
في خطوة علمية رائدة تُحدث تحولاً جذرياً في فهمنا لأصول الحضارة المصرية القديمة، نجح فريق بحثي دولي مشترك من معهد فرانسيس كريك (Francis Crick Institute) وجامعة ليفربول جون مورس (Liverpool John Moores University – LJMU) في استخلاص وتسلسل أقدم حمض نووي (DNA) مصري حتى الآن. هذا الاكتشاف غير المسبوق، الذي نُشر اليوم (2 يوليو) في مجلة “نيتشر” (Nature) المرموقة، يعود لرجل عاش قبل ما يتراوح بين 4500 و4800 عام، وهي الفترة التي شهدت فجر بناء الأهرامات. لا يقتصر هذا الإنجاز على كونه أقدم جينوم مصري كامل يتم تسلسله، بل يقدم أيضاً دلائل أنثروبولوجية وجينية قوية على الهجرات السكانية التي وصلت إلى مصر من الشرق، لتثري النسيج البشري لإمبراطورية كانت في طور التكوين.
1. فك شفرة الزمن: الكشف عن جينوم أقدم مصري
لطالما كانت دراسة الأصول الجينية للمصريين القدماء تحدياً كبيراً بسبب الظروف المناخية الحارة والرطبة في مصر، والتي تُعد بيئة غير مواتية للحفاظ على الحمض النووي. إلا أن التقدم الهائل في تقنيات تسلسل الجينوم، وتحديداً “تسلسل الجينوم الكامل” (Whole Genome Sequencing)، قد أتاح للعلماء تجاوز هذه العقبات. فخلافاً للطرق السابقة التي كانت تبحث عن علامات جينية محددة، تسمح هذه التقنية الجديدة بتسلسل كامل تسلسل الحمض النووي، مما يوفر صورة شاملة ودقيقة للتركيب الجيني للفرد.
تمكن الباحثون من استخلاص الحمض النووي من سن الرجل الذي عُثر على رفاته في منطقة النويرات، وهي قرية تقع على بعد 265 كيلومتراً جنوب القاهرة. وقد تبرعت هيئة الآثار المصرية بهذه البقايا إلى جامعة ليفربول في أوائل القرن العشرين، وظلت محفوظة في متحف ليفربول. هذه الظروف الفريدة للحفظ، بعيداً عن الرطوبة العالية في المقابر العادية أو تعقيدات مواد التحنيط، كانت حاسمة لنجاح عملية الاستخلاص، كما أوضح بونتوس سكوجلوند، رئيس مجموعة مختبر الجينوميات القديمة في معهد كريك والمؤلف المشارك الأول للدراسة.
عاش هذا الرجل وتوفي في فترة زمنية تمثل جسراً بين عصرين مهمين في تاريخ مصر: العصر العتيق (Early Dynastic Period) والدولة القديمة (Old Kingdom)، والمعروف أيضاً باسم “عصر الأهرامات”. وقد أشار الدليل الأثري سابقاً إلى وجود روابط تجارية وثقافية قوية بين مصر والهلال الخصيب (Fertile Crescent)، وهي منطقة في الشرق الأوسط تشمل العراق وإيران والأردن حالياً، من خلال تبادل الأدوات الفخارية وأنظمة الكتابة والصور. لكن هذا الاكتشاف الجديد يقدم الدليل الجيني المباشر الأول على حركة السكان وتمازجهم في هذه الفترة.
2. خيوط النسب: قصة هجرة من الشرق الأوسط
التحليل الجيني للجينوم المستخلص كشف عن حقائق مدهشة حول أصول هذا الرجل. فقد أظهرت النتائج أن معظم أصوله (حوالي 80%) تعود إلى أفراد عاشوا في شمال إفريقيا، بينما يمكن تتبع نسبة الـ 20% المتبقية إلى أفراد قدامى سكنوا منطقة الهلال الخصيب، وتحديداً بلاد الرافدين (Mesopotamia)، والتي تتوافق تقريباً مع العراق الحديث.
يُعد هذا الاكتشاف دليلاً جينياً قوياً على أن مجموعات من الناس انتقلت إلى مصر وامتزجت مع السكان المحليين خلال تلك الفترة التاريخية المبكرة. هذا التمازج السكاني، الذي كان يُستدل عليه سابقاً فقط من خلال القطع الأثرية والمصادر المادية، أصبح الآن مدعوماً ببصمات جينية لا لبس فيها. ومع ذلك، حذر الباحثون من تعميم هذه النتائج من فرد واحد، مؤكدين على الحاجة إلى تسلسل جينومات المزيد من الأفراد لفهم التنوع في الأنساب في مصر القديمة بشكل كامل.
باستخدام تحليل الإشارات الكيميائية في أسنانه، والتي ترتبط بالنظام الغذائي والبيئة، تمكن الباحثون أيضاً من إظهار أن هذا الفرد قد نشأ على الأرجح في مصر، ما يؤكد أنه لم يكن مجرد زائر عابر، بل جزءاً من النسيج السكاني المتفاعل في ذلك الوقت.
3. حياة فخاري: بصمات العمل الشاق والمكانة الاجتماعية
إلى جانب تحليل الحمض النووي، قدمت دراسة الهيكل العظمي لهذا الرجل معلومات قيمة حول جنسه وعمره وطوله ونمط حياته. فقد أشارت العلامات الجسدية على عظامه إلى أنه كان رجلاً متوسط الطول، وأنه عانى من التهاب شديد في مفاصل رقبته، وهي علامة تتسق مع طبيعة عمله.
اللافت للنظر هو وجود علامات عضلية واضحة على عظامه، تشير إلى جلوسه لفترات طويلة مع فرد أطرافه. هذه العلامات، بالإضافة إلى تآكل غير عادي على عظام أصابع القدم وقوس قدمه اليمنى، تشير بقوة إلى أنه كان يعمل فخارياً، وربما كان يستخدم عجلة الفخار، التي وصلت إلى مصر في نفس الفترة تقريباً قادمة من الشرق الأوسط. تتطابق هذه العلامات الهيكلية مع الأوضاع التي صورت بها الفخاريون في لوحات المقابر المصرية القديمة، مما يعزز هذه الفرضية.
ومع ذلك، فإن دفن هذا الرجل، الذي يبدو أنه كان مجرد فخاري، في وعاء خزفي (فخاري) داخل مقبرة منحوتة في جانب التل، يشير إلى مكانة اجتماعية مرموقة غير متوقعة لمهنته. علق البروفيسور جويل آيريش، أستاذ الأنثروبولوجيا والآثار والمؤلف الثاني للدراسة، والذي قام باستخلاص الحمض النووي: “دفنه ذو الفئة الأعلى غير متوقع لفخاري، الذي لا يتلقى عادة مثل هذه المعاملة. ربما كان ماهراً بشكل استثنائي أو ناجحاً لدرجة أنه ارتقى بمكانته الاجتماعية”. هذا التناقض المثير للاهتمام يفتح الباب أمام تساؤلات حول ديناميكيات الطبقات الاجتماعية في مصر القديمة وتقدير المهارة الفردية.
4. رحلة استثنائية: تحديات البحث في الحمض النووي القديم
وصفت الدكتورة أديلين موريز جاكوبس، زميلة باحثة زائرة وباحثة سابقة في معهد كريك والمؤلفة الأولى للدراسة، هذا الاكتشاف بأنه “صورة شاملة” تم تجميعها من الحمض النووي والعظام والأسنان لهذا الفرد. وأعربت عن أملها في أن توسع عينات الحمض النووي المستقبلية من مصر القديمة فهمنا للمدة التي بدأت فيها هذه الحركة السكانية من الشرق الأوسط.
من جانبه، أشار لينوس جيردلاند فلينك، المحاضر في الجزيئات الحيوية القديمة بجامعة أبردين والباحث الزائر في LJMU والمؤلف المشارك الأول للدراسة، إلى “الرحلة الاستثنائية” التي خاضها هذا الفرد، من حياته ووفاته في فترة تحول حاسمة في مصر القديمة، إلى اكتشاف هيكله العظمي عام 1902، ونجاته من قصف “ذا بليتز” (Blitz) الذي دمر معظم البقايا البشرية في مجموعة متحف ليفربول، وصولاً إلى فك أسراره الجينية اليوم.
أكد بونتوس سكوجلوند على التحديات الكبيرة التي واجهت محاولات استخلاص الحمض النووي من المومياوات المصرية على مدى أربعين عاماً، مشيراً إلى أن التقنيات الجينية الحديثة والقوية هي التي مكنتهم من تجاوز هذه الحدود التقنية واستبعاد أي تلوث في الحمض النووي، مما يوفر أول دليل جيني على حركات محتملة للسكان في مصر في ذلك الوقت.
5. الجينوم المصري: مشروع وطني لرسم صورة شاملة
لا يقتصر هذا البحث الدولي على كشف أسرار فرد واحد، بل يتقاطع مع جهود بحثية وطنية أوسع نطاقاً في مصر. يُعد “مشروع الجينوم المصري” (Egyptian Genome Project)، الذي أطلقته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عام 2021، مبادرة طموحة تهدف إلى رسم خريطة جينية شاملة للمصريين، القدماء والمعاصرين على حد سواء.
يتم تنفيذ هذا المشروع الضخم بالتعاون بين جهات حكومية متعددة، منها وزارات الدفاع، والصحة والسكان، والسياحة والآثار، والشباب والرياضة، بالإضافة إلى مجموعة من الجامعات ومراكز الأبحاث. ويركز جزء كبير من المشروع على تحليل جينومات المومياوات الملكية، حيث يخطط الباحثون لتحليل 200 مومياء ملكية على مدى خمس سنوات بالتعاون مع المتحف القومي للحضارة المصرية.
وقد أحرز المشروع بالفعل تقدماً ملحوظاً، حيث نجح العلماء المصريون في استخلاص 22 عينة من تسع مومياوات في المرحلة السابقة، ويجري حالياً تحليل بيانات جينوماتها. ومن المتوقع أن يتم نشر النتائج الكاملة لتسع مومياوات ملكية قريباً في مجلات علمية مرموقة. هذه البيانات ستسمح بمقارنة الجينومات الملكية مع جينومات السكان الحاليين لتحديد مدى التشابه الجيني والتغيرات التي حدثت على مر الزمن.
يؤكد الدكتور خالد عامر، الباحث الرئيسي في مشروع الجينوم المصري، في تصريح للأستاذ أشرف أمين في مقال منشور على موقع الأهرام أونلاين، على أن أي بحث دولي يُنشر حول الجينوم المصري القديم هو إضافة قيمة للمشروع الوطني، معرباً عن دعم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ورئاسة أكاديمية البحث العلمي للتعاون الدولي في هذا المجال. كما أشار إلى إنشاء مركزين حديثين في مصر لتحليل بيانات الدراسات الجينومية، مزودين بقدرات حاسوبية عالية وسعة تخزين كبيرة لتسريع وتيرة الأبحاث.
6. دلالات معمقة وتحذيرات علمية
يُشير الدكتور يحيى زكريا جاد، أستاذ الوراثة الجزيئية والمشرف العلمي على معمل الحمض النووي القديم في المتحف القومي للحضارة المصرية، إلى أن هذا البحث يمثل “خطوة مهمة” في علم المصريات الجزيئي. ويُضيف أن استخلاص نتائج جينية من فرد عاش في الدولة القديمة، أي قبل ازدهار تقنيات التحنيط الفائقة التي ظهرت لاحقاً (الأسرات 18-22)، يُعد إنجازاً تقنياً كبيراً.
على الرغم من أهمية النتائج، يحذر الدكتور جاد والدكتور طارق طه، استشاري الوراثة وعضو اللجنة العلمية لمشروع الجينوم المصري، من التعميمات الواسعة بناءً على تحليل جينوم فرد واحد. فكما يوضح الدكتور جاد، الفرد الذي تمت دراسته يمثل سلالته العائلية فقط، والتركيب الجيني للسكان المصريين، القدماء والمعاصرين، يتسم بتنوع كبير نتيجة لموقع مصر كنقطة التقاء وتمازج للعديد من الأعراق البشرية عبر تاريخها الممتد لأكثر من 5000 عام.
يؤكد الدكتور طه على ضرورة استمرار الأبحاث على المزيد من العينات، سواء المحنطة أو غير المحنطة، للحصول على تقييم أفضل للأصول الجينية للمصريين القدماء وعلاقتهم بالعوامل المؤثرة والتفاعلات مع جميع الأجناس في مختلف أنحاء العالم. هذه الدراسات الشاملة هي التي ستمكن العلماء من رسم صورة أكثر دقة وتعقيداً للتاريخ الجيني للشعب المصري.
في اكتشاف علمي هو الأول من نوعه، نجح باحثون من معهد فرانسيس كريك وجامعة ليفربول جون مورس في تسلسل أقدم حمض نووي مصري، يعود لرجل عاش قبل 4500-4800 عام. كشف التحليل الجيني أن 80% من أصوله تعود لشمال إفريقيا و20% للهلال الخصيب (بلاد الرافدين)، ما يقدم دليلاً جينياً مباشراً على الهجرات السكانية والتمازج الحضاري في مصر القديمة، والذي كان يُستدل عليه سابقاً من خلال الآثار فقط. تشير الدلائل الهيكلية إلى أن الرجل كان فخارياً، رغم دفنه الذي يوحي بمكانة اجتماعية عالية، مما يفتح نقاشاً حول المرونة الطبقية في تلك الفترة. يؤكد هذا الإنجاز على التحديات التقنية في استخلاص الحمض النووي القديم، ويأتي متزامناً مع جهود “مشروع الجينوم المصري” الوطني لرسم خريطة جينية شاملة للمصريين عبر العصور، مع التأكيد على ضرورة إجراء المزيد من الأبحاث لتجنب التعميمات من عينة واحدة.
إن هذا الكشف الجيني الرائد لا يمثل مجرد إنجاز علمي فحسب، بل هو نافذة جديدة نطل من خلالها على عمق وتعقيد التاريخ البشري في مصر القديمة. إنه يؤكد على الدور المحوري الذي لعبته هذه الأرض كملتقى للحضارات والشعوب، ويُبرز كيف أن التمازج السكاني عبر العصور قد أثرى النسيج الجيني للمصريين. مع استمرار “مشروع الجينوم المصري” بدعم وطني ودولي، فإننا على أعتاب فهم أعمق وأكثر دقة لأصول هذه الحضارة العظيمة وأبنائها. فكل شفرة جينية يتم فكها هي خطوة أقرب إلى الكشف عن أسرار الماضي وربطها بحاضرنا، مما يعزز تقديرنا لتراثنا الإنساني المشترك. فما هي الأسرار الأخرى التي تنتظر الكشف عنها في المستقبل؟
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :