هيراكليتس واستحالة الهوية
يمثل بعض الفلاسفة، القدماء على وجه التحديد، رمزية تاريخية لا غير، لنقلهم الأسئلة الكونية من المحافل الدينية إلى دار الفلسفة. بيد أن هيراكليتس لا يزال يحتفظ بملكيته في الفلسفة، فهو ملهم الكثير من الفلاسفة ومقولاته تحولت إلى سرديات يقف عندها البحث الفلسفي إلى يومنا هذا. كان هيراكليتس موضوع أطروحة ماركس للدكتوراه كما يعد مصدرًا رئيسًا في المادية الماركسية. ويعترف هيغل بقيمته الفلسفية ويعطيه نيتشه اعتبارًا فلسفيًا كبيرًا، أما هايدغر فيجد فيه مادة دسمة للتأويل. فكما اعتبر هيراكليتس العالم كرموز استوجب تأويلها يرى هايدغر في مقولاته رموزًا مشفرة تحتاج التأويل. في هذا المقال سنسلط الضوء على استحالة الهوية عند هيراكليتس. ويُكتب بالعربية هيراكليتيس أو هيراكليتس أو هرقليطس.
محتويات المقال :
تبدأ مع هيراكليتس مرحلة جديدة من تاريخ الفلسفة من حيث موقعة الحدث الفلسفي أو فيما يتعلق بالمنهج. ولد الفيلسوف في أفيسيوس في العقد الأول من القرن الخامس قبل الميلاد. لا نكاد نعرف شيئا عن حياته سوى ملاحظات نقلها بعض المؤرخين مثل ديوجين اللايرتسي. بالنسبة لفلسفته، بقت بعض الشذرات المنسوبة إليه مع مناقشة أفلاطون وأرسطوطاليس النقدية لآرائه. ثمة سمات مهمة في شخصيته يستوجب ذكرها لأهميتها في تشريح أفكاره ونظرياته المثيرة للجدل.
كان هيراكليتيس يسخر من معظم فلاسفة وشعراء اليونان مثل هومر وهزيود. كان يعتبر نفسه الفيلسوف الأوحد ويزدري الآخرين جميعًا. هذه المركزية حول الذات دفعته إلى الانتحار.
كان ينفي القدسية عن الدين ويتهم رجال الدين بالمتاجرة بالمقدس.
مال هيراكليتيس إلى العزلة، وعُرف بشخصيته المكتئبة؛ فسمي بالفيلسوف الباكي. [1]
إن المساهمة الهيراكليتية في فكرة الصيرورة ما زالت تحتفظ ببريقها في الفلسفة وبصورة جمالية في الأدب والفن. مع أنها كانت تمثل حجر الزاوية في الفلسفة الملطية بيد أن تناول هيراكليتس لها يعد منعطفًا أصيلًا في الفلسفة.
هذا ما جعل من هيراكليتس فيلسوفًا معروفًا هو مقولته:
“لا ننزل إلى نفس النهر مرتين”
ويشكل هذا القول جوهر فلسفته.
يؤمن هيراكليتس بما يمكن تسميته باستحالة الهوية، فيقول: “لا شيء يستقر على حال، لا شيء يدوم” معلنًا لا واقعية الواقع [2].
فما نسميه بالواقع ما هو سوى جريان مستمر على جميع الأصعدة: الأنطولوجي، الكوزمولوجي، الأخلاقي والأبستومولوجي. لا يوجد استقرار مادي، ولا وجود لرأي صائب دومًا ولا قيمة أخلاقية تدوم. ذلك لأن “الزمن طفل يلعب بالدمى”[3]. فيقول” ننزل إلى النهر نفسه ولا ننزل، نكون ولا نكون”، وأيضًا “لا يمكن النزول إلى النهر نفسه مرتين”. [4]
إن النزعة الصوفية لدى هيراكليتس تجعله يميل إلى السردية الصوفية الأشهر، وحدة الوجود، وجود واحد وكثير في الحين نفسه. غير أن هذه الوحدة لا تشبه الوحدة الملطية، طاليس والماء، أناكسيماندر والأبيرون، أناكسيمينس والهواء. فهي وحدة توجد بوجود الاختلاف والكثرة مع أن هيراكليتس نفسه يتمسك بمبدأ العنصر الواحد، النار.
يعلن هيراكليتس بأن “العالم لم يخلقه إله أو بشر، فهو كان ويكون وسيكون إلى الأبد” [4] وإن هذا العالم يعيش حالة صراع دون أي أمل بالخلاص ذلك لأن العالم ما هو إلا هذا الصراع. فيقول على ذلك “إن الواحد لا يوجد إلا في توتر الأضداد، ذلك التوتر الأساسي والجوهري لوحدة الواحد”[5] ويعلق على جوهرية الصراع بقوله “علينا أن نعرف أن الحرب هي العامل المشترك في كل شيء، وأن الصراع هو العدالة، وأن جميع الأشياء تظهر وتختفي من خلال الصراع”[5].
وكان يعتبر ما قاله هومر (ينبغي أن ينتهي الصراع بين الآلهة والناس) بقوله “فهو لم يدرك أنه يدعو لخراب العالم، فلو استجيبت دعوته لاختفت جميع الأشياء”.[6] وهذا الصراع محكوم بعقل كلي، اللوغوس من خلال الطريق الصاعد والهابط التي تشكل تناغمًا خفيًا في الكون.
يدعي هيراكليتس بأنه تعلم ذاتيًا ودون حاجة إلى معلم. هذا الإدعاء من شأنه أن يثير الإشكال الإبستمولوجي التقليدي، أي مصدر المعرفة. فهل المعرفة/التعلم تذكر وحسب كما زعم سقراط؟ أم أن الحواس هي مصادر معرفتنا كما ذهب السفسطائيون؟
الاقتصاد الهيراكليتي لا يعتمد على مصدر واحد فقط. ويعتقد هيراكليتس بأن الكل واحد والواحد هو الله/لوغوس وهذا الكل/العالم منظم بشكل مفهوم. وما يساعدنا على الفهم هو العقل، التجربة الحسية.
بالنسبة للحواس يقول “أفضل ما هو قابل لأن يُرى ويُسمع ويُجرب” لكنه في شذرة أخرى يقلل من شأن الحواس لصالح العقل، العقل في علاقته مع الفهم اللغوي ويقول “تمثل العيون والآذان شهودًا مساكين لمن هم يمتلكون روح البرابرة”[7] مع أن العالم لا يوجد بل يصير إلا أنه يُفهم، فاستحالة الهوية المتأصلة في فلسفة هيراكليتس المادية لا تغطي الحقل الإبستمولوجي.
المعرفة ممكنة في عالم غير ممكن الوجود. بيد أنه فهم العالم عن طريق العقل لا يعني بأن الحقيقة توجد في العقل أو يمكن القبض عليها من خلال توجيه عين العقل نحو جهة الحقيقة.
إن العالم الماثل أمامنا تنوجد حقيقته داخل اللغة، اليونانية على سبيل الحصر. فاللوغوس لا يقدم حقيقته كما هي بل على شكل رموز مشفرة وأسرار واقعة في علامات لغوية؛ إن طريق المعرفة غير مباشر. فيقول بأن “الإله الذي توجد كاهنته في دلفي لا ينطق بالمعنى ولا يخفيه بل يكشف عنه بالرمز وحسب”. بذا، فأن هيراكليتس الصوفي يتفلسف ألغازًا وباستخدام أدوات خطابية غير مفهومة وسمي على أثر ذلك بالفيلسوف “الغامض”. [7].
إن هيراكليتس يصور العالم من خلال الصراع الموجود فيه، بحيث كل ما هو ماثل في العالم نتيجة حتمية للصراع الموجود بين الأضداد. هذا التصور له أبعاد كثيرة، فمن الناحية الأبستومولوجية فالحقيقة لا ترقد هنا أو هناك في حالة مستقرة. ومن الناحية الكوزمولوجية فالشيء محكوم بالتغيير والصيرورة وهو في حالة جريان مستمر. وحتى الجانب الأخلاقي لا يسلم من هذا الصراع، فما هو صائب يغدو خطأ والعكس صحيح. مع أن هيراكليتس كان ضد الله الدين والكهنوت لكنه يحيل العالم كله إليه، فهو الكل، وما الأشياء إلا وحداته وعناصره.
عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…
اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…
ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…
من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…
الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…
لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…
View Comments