محتويات المقال :
في كتابه الأزمنة السائلة، يقوم زيغمونت باومان بإثارة قضايا جديدة تخص اللايقين الذي يغزو الوجود الإنساني. فوفقًا لباومان فأن حياة الفرد في العالم المتقدم تواجه تحديات كثيرة، ذلك بسبب سلسلة من التحولات الجوهرية والمتداخلة في صلب الحياة نفسها. وهذه التحولات هي:
الفيلسوف النمساوي كارل بوبر كان قد سك مفهوم (المجتمع المفتوح) كنموذح للمجتمع المستقبلي الذي تسود فيه قيم الديمقراطية والتسامح وتقبل المختلف. يقابله (المجتمع المغلق) الذي يتميز بالتخلف والتعصب والعنصرية وعدم تقبل ما هو مغاير. يرى زيجمونت باومان أن المجتمعات صارت مفتوحة ماديًا وفكريًا بفعل العولمة السلبية. بوبر الليبرالي كان ينظر إلى الانفتاح كنوع من التقدم الذاتي للمجتمع من خلال مراجعات نقدية إرادية للموروث الثقافي وأشكال العيش والوجود. بيد أن باومان ينظر إلى الانفتاح الذي صار واقعًا على المجتمعات كانفتاح قسري بسبب الانتقال السريع للمعلومات والانتقال الحر للسلع ورأس المال. فالمجتمعات المختلفة في أفريقيا والعالم الثالث لم تختار انفتاحها، بل وجدت نفسها تحت رحمة قوة السلعة ورأس المال. فهي مجتمعات تعاني من التبعية والبؤس وتواجه قوى لا يمكنها السيطرة عليها ولا حتى فهمها. لذلك، فأن اختراق الع
ولمة السلبية للحدود الثقافية والسيادية للدول/المجتمعات أدى إلى آثار جانبية خطيرة كالقوموية، والتعصب الديني، والفاشية والإرهاب. فالظلم حسب رأي باومان يأتي من السوق الحر وباقي أفرازات الرأسمالية.
إن القلق هو سمة أصيلة لكينونة الإنسان، فوفقًا لهايدغر فأن هذا القلق يجعل من كينونة الإنسان ذات طابع متميز. أما علم النفس التطوري يؤكد وجود هذا القلق كشعور مكتسب من الأسلاف البعيدين. هذا القلق الوجودي أو التطوري، صار فضاءًا للسلعة وسوقًا مريحًا لرأس المال. فهذا الخوف صار يكتسب طاقته من الداخل وينمو ويتوالد ومن ثم يدفع بالإنسان للقيام بفعل دفاعي حتى يتسرب إلى أنشطته اليومية. فالتقدم الذي كان أملا عظيمًا بالمستقبل صار وحشًا. فمن مظاهر الحياة المتقدمة الآن هي العيش خلف الأسوار، استئجار الحراس، سيارات مصفحة، التدرب على فنون القتال. حيث أن مقاومة الخوف هذه تعد مولدًا للخوف.
لا تكل العولمة السلبية من تصدير مولدات الخوف، سواء من خلال صنع المزيد من الأسلحة ومن خلال خطابات صنع الخوف. فأحداث 11 سبتمبر على سبيل المثال، تم الترويج لها لبناء خطاب محاربة الإرهاب. ويقول باومان بأن الخطابات وكذلك ممارسات الدولة في محاربة الإرهاب تعد المولد الرئيسي لكل من الخوف الداخلي للفرد وتطور الإرهاب نفسه. “كان الساسة قد احتاجوا إلى إعادة إنتاج صدمة الأبراج المتساقطة بالتصوير البطيء لشهور حتى يتمكن الناس من فهم تلك الأخبار ومن تم استغلال قلق الناس الوجودي في خدمة الديباجات السياسية الجديدة”.
وفقًا لفرويد فأن مصدر خوفنا يأتي من الطبيعة العليا التي لا يمكن السيطرة عليها نظرًا لضعفنا. أما الهوس الحالي بالأمن يعطي دلالات جديدة لذلك الشعور الأزلي، فصرنا نخاف من بعضنا البعض. يرجع باومان سبب هذه المخاوف السائلة إلى كل من التقدير المفرط للقيود المفروض من قبل الشبكة الاجتماعية ومن ثم إلى حرماننا من خدمات وحماية تلك الشبكة. الحداثة في مرحلة الصلابة كانت تقدم الأمن بطرق واضحة ومفهومة من خلال مؤسسات الرفاه (التعليم المدرسي، الإسكان، قوانين وواجبات الجميع…إلخ) فكان الخوف لا يأتي إلا من ضربات القدر كالحوادث.
بعد الحرب العالمية الثانية صارت الدولة تهتم بالسلامة والأمن الشخصيين لا أمن الجماعة. ففي عصر الاقطاعيات والملوك لم تكن قواعد الخوف والأمن مفهومة. فكان الملك هو ظل الله وهو من يقرر مسير الفرد دون وجود أسس موضوعية، إذ كان عصر اللايقين. ومن ثم ظهرت الاهتمامات العامة بالحقوق السياسية والملكية، وهذه الحقوق كانت تعطى للنخبة وكانت حجتهم في ذلك بأن الذي ليس له ملكية ليس له الحق في سن القوانين والتشريعات، فمن لا يملك شيئا ليس له الحق في الحريات السياسية.
بعد ذلك جاء نموذج دولة الرفاه ليؤكد على أن الحقوق السياسية هي شرط شعور الفرد بأمنه الشخصي وأن الحقوق الإجتماعية تعطي المعنى للحقوق السياسية وتفعلها. حدث تحول خطير بعد ذلك، فالديمقراطية الحديثة انتقلت من تكييف المؤسسات والاجراءات السياسية مع الواقع الاجتماعي إلى توظيفها في إصلاح وتعديل الواقع الاجتماعي، ومن حفظ توازن القوى الاجتماعية إلى تغييره. نتيجة لهذا التحول ولدت المخاوف من تحرير السوق وسيرورة النزعة الفردية. وتفككت الروابط التي كانت تبدو ثابتة وأبدية لصالح روابط مصنوعة (كالاتحادات والنقابات والكيانات المؤقتة. في هذا العالم الجديد بدأ اللايقين يسيطر على الإنسان، فبدلا من التضامن الجماعي حل التنافس بين الأفراد. هكذا تحول المجتماعات إلى مجموعة من الأفراد، يتنافسون ويتعاملون مع بعضهم البعض كآخرين لا يربط بينهم أي رابط طبيعي.
سابقًا كان الحضر يعني مناطق مأهولة، في حين عُرفت المدينة بأنها مناطق ذات كثافة عالية تتميز بالتواصل والتفاعل. بدأت المدينة للفصل بين (نحن) و (الآخرين)، لذا تميزت أولى المدن بوجود أسوار عالية تفصل بين (نحن) و (هم)، بين النظام والفوضى، بين المدني والبربري. بيد أنه في يومنا هذا، صارت المدينة هي قلب الفوضى والأخطار ومكان الغرباء (الآخرين). ففي داخل المدن هناك أسوار جديدة، تفصل بين الطبقتي الدنيا والعليا، تعيش النخبة في مناطق ملائمة بينما باقي الناس يتم حشرهم في أحياء متواضعة وهم يمثلون رعبًا للنخبة. فضاء النخبة ينعم بالاتصال العولمي وبشبكة واسعة من التبادل والتعامل أما الفضاء المقابل فتسكنه شبكات محلية مقطوعة وفق الخلفية العرقية.
كان السكان في المدن القديمة يحملون الهوية نفسها بقطع النظر عن الطبقات المتفاوتة، يقاتلون من أجل مدينتهم ويجدون فيها رمزًا لكرامتهم. المدن الحديثة تقسم بين فضائين، فضاء النخبة وفضاء البؤساء، كما أن لا تفصل بين هوية وأخرى إنما بين الهوية واللاهوية. ففي حين أن الأشخاص من الطبقات الدنيا لديهم حس هووي ومشاعر قوية تجاه الأرض/الوطن. فأن أبناء النخبة يقتصر وجودهم في المدينة في الجانب الفيزيائي وحسب، بالنسبة لهم تعد المدينة مجرد مكان، يمكنهم الانتقال إلى غيره، فكل مكان بالنسبة لهم هو مكان للاستراحة.
حسب باومان قأن فقدان النخبة شعورهم تجاه مدينتهم يعد من أهم سمات تحول المدينة الصلبة إلى السائلة. يشير باومان إلى العقارات المشتركة التي تبنيها النخبة في المدن ويشرح دلالاتها الهندسية. فمقابل أحياء ومناطق تعج بالفقر وشوار يعيش فيها المدمنين والمتسولين، ثمة عقارات مشيدة بالأسوار وأبراج مراقبلة وبوابات ذات حراسة تدقيقية عالية فضلا عن الخدمات الخيالية فيها، فكل ما في تلك العوالم الصغيرة تفصل بين سكانها وبين باقي الناس فيزيائيًا ووجوديًا.
في القرن السادس عشر، كتب الإنكليزي توماس مور كتاب يوتوبيا (Utopia) هذا المصطلح يشير ضمنيًا إلى كلمتين يونانيتين (eutopia= المكان السعيد) و (outopia= اللامكان). مع هذا القرن فقد الإنسان ثقته بالعالم بعد أن رأى فيه أشكال الفساد كلها. يأتي باومان بثلاثة أمثلة لتفسير حالة اليقين عند الإنسان في عصور مختلفة. فإنسان قبل القرن السادس عشر كان (حارس السيد). ذلك لأن حارس الصيد يحافظ على الأرض ويثق فيها بإعتبرها هبة من الله أو الطلبيعة. البستاني، يمثل إنسان ما بعد القرن السادس عشر. فهو لا يثق إلا بقدرته وعمله، يعتقد بأنه عليه أن يتدخل في شأن الطبيعة لجعلها أفضل. إنسان اليوم هو مثله مثل الصياد، يبحث هنا عن السمك، لا يهمه إذا ما افسد المكان فهو سيجد غيره
وفقًا لبومان فأن إنسان اليوم، كائن خائف، فريسة أخطار تأتي مثل صاعقة، لا يمكنه أن يتوقع أو حمي نفسه وما عليه إلا أن يعيش الخوف. هذا الإنسان يبحث دومًا عن يوتوبيا في خياله، أي عالم يمكنه الوثوق فيه. لا يتفق باومان مع اوسكار وايلد وآناتول فرانس، فالأول كانا يعتقدان بأن فكرة اليوتوبيا تحفز الإنسان للتقدم. بينما باومان يجد في هذه الفكرة كحيلة دفاعية، كما يربط بين اليوتوبيا والحداثة. كلاهما إشارة إلى أن العالم فيه خطأ ما وأن للإنسان قدرة تصحيحه.
أما إنسان ما بعد الحداثي، يأخذ فكرة يوتوبيا كمجرد طرفة خالية من أي معنى ذلك بسبب عجزه وكونه صياد محض. التحول الآخر الذي حدث في فكرة اليوتوبيا هي أن التقدم الذي يحلم به البشر لم يعد غايته بناء عالم آمن للجماعة، بل مجرد عالم يخدم طموح الفرد في البقاء. فعالم متقدم لا يعني أفضل مكان للعيش بل هو مهرب وحسب. إذا كانت اليوتوبيا تعني نهاية تاريخ الشقاء فالتقدم الرأسمالي هو كمثل الصياد الذي عليه أن يكدح إلى الأبد.
إقرأ أيضًا وكأنك قرأت: خلاصة القرن لكارل بوبر
زيجمونت باومان, الأزمنة السائلة العيش في زمن اللايقين, ترجمة حجاج أبو جبر, الطبعة الثانية, الشبكة العربية للأبحاث, بيروت 2019
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…