محتويات المقال :
إن الأخلاق هي نظام سلوكياتنا، فكل ما نقوم به يكاد يكون تطبيقًا لما نؤمن به أخلاقيًا ولو بشكل غير واعي. لذلك تعد نظرية الأخلاق نقطة مركزية في كل نسق فلسف. منذ آلاف السنين ويحاول المصلحين والفلاسفة بناء نظرية أخلاقية من شأنها أن تفسر سلوكياتنا وتوجهها أحسن توجيه. نظرية المنفعة أو النفعية حاولت وتحاول بدورها تقديم إجابات لأسئلتنا الكثيرة حول الأخلاق وما زالت تواجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات. هذه النظرية قديمة، دافع عنها بروتوغوراس جزئيًا وتبناها أبيقور واجتهد فيها، كما استمرت الاجتهادات عبر العصور. يعتبر جون ستيوارت ميل من أهم منظري الفلسفة النفعية. ولنتعرف على هذه النظرية نقدم في هذا المقال أهم كتاب في النفعية ألا وهو كتاب المنفعة لجون ستيوارت ميل.
يقسم ميل المدارس الفلسفية الأخلاقية بين الحدسية والاستقرائية وكلاهمها يتفق على أن أخلاقية الفعل الفردي لا تختص بالإدراك المباشر، بل تخص تطبيق القانون على حالة فردية معينة. يأخذ ميل على المدرستين التمسك الحاد بوجود مبادئ عامة للأخلاق. الحدسية تؤكد على وجود مبادئ أخلاقية بديهية بصفة ما قبلية بينما تعول الاستقرائية وجود مبادئ عامة تم كشفها عن طريق التجربة. كلتا المدرستين تقومان على أساس ميتافيزيقي. لذا يرى ميل بأن كل المبادئ العامة بما فيها مبادئ الريضايات فيها نوع من الوهم. بعيدًا عن المبادئ العامة يقول ميل بأن قواعد الفعل الأخلاقي يجب أن تأخذ طابعها ولونها من الغاية التي تكون في خدمة تحقيقها.
منذ بداياتها وتواجه نظرية المنفعة السخرية من منتقديها، إذ يعتقدون أنها تركز على اللذة المحض بأبشع أشكالها الحيوانية. يفند ميل هذا الإعتقاد، فاللذة لا تعني الانغماس في اللذات الجسدية الآنية، بل أن لذات الفكر والأحاسيس والمخيلة والمشاعر الأخلاقية هي ذات قيمة أكبر من اللذات النابعة من الإحساس الخالص، وأن النفعية ترفع من شأن اللذات الذهنية بالمقارنة مع اللذات الجسدية. لذلك فأن نظرية المنفعة لا تتوقف عنذ اللذة بل تجد بأن هدف الإنسان هو السعادة وتخفيف الألم.
السعادة التي تهدف إليها النفعية لا تعني الأنانية، أي سعادة الفرد ولو على حساب سعادة الآخرين. بل هي على عكس ذلك تمامًا. يقول ميل بأن السعادة التي تمثل المقياس النفعي لما هو خير في ما يتعلق بالسلوك ليست متمثلة في السعادة الخاصة للفاعل، بل هي متعلقة بسعادة الجميع. بل تذهب النفعية أبعد من ذلك إذ ترى بأن التضحية بالسعادة الشخصية لأجل سعادة الآخرين تعد أرقى فضيلة.
يعتقد ميل بأنه يمكن القضاء على أكثر الظواهر العالمية فتكًا مثل المرض والفقر. فمع تطوير العلم والتربية الصحية يمكن تقليض رقعة الأمراض بشكل غير نهائي ومن خلال حكمة المجتمع يمكن القضاء على الفقر نهائي.
النفعية متفائلة بخصوص المستقبل، ذلك لأن طبيعة الإنسان قابلة للتعديل والتصحيح، والتجربة على مدى العصور علمتنا الكثير حول السلوكيات الحسنة. لذا يمكن تحسين طبيعة البشر والبيئة المحيطة عن طريق توجيه سلوكياته نحو غايات فاضلة.ثلاثة مباحث في فلسفة أبيقور
هناك لذات جسدية وأخرى ذهنية، لا شك أن الأخيرة أصعب من الأولى. ذلك لأن صاحب الملكات الأرقى يتطلب الكثير ليصل إلى السعادة المرجوة وعادة ما تكون مرهقة أو صعبة المنال. لذلك قد يلتجأ إلى اللذات الجسدية لتعويض ذلك. لهذا فأن الذي يسعى إلى اللذات الدنيا لديه فرصة أكبر للوصول إلى الرضى المطلوب. فالمشاعر السامية هي في معظم الطبائع، نبتة رقيقة جدًا وسهلة الفناء.
لكن تفضيل لذة على أخرى يعود بالدرجة الأساس إلى التجربةو فالشخص الذي لم يجرب اللذات الفضيلة سيفضل اللذات الآنية، كما أن للبيئة والتربية أثر كبير في تفضيلات الشخص، غير أن الذي يجرب الأثنين سوف يفضل اللذات الذهنية.
النفعية ليست فلسفة زاهدة، فهي لا تنفي حقيقة وجود ميول مختلفة في الفرد، فهو لا يهدف دائما إلى اللذات الراقية، بل له الحق في طلب الأخرى أيضا وذلك جزء من طبيعتنا.
يرى ايمانويل كانط بأن الأخلاقي هو الدافع وليس الفعل، فالكذب مهما كانت نتيجته فهو شر. غير أن ميل ينظر إلى الفعل مباشرة، فحتى السلوكيات غير المرغوبة إذا ما أدت إلى نتيجة خيرة فهي تكون خيرة. فمثلًا إنقاذ شخص من الغرق بدافع الحصول على المال أو الشهرة يعد فعلًا أخلاقيًا، لأن الفرد لا يُحاسب على نيته إنما فعله وأثر الفعل.
إن صدق الأعتقاد القائل بأن الله يرغب فوق كل اعتبار في سعادة مخلوقاته، هو ما كان غرضه في خلقها، فإن النفعية لن تكون نظرية دون إله، بل ستكون نظرية دينية في أعماقها.
كل قانون أخلاقي هو قانون يربط بيني وبين الآخرين، أي أن الأخلاق تحدد علاقتنا معهم. ولمحافظة على كل قانون لابد من وجود رادع أو سلطة، سواء كانت تلك السلطة إلهية أم بشرية. نظرية المنفعة الأخلاقية تستند إلى سلطتين وهما السلطة الداخلية والسلطة الخارجية:
كل القوانين الإلهية والوضعية التي تعاقب وتكافأ الإنسان على سلوكياته. فالبشر يرغبون ويؤمرون بكل ما سيقوم به الآخرون تجاههم وحيث يعتقدون أن سعادتهم ستزداد به.
لكل فرد حس أخلاقي وهو جوهر الضمير كما يقول ميل، لكن هذا الحس أو الضمير لا يقع خارج الطبيعة الإنسانية إنما حاصل تجربة الإنسان في العالم ومع الآخرين. تجارب الطفولة، الإحساس الديني، حبنا وتعاطفنا وتقديرنا للآخرين ولأنفسنا وكل ما اختبرناه يشكل ما نطلق عليه بالضمير. إذا ما ارتكبنا خطأ ما فهذا الضمير سيدفعنا للشعور بتأنيب الضمير، ذلك لأننا تعلمنا بأن هكذا أخطا تضر بمصلحتنا وسعادتنا وسعادة الآخرين، وترفض النفعية وجود قوة خفية أخرى وراء حسنا الأخلاقي. أما الشخص الذي لم يتلقى تربية حسنة لن يشعر بأي ذنب إذا ما اقترف خطأ ما وهذه الحالة تفرض وجود سلطة خارجية لتهذيب السلوك.
كل نظرية ملزمة لتقديم دليلها على صحة طروحاتها، بالنسبة للنفعية فأنها تفترض أن شيئا ما مرغوب فيه لأن الناس يرغبون فيه بالفعل، فدليلنا على أن شيئا ما يمكن رؤيته هو أن الناس يمكنهم بالفعل رؤيته. وفقًا لميل فأن السعادة هي كل ما يرغب به الإنسان ولا شيء سواها، فالسعادة هي غاية الفعل ومقياس الأخلاق أيضًا.
بالنسبة النظريات التي قالت بأن الفضيلة هي الغاية، تقر النفعية بأن الفضيلة هي جزء من السعادة، وهي تساعدنا للحصول على سعادة أكبر وألم أقل. كما أن بعض الأمور الأخرى قد تتحول إلى غايات بعد أن كانت وسائل، فالمال، الشهرة والسلطة على سبيل المثال، في البداية كانت وسيلة للوصول إلى الغايات تحولت إلى غايات في حد ذاتها.
لفهم هذه الجزئية يجدر بنا تفسيرها وفقًا لنظرية الاشتراطية التقليدية (Classical Conditioning)، فالمال مثلًا لا قيمة له، لكنه عندما يساعدنا في تحقيق غاياتنا، يتحول بذاته إلى غاية لكونه ينتج نفس المشاعر التي انتجتها غاياتنا، ولكن إذا ما فشل المال في تحقيق سعاتدنا سيخسر المال قيمته، وتسمى هذه الحالة بالإنطفاء.
يذهب ميل إلى شرح مفهوم العدل لغةً، وفقًا فأن لفظة عدل في البداية كانت تعني طريقة القيام بالأشياء ومن ثم صارت تعني الطريقة التي يؤمر بها يعني على السلطات القيام بتطبيقها. يقول ميل على ذلك: “أن الفكرة الأصيلة في تكوين مفهوم العدل كانت تتمثل في مطابقة القانون”.
يتسائل ميل إذا كان الشعور بالعدل يعد شعورًا خالصًا كما الشعور بالألوان وغيرها من المشاعر الخالصة أو أنه نعمة من نعم الطبيعة، أي شعور طبيعي. يرى ميل أن العنصرين المكونين الأساسيين للشعور بالعدل هما الرغبة في عقاب الشخص المتسبب للضرر، والاعتقاد بأن هناك شخصًا معينًا أوأشخاصًا معينين ألحق بهم الضرر، الرغبة في الانتقام رد فعل تلقائي نابع من نوعين من المشاعر الطبيعية وهما الدفاع عن النفس والتعاطف. التعاطف مع الآخرين والذكاء المتطور يساعدان الإنسان لتحقيق المصالح المشتركة. يقول ميل عن ذلك بأن الشعور بالعدل هو الرغبة الحيوانية بالإنتقام بسبب الإساءة الملحقة بالنفس أو الملحقة بمن تعاطف معهم.
الإنسان هو نتيجة بيئته الخارجية والداخلية، التربية السيئة ستخلق المجرمين على سبيل المثال، وبالنسبة للبيئة الداخلية، فوجود أمراض قد يدفع بالمرء ارتكاب الجرائم، لذا العقاب القاسي لا يكون مبررًا لطالما أن الشخص غير مسؤول عن تكوينه الأخلاقي، فالعدل إذن عليه ألا يكون إجراميًا بدوره بل عليه أن يكون تصحيحيًا.
رغم أنه تم ربط النفعية بأبشع أشكال الرأسماية إلا أننا نجد عند ميل ميوله الإشتراكية، لا يُقصد هنا الإشتراكية العلمية (الشيوعية) بل الإشتراكية بمعنى عام، هذا الميل هو الذي تسبب له بمشاكل عائلية أيضًا، لطالما كان والده يكره الإشتراكية. فهو يرى بأن العدالة تقتضي أن تدفع الأثرياء وفقًا لدخلهم.
فهو يتحدث عن العدل بوصفه ضمانًا قانونيًا لحقوق الجميع دون أي إستثناء. فالقانون العادل هو الذي يحمي مصلحة الجميع. فنحن على صلة طبيعية بكل الكائنات البشرية، وهذه الصلة تعد بمثابة وثيقة أخلاقية ومخلفتها أعظم الشرور. والقانون يجب أن يتمتع بالحياد والمساواة وعلى المجتمع كله أن يعامل كل الأفراد معاملة حسنة بشكل مطلق.
اقرأ أيضافلسفة الأخلاق: طبيعة الأحكام الأخلاقية وكيفية تفسيرها
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…