نوبل في الطب وحل ألغاز العقل البشري
مع بداية الألفية الجديدة احتفل المجتمع العلمي بتسليم جائزة نوبل لثلاثة علماء بدأوا في فك أُحجية طريقة عمل الجهاز العصبي عن طريق الفهم الكامل للآليات الجزيئية الموجودة في الكواليس، والمسؤولة عن عبقرية وإبداع عقولنا بالغة التعقيد؛ فاستطاعوا أن يقدموا فهماً أولياً لكيفية تحكم المخ في الحركة، وكيف تنشأ الأمراض النفسية كالفصام، وكذلك قدموا خطوة قوية في بداية طريقنا لفهم كيف نتعلم، وكيف تتحول المعلومات والأحداث من حولنا لذكريات نحتفظ بها لفترات طويلة قد تصل لعمرنا بأكمله.
محتويات المقال :
انتقال المعلومات خلال الخلايا العصبية:
الوحدة الأساسية في الجهاز العصبي هي الخلية العصبية. وهي تتكون من جسم الخلية الذي يحتوي على النواة وما يحاطيها من سيتوبلازم يحتوي على عضيات الخلية المختلفة، فهو بمثابة العقل المسيطر على الخلية العصبية. في معظم الأحوال يستقبل جسم الخلية المعلومات عن طريق «الزوائد الشجيرية-Dendrites» ويرسلها للخلايا الأخرى عن طريق «المحور العصبي-Axon».
في كل المراحل السابقة يكون تحرك المعلومات بطول الخلية على هيئة تغير في الحالة الكهربائية بها، وحتى نكون أكثر وضوحاً الخلية العصبية لا تختلف كثيرً عن الموصلات في الدائرة الكهربية؛ حيث في الموصلات تنتقل الإشارات عن طريق اختلاف الجهد وهذا ما يحدث في حالتنا تلك؛ حيث أن الأيونات على جانبي الغشاء الخلوي في الخلية العصبية مختلفة التركيز والشحنات بحيث يكون الخارج موجب والبيئة الداخلية للخلية تكون سالبة فيكون فرق الجهد من داخل الخلية لخارجها سالب، وعند وصول مؤثر عن طريق المستقبلات العصبية مثلاً تتحرك الأيونات خلال قنوات في الغشاء الخلوي حتى تنعكس الشحنة فيكون خارج الخلية سالب الشحنة وداخلها موجب، وبذلك تنعكس شحنة فرق الجهد من السالب للموجب. يحدث ذلك التغيير في جزء معين من الغشاء الخلوي الذي بدوره يؤثر على الجزء المجاور وينتشر التأثير تباعاً على طول الغشاء الخلوي، وهذا ما يسمي بالسيال العصبي. ولكن بعد أن انتقل ذلك التأثير على طول المحور العصبي ستأتي نهاية المحور، وهي عبارة عن مجموعة من التفريعات غالباً ما تكون متصلة بالزوائد الشجيرية لخلايا عصبية أخري لكن بالطبع يوجد بين نهايات المحور العصبي وبدايات الزوائد الشجيرية فراغ صغير جداً. يُسمى ذلك التركيب ككل باسم «التشابك العصبي- synapse» فعند وصول السيال العصبي لنهاية المحور العصبي تفتح قنوات الكالسيوم -الموجودة في التفرعات النهائية للمحور العصبي- حتى ينتقل لداخل الخلية محفزاً تحرر النواقل العصبية، وهي عبارة عن مركبات كيميائية تنتقل خلال الفراغ الموجود في التشابك العصبي حتى ترتبط بمستقبلات محددة موجودة على سطح الزوائد الشجيرية، لتقوم باستثراتها هي الأخرى وبداية سيال عصبي جديد.
في الحقيقة التفاصيل التي تحدث في تلك المنطقة تم الكشف عنها من قبل ثلاثة علماء حازوا جائزة نوبل في الطب عام 2000 وهم «Arvid Carlsson-أرفيد كارلسون»، و«بول جرينجارد-Paul Greengard» و«إريك كاندل-Eric Kandel» سنستعرضها سوياً في السطور القادمة.
ماهية الناقل العصبي:
هناك العديد من المركبات تقع تحت عنوان النواقل العصبية مثل السيروتونين، والأدرينالين، والأستيل كولين وغيرهم الكثير. لكن حتى خمسينيات القرن الماضي لم يكن الدوبامين معروف كناقل عصبي إنما كان يُعتقد أنه فقط أصل كيميائي لبعض النواقل العصبية الأخرى لكن أرفيد كارلسون غير كل ذلك عن طريق ابتكاره لطرق فحص جديدة استطاع عن طريقها رصد الدوبامين في بعض مناطق المخ وأهمها منطقة «النوى القاعدية-Basal Ganglia» وهي منطقة بالغة الأهمية في وظائف الحركة، وتشارك أيضاً في عمليات خاصة بالمشاعر والتصرفات. يوجد في تلك المنطقة ناقل عصبي يُسمى أستيل كولين في حالة توازن مع الدوبامين. وعند حدوث خلل في التوازن بينهم ينتج اضطرابات عنيفة في الحركة. فمثلا عند وجود نقص شديد في الدوبامين نتجية تآكل الخلايا المفرزة له ينتج عن ذلك مرض البركنسون أو الشلل الرعاش. فيعاني الشخص من حركات لا إرادية مع خشونة أو تصلب كبير في العضلات وتؤثر بالطبع على القدرة على الكلام وعلى جميع نواحي الحركة. ويتم علاج ذلك المرض بزيادة نسبة الدوبامين في المخ عن طريق دواء يُسمى L-dopa، وغيره من الطرق التي تخلق توازن بين الأستيل كولين والدوبامين في منطقة «النوى القاعدية-Basal Ganglia». استطاع كارلسون أيضاً أن يضع نظرية توضح دور الدوبامين في بعض الأمراض النفسية الأخرى مثل الشيزوفرينيا أو الفصام حيث قد تمتاز تلك الأمراض بنشاط زائد للدوبامين في بعض مناطق المخ فيعاني الشخص من هلاوس أفكار مغلوطة والخلط بين الواقع والخيال. فتعتمد الكثير من الأدوية على منع تأثير الدوبامين بإغلاق مستقبلاته في تلك المناطق، ولكن تذكر عزيزي القارئ أن التوازن بين الدوبامين والأستيل كولين مهم جداً في «النوى القاعدية-Basal Ganglia» للحفاظ على الحركة بشكلٍ مناسب، وعليه قد يعاني مريض الشيزوفرينيا الذي يتعاطى بعض الأدوية المضادة لحالته من خلل في الحركة قد يكون مشابه للخلل الحادث في مرض الشلل الرعاش عندما يكون الدوبامين أقل من الأستيل كولين في النوى القاعدية. وقد يعاني بعدها من حركات مشابهة لحركات الرقص أو أداء حركات غريبة بغير إرادته وهذا ما يُسمى Chorea عندما يزداد نشاط الدوبامين عن الأستيل كولين. كل ذلك وأكثر أبهرنا به الدكتور «Arvid Carlsson-أرفيد كارلسون» واستحق عليه نوبل في الطب عام 2000 بجدارة. لكن كيف يعمل الناقل العصبي على مستقبلات في الزوائد الشيجرية من الأساس؟ كانت إجابة ذلك السؤال من نصيب الدكتور «بول جرينجارد-Paul Greengard».
التفاعل على الضفة الأخرى:
بعد أن تحرر الناقل العصبي من النهايات العصبية وسبح في الفراغ الموجود بين المحور العصبي والزوائد الشجيرية وصل أخيراً للضفة الأخرى حيث يوجد مستقبِله المخصص له ليتفاعل معه. وتم تقسيم التفاعل حسب السرعة إلى سريع، وبطيئ. ما يهمنا هنا هو التفاعل البطيء لتأثيراته الحيوية القوية حتى على النوع الآخر-السريع- ولأنه الطريقة التي يعمل بيها الدوبامين الذي اهتم به بول جرينجارد وفريقه؛ نظراً لدوره المهم في العديد من الأمراض كما وضحنا، وكذلك لأن كلا من خصائصه الكيميائية والأماكن التي يتواجد بها في المخ تجعلان ملاحظته أسهل كثيراً من النواقل العصبية الأخرى ذلك بحسب ما وضح جريناجرد في دراسته. ولفهم طريقة تفاعل النواقل العصبية تخيل معي مجموعة من الأطفال يلعبون لعبة يجري فيها أحدهم بعد أن يلمسه آخر الذي بدوره يلمس طفل آخر فيجري بعدما كان واقفاً ثابتاً بلا حراك، إذا نستطيع القول أن اللمسة هي بمثابة إشارة تنشيط ينقلها الأطفال بين بعضهم البعض لينتقلوا من حالة الثبات إلى الجري. في الحقيقة بروتينات أو إنزيمات الخلية لا يختلفون كثيراً عن هؤلاء الأطفال فبدل من أن تكون (اللمسة) إشارة النشاط ستؤدي (مجموعة الفوسافت) ذلك الدور حيث إضافة فوسفات إلى إنزيم معين قد يؤدي لتنشيطة وحركته أو إيقافه عن العمل. ففي البداية يسبح صديقنا الناقل العصبي عبر الفراغ المتواجد في تركيب التشابك العصبي ثم يتربط بالمستقبل الخاص به الذي بدوره يتسبب في تواجد برويتن آخر يسمى «الرسول الثاني-second messenger» في الحقيقة ذلك الرسول له عدة أنواع لكن أشرهم هو مركب يُسمى cAMP الذي بدوره يقوم بتنشيط مجموعة من الإنزيمات تُسمى اختصاراً PKA التي تقوم بإضافة مجموعة الفوسفات لبروتينات مختلفة في الخلية، تلك البروتينات مقسمه لأربعة أنواع: 1) قنوات الأيونات التي تتحكم بمرور الأيونات من خلالها فبالتالي تتحكم في النشاط الكهربي للغشاء الخلوي كما وضحنا في بداية المقال. 2) مضخات الأيونات التي تستعيد تركيز الأيونات أو الشحنات الطبيعي على جانبي الغشاء الخلوي؛ حيث لابد بعد عكس الشحنات السالبة والموجبة أثناء السيال العصبي أن تستعيد تلك الشحنات تركيزها ومكانها الطبيعي من جديد، وهذا ما تفعله مضخات الأيونات. 3) مستقبلات النواقل العصبية حيث أنها بذلك تؤثر على استقبال الخلية للمزيد من النواقل العصبية وبالتالي تؤثر على نشاطها العصبي. 4) تؤثر مجموعة ال PKA كذلك على مجموعة من البروتينات تتواصل مع الحمض النووي في النواة حتى تغير من ترجمة الجينات المختلفة لمختلف البروتينات تبعاً لنشاط الخلية العصبية، فبذلك تحدث مزامنة بين متطلبات الخلية وبين الجينات التي يتم ترجمتها. تلك هي الأربعة أنواع الأساسية لكن لا يمنع ذلك وجود غيرهم.
لم تكن تلك اكتشافات بول وفريقه الوحيدة فقد اكتشف مركباً غاية في الأهمية يُسمى اختصاراً DARPP-32 وهو بروتين مهم جداً في بعض الخلايا العصبية. يتم التأثير على نشاطه بنفس الطريقة التي تم إيضاحها مسبقاً حيث يتم تنشيطه بفعل بورتينات PKA فيقوم بدوره هو الآخر بالتأثير على الكثير من البروتينات مثل الأربع أقسام سابقين الذكر، فهو بمثابة قلب الحدث وإحدى المحطات الرئيسية للتحكم في نشاط الخلوى كرد فعل للارتبط بالناقل العصبي الدوبامين. والآن تعرفنا على اكتشافات ثلاثة من العلماء الحائزين على نوبل في الطب عام 2000 تبقى الثالث الذي صنع ثورة في عالم الذاكرة وتخزين المعلومات في المخ.
المخ ما هو إلا صلصال!
في حقيقة المرأ لا يموت المرأ بنفس المخ الذي وُلِد به فكل المتغيرات المحيطة بنا، أو بالأحرى المعلومات التي يكتسبها الفرد تغير من تركيب المخ. فمخ الإنسان ليس إلا صلصال يشكله بنفسه عن طريق ما يزرعه فيه من معلومات. وذلك عن طريق إحداث تغيرات في «التشابكات العصبية-Synapses». حيث تعرض الإنسان لمؤثر قوي ينتج عنه تغيرات موازية في المخ. حسب قوة وتكرار المؤثر حسب قوة التغيرات التي تصيب التشابكات العصبية وبدورها تتحكم في قوة احتفاظ الإنسان بذكرياته الجديدة. هذا ما اكتشفه الدكتور «إريك كاندل-Eric Kandel» عن طريق الاختبارات التي قام بها على أحد أنواع الرخويات البحرية يُسمى «سبيكة معرفة-sea slug» تتميز باحتوائها على عدد محدود من الخلايا العصبية؛ 2000 تقريباً وبالتالي أي تغيير سيكون ملحوظ. بتعريض ذلك الكائن لمختلف المؤثرات بمختلف الدرجات ينتج رد فعل مختلف في القوة، ويظل ذلك الرد ملازم لسبيكة البحر لفترة زمنية تختلف باختلاف تغيرات التشابك العصبي. حيث أن الذاكرة نوعان -كما وضح إريك- فهي إما قصيرة المدى أو طويلة المدى. لو كانت قصيرة فهي غالباً ما تنتج عن تحرير كمية كبيرة من النواقل العصبية دفعة واحدة ظلت تؤثر على الأعصاب المعنية لفترة من الزمن، وكذلك حدوث بعض التغيرات في تلك الأعصاب أدت لحساسية أكبر للنواقل العصبية، وفترة نشاط أكبر مثل زيادة كمية مركبات cAMP و PKA. ويمكن زيادة حجم التشابك العصبي، وكلما زاد تعقيد تلك التغيرات أدت لزيادة التمسك بالذاكرة حتى تتحول لطويلة المدى، بالطبع الوضع في العقل البشري أكثر تعقيداً بكثير لكنه يتبع نفس المبدأ حيث التغييرات التي تصيب مناطق التشابك العصبي بزيادة عددها، أو بزيادة حساسيتها للنواقل العصبية وفترة نشاطها وغيرها من الأمور التي تخدم الذاكرة والتعلم موجودة بين معظم الكائنات على اختلاف درجة التعقيد.
بذلك بدأت الألفية الجديدة بتكريم لإنجاز جديد في للبشرية في رحلة اكتشافها لنفسها.
مصادر (نوبل في الطب وحل ألغاز العقل البشري):
NCBI: Arvid Carlsson, and the story of dopamine
Science: The Neurobiology of Slow Synaptic Transmission ,Paul Greengard
المزيد:
زراعة الأعضاء من اللغز المستحيل لنوبل في الطب
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :