجاب وتكوين أجيال المستقبل.

تؤكد المنظمات البيئية، وعلى رأسها غرينبيس، أن المعركة ضد البلاستيك هي في جوهرها “معركة من أجل حقنا في حياة صحية ومستقبل صالح للعيش لنا وللأجيال القادمة. ويجب أن نخوضها على جميع الجبهات”. إن الوعي بهذا الخطر، والتحرك على المستويين الفردي والدولي، هو السبيل الوحيد لضمان مستقبل خالٍ من التلوث البلاستيكي، ومحافظة على صحة الإنسان وخصوبته. لقد حان الوقت لأن نغير سلوكنا، ونلزم قادتنا باتخاذ قرارات جريئة تضع صحة الإنسان والكوكب فوق أي اعتبارات أخرى. فالمستقبل الذي نتمناه لأبنائنا يبدأ من القرارات التي نتخذها اليوم.

طارق قابيل
Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أكاديمية البحث العلمي

User Avatar

د. طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.


عدد مقالات الكاتب : 24
الملف الشخصي للكاتب :

التالي

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *