
محتويات المقال :
في عالم تتسارع فيه وتيرة الابتكار وتتداخل فيه مجالات المعرفة، شهد أسبوع باريس للهوت كوتور (Haute Couture Week) لحظة تاريخية قلبت المفاهيم التقليدية للأزياء رأسًا على عقب. لم يكن الأمر مجرد عرض لمجموعة جديدة من التصاميم الفاخرة، بل كان إعلانًا عن ميلاد حقبة جديدة تتشابك فيها خيوط الموضة مع أسرار الطبيعة والفيزياء الحيوية. فستان متوهج، ليس بالكريستال أو الأضواء الصناعية، بل بفضل ملايين الكائنات الحية الدقيقة التي تضيء بوهجها الخاص، مقدماً “مظهرًا حيويًا” (Living Look) فريدًا من نوعه.
هذا الابتكار المذهل، الذي قدمته مصممة الأزياء الهولندية الشهيرة إيريس فان هيربن (Iris van Herpen)، لم يكن ليتحقق لولا تضافر جهود مصممين وعلماء فيزياء حيوية من جامعة أمستردام (Universiteit van Amsterdam). يمثل هذا الفستان، المكون من 125 مليون طحلب حيوي مضيء، قفزة نوعية في عالم الأزياء المستدامة والتقنية الحيوية، ويفتح آفاقًا واسعة لمستقبل تتنفس فيه الأقمشة وتتوهج بالحياة. إنه ليس مجرد قطعة ملابس، بل هو عمل فني وعلمي يجسد التناغم بين إبداع الإنسان وعجائب الطبيعة، ويدعونا للتفكير في العلاقة المتغيرة بيننا وبين بيئتنا.
الفستان المتوهج: تحفة فنية حيوية
في قلب مجموعة “سيمبويزيس” (Sympoiesis) الجديدة، التي عرضتها إيريس فان هيربن في أسبوع باريس للهوت كوتور، برز فستان افتتاحي استثنائي. هذا الفستان، الذي أُطلق عليه اسم “المظهر الحي” (Living Look)، هو الأول من نوعه في العالم، وقد صُنع من 125 مليون طحلب حيوي مضيء (Bioluminescent Algae) من نوع Pyrocystis lunula. هذه الطحالب، التي سُميت بهذا الاسم نسبةً لشكلها الشبيه بالقمر (lunula تعني هلال صغير)، لا تزال حية داخل الفستان وتطلق ضوءًا متوهجًا استجابةً لحركة مرتديها.
تجسد فان هيربن، المعروفة بدمجها الدائم بين الإيقاعات البدائية للعضوي والمتطلبات البشرية للتكنولوجيا، رؤيتها في هذا العمل الفني. فمنذ ما يقرب من عقدين من الزمن، وهي تعمل في تناغم مع هذه الفلسفة، مقدمةً تصاميم تتجاوز حدود الموضة التقليدية. وقد تطلب هذا الابتكار تعاونًا فريدًا بين عوالم مختلفة: عالم الأزياء الراقية وعالم الطبيعة الساحر.
لقد كان هذا الإنجاز ثمرة شراكة متعددة التخصصات، حيث عملت فان هيربن مع مصمم الكائنات الحيوية (Biodesigner) كريس بيلامي (Chris Bellamy)، وبالتعاون الوثيق مع الباحثين نيكو شراما (Nico Schramma) ومازي جلال (Mazi Jalaal) من جامعة أمستردام. هذا التعاون يبرز كيف يمكن للفيزياء الحيوية (Biophysics) أن تلهم وتغير وجه صناعات بأكملها، مثل صناعة الأزياء، نحو مستقبل أكثر استدامة وتفاعلية.
الطحالب المضيئة: سر التوهج الأزرق
السر وراء توهج الفستان يكمن في ملايين الخلايا وحيدة الخلية من الطحالب المضيئة من نوع Pyrocystis lunula. هذه الكائنات الدقيقة هي المسؤولة عن ظاهرة طبيعية ساحرة تُعرف باسم “زيفونك” (Zeevonk)، أو “شرارة البحر” باللغة الهولندية، وهي عبارة عن ازدهار الطحالب المضيئة التي تلون السواحل بوهج أزرق غامض، يزداد سطوعًا بشكل خاص عندما تتكسر الأمواج على الشاطئ.
آلية الإضاءة الحيوية: “جرس إنذار اللص”
في بيئتها الطبيعية، تُعد الإضاءة الحيوية (Bioluminescence) لهذه الطحالب نتيجة لآلية دفاعية معقدة. عند تعرضها لمؤثرات ميكانيكية (Mechanical Cues)، مثل الاضطرابات في الماء التي تحدث عند اقتراب حيوان مفترس، تُطلق هذه الطحالب وميضًا ضوئيًا. يُشار إلى هذه الآلية عادةً باسم آلية “جرس إنذار اللص” (Burglar Alarm Mechanism). يخدم هذا الوميض الضوئي كإشارة تحذير، ويمكنه جذب حيوانات مفترسة ثانوية (Secondary Predators) تتغذى على المفترس الأساسي للخلايا، وبالتالي توفير حماية للطحالب.
تعتمد هذه الآلية على تفاعلات كيميائية حيوية داخل الخلية. تحتوي طحالب Pyrocystis lunula على صبغة تسمى لوسيفيرين (Luciferin) وإنزيم يسمى لوسيفيراز (Luciferase). عندما تتعرض الخلية لإجهاد ميكانيكي، تتغير مستويات الأس الهيدروجيني (pH) داخل الخلية، مما يؤدي إلى تنشيط إنزيم اللوسيفيراز. يقوم هذا الإنزيم بتحفيز أكسدة اللوسيفيرين، وهي عملية كيميائية تطلق طاقة على شكل ضوء. هذا الضوء هو ما نراه كوهج أزرق أخاذ.
خصائص طحلب Pyrocystis lunula الفريدة
تتميز طحالب Pyrocystis lunula بخصائص فريدة تجعلها مثالية لهذا النوع من التطبيقات. فهي:
- وحيدة الخلية: مما يسهل دمجها في المواد الهلامية.
- كروية الشكل: مما يمنحها خصائص بصرية معينة.
- حساسة للمنبهات الميكانيكية: وهي الخاصية الأساسية التي تم استغلالها في الفستان.
- غير سامة: مما يجعلها آمنة للاستخدام في تطبيقات يمكن أن تتلامس مع البشر.
- تنتج ضوءًا ساطعًا: يكفي ليكون مرئيًا بوضوح.
رحلة البحث العلمي: من المختبر إلى منصة العرض
لم يكن الوصول إلى هذا الفستان المضيء وليد الصدفة، بل كان تتويجًا لسنوات من البحث العلمي الدقيق والتعاون متعدد التخصصات. بدأت الرحلة في مختبرات الفيزياء الحيوية، حيث سعى العلماء إلى فهم آليات الإضاءة الحيوية لهذه الكائنات الدقيقة.
فهم الاستجابة الميكانيكية في كامبريدج
في عامي 2019 و2020، قام الفيزيائيون الحيويون مازي جلال ونيكو شراما وزملاؤهم بدراسة قدرة هذه الخلايا على قياس الإجهادات الميكانيكية والاستجابة لها في مختبر البروفيسور راي غولدشتاين (Prof. Ray Goldstein) بجامعة كامبريدج (University of Cambridge).
من خلال الجمع بين تقنيات المجهر (Microscopy) والاختبارات الميكانيكية، حيث قام العلماء بإمساك خلايا فردية باستخدام ماصات دقيقة (Micropipettes) وقاموا بضغطها بلطف بسرعات وأعماق مختلفة، تمكنوا من قياس انبعاث الضوء من الخلايا اعتمادًا على طرق التشوه المختلفة. أدت هذه الأبحاث إلى تطوير نموذج رياضي (Mathematical Model) يصف آلية إنتاج الضوء المعقدة، وقد نُشر هذا النموذج في مجلة “فيزيكال ريفيو ليترز” (Physical Review Letters)، وهي مجلة علمية مرموقة في مجال الفيزياء.
تطوير المادة الهلامية المضيئة في كاليفورنيا
بعد ذلك، وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، تعاون شراما وجلال مع تشنغهاي لي (Chenghai Li) والبروفيسور شنغكيانغ كاي (Prof. Shengqiang Cai) في جامعة كاليفورنيا سان دييغو (University of California San Diego).
بالتعاون مع باحث الإضاءة الحيوية البروفيسور مايكل لاتز (Prof. Michael Latz) من معهد سكريبس لعلوم المحيطات في سان دييغو (Scripps Institution of Oceanography in San Diego)، قاموا بتطوير مادة جديدة ومبتكرة. هذه المادة عبارة عن مصفوفة هلامية (Gel Matrix) تم دمج الخلايا فيها، مما أدى إلى إنشاء مادة مرنة ومقاومة (Flexible yet Resistant Substance) تُصدر الضوء عند تشوهها، مع الحفاظ على الخلايا حية حتى خارج الماء. في هذا التعاون، قام شراما وجلال بتوسيع نموذجهم للتنبؤ بانبعاث الضوء بناءً على تشوه هذه المادة المعقدة، بدلاً من مجرد الخلايا الفردية.
كانت هذه خطوة حاسمة، حيث أتاحت إمكانية استخدام الطحالب المضيئة في تطبيقات تتطلب مرونة واستقرارًا، وهو ما لم يكن ممكنًا عندما كانت الخلايا تُدرس فقط في بيئتها المائية الطبيعية.
من الفيزياء إلى التصميم الحيوي ثم الموضة
أدت المواد الجديدة إلى الابتكار، وسرعان ما وجدت هذه المادة الخاصة تطبيقات مختلفة، خاصة في الفن والتصميم. برزت هذه المادة بشكل ملحوظ في أعمال مصمم الكائنات الحيوية كريس بيلامي (Chris Bellamy).
استخدم بيلامي هذه المواد لصب (Cast) كائنات مختلفة بالتعاون مع مجتمعات في بولينيزيا الفرنسية (French Polynesia)، حيث تُعد الإضاءة الحيوية للبحر ظاهرة أكثر شيوعًا – ولكنها لا تزال ساحرة – بالنسبة لهم. هذا يبرز كيف يمكن للعلم أن يلتقي بالثقافة المحلية والفن ليخلق تجارب فريدة.
كانت الخطوة التالية هي الانتقال من التصميم الحيوي (Biodesign) إلى عالم الموضة الراقية. على مدى الأشهر القليلة الماضية، قام بيلامي بتطوير وتحسين المادة المضيئة حيوياً في تعاون قادته مصممة الأزياء إيريس فان هيربن، التي تتخذ من أمستردام مقراً لها. داخل قاعات مجمع العلوم (Science Park) بجامعة أمستردام، وبالتعاون مع نيكو شراما ومختبر مازي جلال في معهد الفيزياء ومركز تكنولوجيا مجمع العلوم، قام بتحسين طرق تطوير هذه المادة ونجح في إنشاء العناصر المضيئة حيوياً المستجيبة ميكانيكياً في الفستان الذي صممته وصنعته إيريس فان هيربن.
هذا التعاون يمثل مثالاً رائعاً على “العلوم المفتوحة” (Open Science) و”الابتكار المفتوح” (Open Innovation)، حيث يتم تبادل المعرفة والخبرات بين الأكاديميين والمصممين والفنانين لدفع حدود ما هو ممكن.
فستان حي: رعاية نظام بيولوجي متكامل
النتيجة النهائية هي اندماج جميل بين الفيزياء، والبيولوجيا، والتصميم، والأزياء. لكن هذا الفستان ليس مجرد قطعة قماش ثابتة؛ إنه نظام حي (Living System) يتطلب رعاية وعناية خاصة للحفاظ عليه حيًا ومتوهجًا.
للحفاظ على الفستان حيًا، يعتني الأتيليه (Atelier) – وهو ورشة عمل المصمم – بهذا النظام الحي بعناية فائقة. يجب ضبط عوامل مثل الرطوبة (Humidity)، ودرجة الحرارة (Temperature)، والإيقاع اليومي (Circadian Rhythm) لتتناسب مع بيئة الطحالب البحرية الطبيعية. هذا يعني أن الفستان يحتاج إلى بيئة محكومة ومراقبة باستمرار لضمان بقاء 125 مليون طحلب من نوع Pyrocystis lunula على قيد الحياة وتأدية وظيفتها.
تتطلب رعاية هذا الفستان، وما يحتويه من كائنات حية دقيقة، علاقة تكافلية (Symbiotic Relationship) بين الإنسان والفستان نفسه. هذا يعيد تعريف تقاليد التصنيع لدينا بالكامل، حيث يتم “زراعة” (Cultivated) الفستان بدلاً من “بنائه” (Constructed). هذا التحول في الفلسفة له آثار عميقة على صناعة الأزياء، ويدفع باتجاه نماذج إنتاج أكثر استدامة وأكثر احترامًا للطبيعة.
التحديات والآفاق المستقبلية
إن فكرة “الملابس الحية” تثير العديد من التحديات والأسئلة المثيرة للاهتمام:
- الصيانة: كيف يمكن للمستهلك العادي أن يعتني بقطعة ملابس تتطلب ظروفًا بيئية محددة؟
- العمر الافتراضي: ما هو العمر الافتراضي لهذه الكائنات الحية داخل الفستان؟ وهل يمكن “إعادة شحنها” أو استبدالها؟
- التكلفة: هل ستكون هذه التقنيات باهظة الثمن بحيث تقتصر على الأزياء الراقية، أم يمكن أن تصبح متاحة على نطاق أوسع؟
- الأخلاقيات: ما هي الاعتبارات الأخلاقية المترتبة على استخدام الكائنات الحية في المنتجات الاستهلاكية؟
ومع ذلك، فإن الآفاق المستقبلية واعدة. يمكن أن تفتح هذه التقنيات الباب أمام:
- الأزياء المستدامة حقًا: تقليل الاعتماد على المواد الصناعية وتقنيات الإنتاج الملوثة.
- الملابس التفاعلية: ملابس تستجيب لبيئتها أو لحركة مرتديها بطرق جديدة.
- مواد جديدة: تطوير مواد حيوية (Biomaterials) ذات وظائف فريدة لمجموعة واسعة من التطبيقات، ليس فقط في الأزياء.
- التوعية البيئية: يمكن أن تكون هذه الابتكارات وسيلة قوية لزيادة الوعي بأهمية الكائنات الدقيقة وجمال الطبيعة.
وميض الأمل في مستقبل الأزياء
يمثل الفستان المضيء حيويًا من إيريس فان هيربن، بالتعاون مع كريس بيلامي وعلماء جامعة أمستردام، نقطة تحول في عالم الموضة والعلوم. إنه يجسد الاندماج المذهل بين الإبداع البشري وأسرار الطبيعة، مستفيدًا من ظاهرة الإضاءة الحيوية في الطحالب الدقيقة Pyrocystis lunula. من خلال سنوات من البحث العلمي في جامعات مرموقة مثل كامبريدج وكاليفورنيا سان دييغو، تمكن العلماء من فهم آلية الإضاءة الحيوية لهذه الكائنات وتطوير مادة هلامية مبتكرة تحافظ عليها حية خارج بيئتها المائية.
هذا الابتكار ليس مجرد عرض أزياء، بل هو دعوة للتفكير في مستقبل تتجاوز فيه الملابس وظيفتها التقليدية لتصبح أنظمة بيولوجية حية، تتطلب الرعاية وتتفاعل مع مرتديها. إنه يفتح الباب أمام نقاشات حول الاستدامة، والتكنولوجيا الحيوية، والعلاقة المتغيرة بين الإنسان والطبيعة في سياق صناعة الأزياء.
أضواء المستقبل: حيث يلتقي الفن بالعلم
إن الفستان المضيء حيويًا هو أكثر من مجرد قطعة ملابس؛ إنه بيان. إنه يصرخ بضرورة التفكير بشكل مختلف في كيفية صنعنا للأشياء، وكيف نرتديها، وكيف نتفاعل مع العالم الطبيعي. إنه يمثل نقطة التقاء فريدة بين الفن والعلم، حيث يلهم المصممون العلماء، ويزود العلماء المصممين بالأدوات اللازمة لتحويل الأحلام إلى حقيقة.
مع استمرار البشرية في البحث عن حلول أكثر استدامة وإبداعًا، ستلعب التقنيات الحيوية دورًا متزايد الأهمية. هذا الفستان ليس سوى لمحة عن الإمكانيات اللامحدودة عندما نجرؤ على دمج التخصصات وتحدي الحدود التقليدية. قد لا نرى الشوارع تضاء بفساتين الطحالب المضيئة غدًا، ولكن هذا الابتكار يضيء الطريق نحو مستقبل حيث تكون الموضة ليست فقط جميلة، بل حية، متفاعلة، ومستدامة حقًا. إنه تذكير بأن أعظم الإلهامات غالبًا ما تأتي من أعمق أسرار الطبيعة، وأن العلم هو المفتاح لفتح هذه الأسرار وتحويلها إلى واقع ملموس يثري حياتنا.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :