اكتشف علماء الآثار، في مقبرة في سوريا أسطوانات طينية محفورة بما يبدو أنها أقدم كتابة أبجدية في تاريخ البشرية، ويعود تاريخها إلى حوالي 2400 قبل الميلاد. تسبق هذه النتيجة النصوص الأبجدية المعروفة الأخرى بحوالي 500 عام، مما يثير تساؤلات حول مكان اختراع الكتابة الأبجدية وانتشارها عبر المجتمعات.
وتم هذا الاكتشاف في مدينة تل أم المرة الأثرية، وهي واحدة من أولى المراكز الحضرية المتوسطة الحجم في غرب سوريا، والتي تم اكتشافها خلال عملية تنقيب أثرية استمرت 16 عاماً. وتعود المقبرة إلى العصر البرونزي المبكر.
وقد أحدثت هذه النتائج صدمة في المجتمع الأثري، مما يشكل تحديًا للاعتقاد السائد منذ فترة طويلة بأن الأبجدية قد تم اختراعها في مصر أو ما حولها. وأثار هذا الاكتشاف جدلا جديدا حول أصول الحروف الهجائية ودورها في تشكيل الحضارات الحضرية المبكرة.
محتويات المقال :
المدن القديمة والتحضر
إنه وقت كانت فيه المدن قد بدأت للتو في التبلور، وكان الناس يتوصلون إلى كيفية العيش معًا في أماكن قريبة. هذا هو العصر البرونزي المبكر، حوالي 2400 قبل الميلاد، في غرب سوريا. لقد كان عصر التحضر السريع، حيث كانت المدن الصغيرة تنمو لتصبح مدنًا صاخبة. وكان الناس يجتمعون ويتاجرون بالسلع ويتشاركون الأفكار ويخلقون مجتمعات معقدة. وفي هذا السياق، أصبحت الحاجة إلى التواصل وحفظ السجلات أمراً بالغ الأهمية.
وكانت مدينة أم المرة إحدى هذه المراكز الحضرية المتوسطة الحجم. علماء الآثار كانوا يدرسون هذا الموقع منذ سنوات، في محاولة لفهم كيفية تطور هذه المدن المبكرة. وما وجدوه كان كنزًا من القطع الأثرية، بما في ذلك المقابر والمجوهرات وأدوات الطبخ والأواني الفخارية. ولكن الأمر المذهل هو أن هذه المدن القديمة لم تكن مجرد مراكز للنشاط الاقتصادي؛ بل كانت أيضًا بؤرًا للابتكار والتبادل الثقافي. حيث يشير اكتشاف الأسطوانات الطينية إلى أن الناس في أم المرة كانوا يجربون طرقًا جديدة للكتابة، وربما حتى إنشاء أبجدية.
الأبجدية السينائية الأولية
الكتابة الأبجدية، كما نعرفها اليوم، هي نظام كتابة حيث تمثل الرموز الفريدة أصواتًا مميزة. سمح هذا المفهوم الثوري للناس بنقل الأفكار والقصص المعقدة بسهولة، متجاوزين حدود الكتابة التصويرية. ظهرت أقدم أنظمة الكتابة المعروفة، مثل المسمارية والهيروغليفية، حوالي عام 3500 قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين ومصر، على التوالي. تم استخدام هذه النصوص المبكرة في المقام الأول من قبل النخبة، مما يحد من تدفق المعلومات إلى قلة مختارة.
يُعتقد أن اختراع الكتابة الأبجدية تم في مصر القديمة حوالي 1900-1700 قبل الميلاد.. حيث تم تطوير نظام الكتابة المبكر هذا، المعروف باسم الأبجدية السينائية الأولية (Proto-Sinaitic)، من قبل الأشخاص الناطقين باللغات السامية الذين يعملون في المناجم المصرية في شبه جزيرة سيناء. لقد كانت مستوحاة من الهيروغليفية المصرية، ولكن بدلاً من تمثيل الكلمات أو المفاهيم الكاملة، كانت هذه الرموز تمثل الحروف الساكنة الفردية. ثم قام الفينيقيون بتحسين هذا النظام لاحقًا، حيث أنشأوا الأبجدية الفينيقية، والتي أصبحت الأساس للعديد من الأبجديات الحديثة، بما في ذلك الأبجدية اليونانية واللاتينية والسيريلية.
اختراع الكتابة الأبجدية
قام فريق من الباحثين بحفر مقابر يعود تاريخها إلى العصر البرونزي المبكر، واكتشفوا كنزًا من القطع الأثرية، بما في ذلك المجوهرات الذهبية والفضية وأدوات الطبخ والأواني الفخارية السليمة. ووسط هذه الآثار، عثروا على أربع أسطوانات من الطين، محفورة عليها رموز غامضة.
وقد استخدم الباحثون تقنيات التأريخ بالكربون 14 لتحديد عمر القطع الأثرية. وكانت النتائج مذهلة، حيث يعود تاريخ الكتابة إلى حوالي 2400 قبل الميلاد، أي يسبق النصوص الأبجدية المعروفة الأخرى بحوالي 500 عام.
ويشير هذا الاكتشاف إلى أن أصول الكتابة الأبجدية قد لا تكمن في مصر، كما كان يعتقد سابقا، ولكن في منطقة مختلفة تماما. كما أنه يثير تساؤلات حول كيفية انتشار الكتابة عبر المجتمعات القديمة، وما هو الدور الذي لعبته في تطور الحضارات الحضرية المبكرة.
فك رموز الأسطوانات الطينية القديمة
كانت الأسطوانات، التي يبلغ طولها تقريبًا طول إصبع الإنسان، مخبوزة بشكل خفيف، مما يشير إلى أنه ربما تم إنشاؤها على عجل أو كنموذج أولي. ويتوقع أنه ربما تم استخدامها كنظام لوضع العلامات، حيث يتم ربط كل أسطوانة بوعاء أو جسم معين. ولكن لماذا يتكبد القدماء عناء إنشاء نص أبجدي، فقط لاستخدامه في شيء عادي مثل وضع العلامات؟
أحد الاحتمالات هو أن هذه الرموز تمثل شكلاً أكثر تعقيدًا من أشكال الاتصال. وربما رووا قصصًا عن الأشخاص المدفونين في المقبرة، أو وصفوا البضائع والكنوز التي أخذوها معهم إلى الحياة الآخرة. وربما كانت تحتوي على رسائل من الأحياء إلى الأموات، أو العكس.
إن عدم قدرة الفريق على ترجمة الكتابة يترك العديد من الأسئلة دون إجابة. هل كانت الرموز شكلاً من أشكال الكتابة الأولية، أو نقطة انطلاق نحو تطوير أنظمة كتابة أكثر تعقيدًا؟ أم أنها تمثل نصًا مكتملًا وقادرًا على نقل الأفكار والعواطف الدقيقة؟
فصل جديد في التاريخ
إن اكتشاف أقدم كتابة أبجدية في تاريخ البشرية ليس مجرد اكتشاف أثري رائع، ولكنه يغير كل شيء. حيث يتحدى هذا النص القديم فهمنا لكيفية تطور أنظمة الكتابة وانتشارها عبر العالم القديم. إن التداعيات عميقة، والتأثير على فهمنا للمجتمعات الحضرية المبكرة هائل.
ومع هذه النتيجة، فإننا مضطرون إلى إعادة النظر في الحكمة التقليدية القائلة بأن الحروف الهجائية نشأت في مصر. وبدلا من ذلك، ربما ننظر إلى قصة أكثر تعقيدا ودقة، حيث كان اختراع الحروف الهجائية عملية مجزأة حدثت في مناطق متعددة. وهذا يثير تساؤلات حول الترابط بين المجتمعات القديمة، وكيف تم تبادل المعرفة والابتكارات عبر الحدود.
وتمتد أهمية هذا الاكتشاف إلى ما هو أبعد من عالم الآثار والتاريخ. حيث لديه القدرة على إلهام أجيال جديدة من العلماء والباحثين والمفكرين لاستكشاف أسرار الماضي. ومن خلال إعادة تعريف أصول الحروف الهجائية، يتم تذكيرنا بقوة البراعة والإبداع البشري، التي شكلت مسار التاريخ البشري.
المصدر
Oldest known alphabet unearthed in ancient Syrian city | phys.org
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :