لم يعد الانقراض كلمة نهائية في قاموس العلم الحديث. فبعد قرون من اختفاء طائر الدودو من على وجه الأرض، يعود اسمه ليتردد مجددًا في الأوساط العلمية، لكن هذه المرة ليس كرمز للانقراض، بل كهدف لمشروع علمي طموح يهدف إلى إعادته إلى الحياة. فمنذ اللحظة التي اختفى فيها هذا الطائر الأيقوني، أصبح يمثل تحذيرًا صارخًا من عواقب التدخل البشري في الأنظمة البيئية. لكن اليوم، تسعى شركة “كولوسال بيوساينسز” الأمريكية إلى قلب هذه المعادلة، مستخدمة أحدث تقنيات الهندسة الوراثية لإعادة إحياء طائر الدودو، في مبادرة لا تثير التساؤلات العلمية فحسب، بل تفتح أيضًا نقاشًا أخلاقيًا واسعًا حول حدود التدخل البشري في الطبيعة.
قصة الانقراض وعودة الأمل
يعد طائر الدودو، واسمه العلمي Raphus cucullatus، واحدًا من أشهر الطيور المنقرضة في التاريخ. كان هذا الطائر الذي لا يطير، ويعود أصله إلى جزيرة موريشيوس (Mauritius) في المحيط الهندي، يمثل رمزًا فريدًا للتكيف مع بيئته. تطور الدودو على جزيرة خالية من أي حيوانات مفترسة برية، مما أدى إلى فقدانه قدرته على الطيران، وزيادة حجمه بشكل كبير، ليصبح أكبر حمامة في التاريخ. لكن مع وصول البحارة الهولنديين إلى الجزيرة في أواخر القرن السادس عشر، بدأت مأساة هذا الطائر. فخلال أقل من قرن واحد، اختفى الدودو بشكل كامل، ليس فقط بسبب الصيد الجائر من قبل البحارة، بل أيضًا بسبب الحيوانات المفترسة التي أدخلوها إلى الجزيرة، مثل الكلاب والخنازير والجرذان، والتي كانت تتغذى على بيضه وفراخه، مما أدى إلى انهيار أعداده بشكل سريع. ويُعتقد أن آخر مشاهدة موثقة له كانت في عام 1662، ليدخل التاريخ كأول حيوان يُعرف عنه أنه انقرض بسبب النشاط البشري.
واليوم، تسعى شركة “كولوسال بيوساينسز” (Colossal Biosciences) إلى تغيير هذا المصير. المشروع الذي أعلن عنه بن لام، الرئيس التنفيذي للشركة، يهدف إلى إحياء الدودو خلال السنوات السبع المقبلة. وتعتمد الشركة على مزيج من التقنيات المتقدمة، حيث تسعى لاستنساخ الطيور والحيوانات من خلال مقاربة علمية مبتكرة تتجاوز التحديات التي تواجه استنساخ الطيور تقليديًا.
التقنيات العلمية وراء “العودة“
الاستنساخ التقليدي للطيور يواجه عقبات كبيرة، أبرزها عدم وجود بدائل اصطناعية للرحم أو الحاضنة الطبيعية للبيضة. وللتغلب على ذلك، يركز العلماء في “كولوسال بيوساينسز” على تطوير خلايا أولية جرثومية (PGCs) من أقرب الأقارب الحية للدودو، وهي حمامة نيكوبار. هذه الخلايا هي اللبنة الأساسية التي تتطور لاحقًا إلى خلايا جنسية (حيوانات منوية وبويضات).
ووفقًا لآخر التطورات التي أعلنت عنها الشركة، فقد حقق الفريق العلمي بقيادة البروفيسورة بيث شابيرو (Beth Shapiro)، رئيسة الفريق العلمي، اختراقًا كبيرًا بنجاحهم في استزراع هذه الخلايا من حمامة نيكوبار. هذا الإنجاز يمثل خطوة حاسمة نحو تحقيق الهدف. بعد ذلك، سيتم استخدام تقنية الهندسة الوراثية “كريسبر” (CRISPR)، وهي أداة قوية لتعديل الجينات، لتعديل الحمض النووي لحمامة نيكوبار ليصبح مشابهًا قدر الإمكان للحمض النووي لطائر الدودو المنقرض. وقد نجح العلماء في عام 2021 في فك شفرة جينوم الدودو بالكامل، مستخدمين عينات من بقايا العظام المحفوظة في المتاحف، وهو ما يعد حجر الزاوية للمشروع.
بعد تعديل الجينوم، يأتي الجزء الأكثر تعقيدًا: “صنع” الطائر. تخطط الشركة لحقن الخلايا الجرثومية المعدلة في أجنة دجاج معدلة وراثيًا، بحيث تعمل هذه الدجاجات كبدائل حاضنة (Surrogates). الهدف هو أن تقوم هذه الدجاجات بإنتاج حيوانات منوية وبويضات تحمل الحمض النووي المعدل لطائر الدودو، مما يسمح بفقس بيضة “دودو” حقيقية، وإنتاج جيل جديد من الطيور.
هذه التقنية، التي يطلق عليها “الهندسة الوراثية” و”التهجين العكسي” (Reverse Hybridization)، تختلف عن الاستنساخ البسيط. فهي لا تهدف إلى استنساخ نسخة طبق الأصل من الدودو، بل إلى بناء كائن حي هجين قريب وراثيًا وشكليًا من الطائر الأصلي، يمكن أن يسمى “دودو” وظيفيًا.
الاستثمارات الضخمة والدوافع وراء المشروع
تتلقى شركة “كولوسال بيوساينسز” تمويلًا كبيرًا من مستثمرين مرموقين، حيث حصلت على استثمارات بقيمة 120 مليون دولار في جولة تمويل جديدة، ليصل إجمالي تمويل الشركة إلى 555 مليون دولار. من بين المستثمرين البارزين المخرج الشهير بيتر جاكسون، مخرج سلسلة أفلام “سيد الخواتم” (Lord of the Rings)، الذي أعلن عن دعمه للمشروع. ويُظهر هذا التمويل الضخم مدى الجدية في تحقيق هذا المشروع، بالإضافة إلى بناء مركز أبحاث جديد في تكساس.
تؤكد الشركة أن هدفها لا يقتصر على إعادة إحياء الدودو والماموث الصوفي (Woolly Mammoth) فقط، بل يمتد ليشمل حماية الأنواع الحديثة المهددة بالانقراض. فالتكنولوجيات التي يتم تطويرها في هذا المشروع، مثل أدوات تعديل الجينات وتقنيات الاستنساخ، يمكن استخدامها لإنقاذ الأنواع المهددة من حافة الهاوية. فمن خلال فهم جينوماتها وتطوير تقنيات تساعد على زيادة التنوع الجيني أو استعادة قدرات مفقودة، يمكن أن يساهم هذا العلم في جهود الحفاظ على التنوع البيولوجي.
النقاش الأخلاقي والعلمي: هل هي خطوة نحو المستقبل أم مجرد خيال؟
على الرغم من الحماس الذي يثيره هذا المشروع، إلا أنه يواجه جدلاً واسعًا في الأوساط العلمية والأخلاقية. يرى البعض أن إحياء الأنواع المنقرضة هو خطوة غير طبيعية وقد تؤدي إلى عواقب بيئية غير متوقعة. فإذا تمت إعادة الدودو، أين سيعيش؟ هل لا تزال جزيرة موريشيوس قادرة على استضافته بعد أن تغير نظامها البيئي بشكل كبير؟ وما هو التأثير الذي قد يتركه على الأنواع الموجودة حاليًا؟ يجادل المنتقدون بأن الأموال الهائلة التي تُنفق على هذا المشروع يمكن توجيهها بشكل أفضل نحو حماية الأنواع الحية المهددة بالفعل.
من جانب آخر، يرى المؤيدون أن هذا المشروع ليس مجرد إعادة للحياة، بل هو فرصة لتعلم المزيد عن الأنظمة البيئية وكيفية حمايتها. يمكن أن يساعد إحياء الأنواع “الأساسية” في استعادة التوازن البيئي الذي تضرر بفعل الانقراض. كما أن التكنولوجيا المتقدمة التي يتم تطويرها ستكون لها تطبيقات واسعة النطاق في الطب، والزراعة، والحفاظ على البيئة. يرى بن لام أن مشروع شركته يجب أن يسير جنبًا إلى جنب مع جهود الحفاظ على البيئة الأخرى، وليس بديلاً عنها.
إن مشروع إعادة إحياء طائر الدودو يمثل نقطة تحول في تاريخ علم الأحياء. فبينما كان الانقراض يُعتبر سابقًا حقيقة بيولوجية لا رجعة فيها، أصبح الآن مفهومًا يمكن للعلم الحديث أن يتحدى. إن نجاح “كولوسال بيوساينسز” في هذا المسعى لن يمثل مجرد عودة لطائر أسطوري، بل سيفتح الباب على مصراعيه أمام حقبة جديدة من التكنولوجيا الحيوية، حيث يمكن للبشر أن يعيدوا بناء ما دمروه. ومع ذلك، تبقى التساؤلات الأخلاقية والبيئية قائمة: هل نحن مستعدون لتحمل مسؤولية إعادة الأنواع المنقرضة، أم أننا نفتح صندوق باندورا جديدًا؟ الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد مستقبل ليس فقط طائر الدودو، بل ربما مستقبل التنوع البيولوجي على كوكبنا.
كان حلم تصنيع آلات دقيقة بحجم الذرات والجزيئات مجرد خيال علمي، لكن اليوم، بفضل التقدم…
تُعدّ الطاقة المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية، حجر الزاوية في بناء اقتصادات المستقبل المستدامة. فمع تزايد…
في سماء يوليو 2025، لفت جرم سماوي غامض الأنظار، مذنب ضخم أطلق عليه اسم "3…
تعتبر أعماق المحيطات آخر الحدود المجهولة على كوكب الأرض، فهي عوالم غامضة لم تكشف بعد…
لطالما كانت كسور العظام كابوساً يؤرق الملايين حول العالم، فالطرق التقليدية لعلاجها غالباً ما تقتضي…
هناك اعتقاد سائد منتشر بشكل كبير بأن الإنسان والشمبانزي يتشاركان في ما يقرب من 99%…