Ad

يشهد العالم تحولاً جذرياً في أنماط الاستهلاك الغذائي، مدفوعاً بتزايد الوعي الصحي والبيئي. في هذا السياق، يزداد الإقبال على البدائل النباتية للحوم، والتي لا تلبي فقط احتياجات النباتيين والمتطلعين لنمط حياة صحي، بل تساهم أيضاً في تقليل البصمة الكربونية لإنتاج الغذاء. وفي إنجاز علمي لافت، تمكن باحثون من البرازيل وألمانيا من تطوير بديل لحم مبتكر يعتمد على دقيق عباد الشمس، واعداً بفتح آفاق جديدة في عالم الأغذية المستدامة. هذا الابتكار ليس مجرد بديل، بل هو قفزة نوعية نحو توفير مصدر بروتيني غني، صحي، ومستدام، يتميز بطعم محايد وقيمة غذائية عالية.


من النفايات الزراعية إلى طعام المستقبل: قصة دقيق عباد الشمس

تكمن عبقرية هذا الابتكار في استغلال دقيق عباد الشمس، وهو منتج ثانوي ينتج عن عملية استخلاص الزيت من بذور عباد الشمس. لطالما اعتبر هذا الدقيق مجرد نفايات زراعية، إلا أن الأبحاث الحديثة كشفت عن إمكاناته الهائلة كمصدر بروتيني واعد. هذا الكشف لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج جهد بحثي مكثف وتعاون دولي بين معهد تكنولوجيا الأغذية (Food Technology Institute) وجامعة كامبيناس (University of Campinas) في البرازيل، بالتعاون مع علماء من معهد فراونهوفر الألماني (Fraunhofer Institute).

عملية التطوير: من البذور إلى شرائح اللحم النباتية

لم يكن الطريق سهلاً نحو تحويل دقيق عباد الشمس إلى بديل لحم يحاكي المنتج الحيواني. تضمنت العملية خطوات دقيقة ومعقدة لضمان الحصول على منتج نهائي بجودة عالية وقيمة غذائية ممتازة:

  1. المعالجة الأولية وإزالة المركبات غير المرغوبة: الخطوة الأولى كانت تقشير بذور عباد الشمس ومن ثم إزالة المركبات الفينولية (Phenolic compounds). هذه المركبات، إذا لم تُعالج، يمكن أن تقلل من قابلية الهضم وتضفي مرارة غير مرغوبة على المنتج النهائي.
  2. تحضير الوصفات واختيار المكونات: بعد المعالجة الأولية، قام العلماء بتحضير خيارين من الوصفة:
    • الخيار الأول: اعتمد على دقيق من بذور محمصة.
    • الخيار الثاني: استخدم بروتين عباد الشمس ذي القوام المركب (Structured sunflower protein). وقد أضافوا إلى كلا الخيارين مسحوق الطماطم والتوابل ومزيجاً من الزيوت النباتية الصحية (عباد الشمس، الزيتون، وبذور الكتان). هذه الإضافات لم تكن عشوائية، بل هدفت إلى تعزيز القيمة الغذائية والنكهة، بالإضافة إلى تحسين الخصائص الحسية للمنتج.

نتائج مبهرة:

بعد مرحلة الشوي، خضعت عينات من كلا الخيارين لاختبارات حسية وفيزيائية كيميائية دقيقة. أظهرت النتائج تفوقاً واضحاً للعينات التي تحتوي على البروتين ذي القوام المركب. فقد تميزت هذه العينات بـ:

  • مرونة عالية (High elasticity): وهي خاصية أساسية في بدائل اللحوم النباتية لتحاكي الملمس والمضغ الخاص باللحوم الحيوانية.
  • محتوى غني من البروتين (High protein content): مما يجعلها مصدراً ممتازاً للبروتين النباتي، الضروري لبناء العضلات وإصلاح الأنسجة.
  • دهون صحية (Healthy fats): خاصة الدهون الأحادية غير المشبعة (Monounsaturated fats)، المعروفة بفوائدها لصحة القلب والأوعية الدموية.
  • كمية كبيرة من المعادن الأساسية: مثل الحديد، الزنك، المغنيسيوم، والمنغنيز. هذه المعادن تلعب أدواراً حيوية في وظائف الجسم المختلفة، حيث توفر ما بين 49 إلى 95 بالمئة من حاجة الجسم اليومية لهذه المعادن.

لماذا عباد الشمس؟ المزايا الفريدة لهذا البديل

تتعدد الأسباب التي جعلت دقيق عباد الشمس خياراً مثالياً لهذا الابتكار:

  1. شعبية متزايدة وزراعة نشطة: يحظى زيت عباد الشمس بشعبية كبيرة في أوروبا، وتتوسع زراعته بنشاط في البرازيل، مما يضمن توافره كمصدر خام مستدام.
  2. خلوه من المكونات المعدلة وراثياً (Non-GMO): وهو عامل مهم للمستهلكين الذين يفضلون المنتجات الطبيعية وغير المعدلة وراثياً.
  3. طعم ورائحة محايدة: بمجرد إزالة القشرة والمركبات الفينولية، يصبح للدقيق طعم ورائحة محايدة للغاية. هذه الخاصية تعد ميزة تنافسية كبرى مقارنة بالعديد من البروتينات النباتية الأخرى المتوفرة في السوق، والتي قد تحمل نكهات أو روائح غير مرغوبة.
  4. الأحماض الأمينية الأساسية (Essential amino acids): أكدت عالمة الأحياء ماريا تيريزا بيرتولدو باتشيكو (Maria Teresa Bertoldo Pacheco) أن دقيق دوار الشمس يحتوي على جميع الأحماض الأمينية الأساسية التي يحتاجها الجسم ولا يستطيع إنتاجها بنفسه. هذا يجعله مصدراً كاملاً للبروتين، وهو أمر بالغ الأهمية للنباتيين.
  5. تقنية البثق (Extrusion): باستخدام هذه التقنية، يمكن إنتاج قوام ليفي يحاكي قوام اللحوم، مما يساهم في تحسين التجربة الحسية للمستهلكين.

آفاق مستقبلية واعدة

وفقاً للباحثين، يمهد هذا الابتكار الطريق لاستخدام عباد الشمس على نطاق واسع في صناعة الأغذية كبروتين نباتي مغذ وبأسعار معقولة. هذا يعني إمكانية توفير بديل صحي ومستدام للحوم يمكن أن يلبي احتياجات شريحة واسعة من المستهلكين، ويساهم في تعزيز الأمن الغذائي العالمي.


ملخص: بديل مستدام وغني بالفوائد

يمثل الابتكار في تطوير بديل للحم من دقيق عباد الشمس نقلة نوعية في مجال الأغذية النباتية. فمن خلال استغلال منتج ثانوي غني بالبروتين، وتمكين العلماء من التغلب على التحديات المرتبطة بالطعم والملمس، تم التوصل إلى منتج يتمتع بقيمة غذائية عالية، يحتوي على جميع الأحماض الأمينية الأساسية، الدهون الصحية، ومجموعة واسعة من المعادن. هذا البديل لا يقدم حلاً صحياً ومستداماً للنباتيين فحسب، بل يفتح الباب أمام خيارات غذائية مبتكرة تساهم في تحقيق مستقبل غذائي أكثر استدامة وصحة للجميع.


نحو ثورة غذائية خضراء

إن تطوير لحم نباتي مبتكر من دقيق عباد الشمس ليس مجرد إنجاز علمي، بل هو بمثابة إعلان عن ثورة غذائية خضراء قادمة. فمع تزايد الطلب على البروتينات البديلة والوعي بضرورة الحفاظ على موارد الكوكب، تقدم هذه الحلول العلمية الأمل في بناء نظام غذائي أكثر مرونة واستدامة. إن القدرة على تحويل منتج ثانوي إلى مصدر غذاء عالي القيمة، يوفر جميع العناصر الغذائية الأساسية وبطعم محايد، يعد إنجازاً يستحق الثناء. ونتوقع أن نشهد في المستقبل القريب المزيد من هذه الابتكارات التي ستغير وجه صناعة الغذاء، وتساهم في صحة أفضل لكوكبنا وللأجيال القادمة. فهل أنت مستعد لتجربة هذا البديل اللذيذ والمغذي؟

طارق قابيل
Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أكاديمية البحث العلمي

User Avatar

د. طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.


عدد مقالات الكاتب : 13
الملف الشخصي للكاتب :

التالي

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *