هل تحول السلطة البشر إلى وحوش ؟
يوم الإثنين الماضي طرأت حادثة ليست الأولى من نوعها في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث قام ضابط شرطة بقتل مواطن أمريكي إفريقي غير مسلح في أثناء القبض عليه، وذلك عن طريق وضع الضابط لركبته على رقبة المواطن جورج فلويد البالغ من العمر 46 عاماً لعدة دقائق. ومن الأمور المعبرة عن وحشية الموقف أن الضابط لم يرفع ركبته عن رقبة جورج على الرغم من استغاثة جورج المستمرة للشرطي قائلاً: أرجوك أنا لا أستطيع التنفس، أرجوك. وكذلك قام المارة بالتوسل للشرطي تارةً وسبه تارةً أخرى، ولكن بلا أي جدوى حتي أصبح جورج جثة هامدة لا تقوى على الحركة تحمله عربية الإسعاف. وقد أسفر ذلك الحادث عن موجات غضب قوية جدا، ومظاهرات، وأعمال عنف واسعة النطاق وخاصة في مدينة Minneapolis-مينيابوليس التي وقع فيها الحادث، وذلك في ظل المطالبة العالمية للمواطنين بالمكوث في المنازل خوفاً من خطر الوباء العالمي. في ظل كل تلك الفوضى تظهر رغبة ملحة وفضول شديد لتفسير تلك الحادثة لماذا قام ضابط الشرطة من الأساس بتلك الجريمة على الرغم من استسلام المواطن التام؟ بالطبع لا يمكن اعتبار تلك الحادثة أمراً فردياً فمثل تلك الأمور تتكرر مراراً في أنحاء العالم حتي أنها تتشابه مع مقتل المواطن الأمريكي الإفريقي إريك غارنر عام 2014، فيبقي السؤال: هل تحول السلطة البشر إلى وحوش؟ لمعرفة الإجابة لابد من الرجوع لداراسات وتجارب علم النفس بخصوص ذلك الإطار.
محتويات المقال :
تجربة سجن ستانفورد:
في عام 1971 قام باحثين في علم النفس في جامعة ستارنفورد بتجربة محاكاة لحياة السجن داخل قسم علم النفس بالجامعة حيث قاموا بطلب متطوعين لتجربة نفسية ستسمر لمدة أسبوع إلى أسبوعين في مقابل 15 دولار يومياً أي ما يعادل 70 دولار تقريباً الآن. تقدم لتلك التجربة 70 طالباً جامعياً تقريباً. تعرضوا لبعض الاختبارات النفسية، والتدقيق في سجلهم الجنائي، وبعض الفحوصات الأخرى. حتى تم اختيار 24 فرد فقط ثم تقسيمهم إلى مجموعتين متساويتين من المساجين والحراس بشكل ٍعشوائي. تم تجهيز قسم علم النفس في الجامعة ليصبح مشابهاً للسجن حيث تم استبدال الأبواب العادية بأبواب أخرى من القضبان، تم تغطية جميع الشبابيك مع عدم وجود ساعات على الحوائط فلا توجد طريقة لمعرفة الوقت، بالإضافة لبعض التجهيزات الأخرى التي تجعل من مبني جامعي عادي سجناً وتم الاستعانة بالمختصين في ذلك الإطار.
والآن بعد تجهيز السجن يجب تجهيز الطلاب المتطوعين عن طريق إدخال مجموعة المساجين حالة من التوتر والواقعية حيث تحركت سيارات شرطة حقيقية تقوم بالقبض على الطلاب المشتكرين في التجربة بشكل مطابق لإلقاء القبض على المجرمين. ثم وضعهم في قسم الشرطة مع تغطية عيونهم. حتي تم استدعاء الطلاب ليتم نقلهم إلى جامعة ستانفورد حيث التجربة، وهناك تم تعمد الإيذاء النفسي، والإهانة حتى يشعروا بالواقعية، حيث تم تفتيشهم، وتعريتهم من ملابسهم، ورش بعض المطهرات عليهم حتى يتم تعقيمهم، ثم تم حلاقة شعر رأسهم بطريقة مماثلة للتي تحدث في السجن الحقيقي وذلك حتى يفقدوا جزء من الإحساس بالتميز عن غيرهم حيث أن الشعر هو أحد الأمور التي تجعل الإنسان يشعر بالتميز. ثم ارتدى المساجين ثوباً موحداً. وكان من الأمور الغريبة في التجربة هو ارتدائهم لسلاسل معدنية ثقيلة حول أرجلهم، وذلك حتي يظل المسجون متذكراً لكونه مسجوناً حتى في نومه وأحلامه. وبالنسبة للحراس تم تزويدهم جميعاً بنفس الرداء وتقسيمهم على مناوبات طوال اليوم، ولكن الأكثرأهمية أن جميع الحراس ارتدوا نظارات سوداء حتي لا يستطيع السجناء رؤية عينوهم ولا يحدث تواصل عاطفي من أي نوع، والآن بعد كل التحضيرات تبدأ اللعبة.
بدأ الحراس في فرض سيطرتهم على المكان بسرعة عن طريق النداء علي المسجونين بأرقامهم -حيث لم يتم ندائهم بأسمائهم الحقيقية طوال التجربة حتى يفقدوا الإحساس بهويتهم- في الساعة الثانية فجراً، وإيقافهم في صفوف مع معاقبة أي مخالف بأن يقوم بالضغط- push ups، والغريب أن ذلك كان أسلوب عقاب في السجون النازية. كان من المفترض أن يستمر الوضع بشكل طبيعي وتكون تجربة مملة لمدة خمسة عشر يوماً، ولكن هذا لم يحدث ففي اليوم التالي قام المساجين بالتمرد حيث قاموا بتغييرموضع أسرتهم حتى تقابل الباب لمنع الدخول إلى الزنازين. في تلك اللحظة تحديداً بدأت طباع الحراس في التغير، حيث استطاعوا أن يتحدوا في وجه التمرد فقاموا بقمعه جسديًا ونفسياً، حيث استخدموا طفايات الحريق لإبعاد المساجين عن الباب ثم قاموا بتجريدهم من ملابسهم وأخذوا أسرتهم إلى الخارج لينام المساجين على الأرض الباردة، ووضعوا قادة التمرد في الحبس الإنفرادي. وعلي الصعيد النفسي قاموا بعمل غرفة الامتيازات حيث وضعوا في تلك الغرفة أسرة وجعلوها مهيئة ونقلوا فيها المساجين الذي لم يشاركوا في التمرد وأطعموهم بشكل جيد وأعطوهم ملابسهم، ثم بعد فترة أعادوهم إلى أماكنهم اللأصلية مما خلق فتنة بين المسجونين حيث أعتقدوا أن هؤلاء وشاه، فسيطر جو من المشاحنة بينهم، وفرق جمعهم. لم تكن تلك حادثة التجاوز الوحيدة الصادرة من الحراس تجاه المسجونين فقد قاموا بإهانتهم مراراً وتكراراً. والغريب في الأمر أن حتى مراقبين التجربة اختلط عليهم الواقع وظنوا في بعض الأحيان أنهم مشرفين على سجنٍ حقيقي ويريدون الحفاظ على نظامه ونسوا أنهم علماء نفس في الأساس وما تلك إلا تجربة، بل وقد الدخل المسجونين في حالة استسلام المسجونين فعلا وكادوا أن ينسوا أنهم طلبة. ومع استمرار ذلك الوضع لم يتحمل المساجين أكثر من ذلك وقد تمادى الحراس للغاية مما دفع القائمين على التجربة إلى إلغائها. عزيزي القارئ لك أن تتخيل أن المشرف على تلك التجربة دكتور زيمباردو- Zimbardo شبه التجاوزات التي فعلها بعض الحراس في تجربته بالتجاوزات في أسوأ سجون العالم وهو سجن أبو غريب من حيث تحرش بالمسجونين، تجريدهم من ملابسهم، إجبارهم على تنظيف الحمامات بأيدهم العارية، وضعهم في حبس انفرادي لفترات طويلة وغيرها الكثير. كتب الدكتور زيمباردو ذلك في جريدة Boston Globe. تذكر معي أن هؤلاء لم يكونوا حراساً بل كانوا طلبة طبيعيين في مقتبل العمر.
ولكن ما التفسير وراء كل ذلك؟ في الحقيقة تركت تلك التجربة خلفها الكثير من الضجة والتفسيرات. ممكن أن يتم تقسيم التفسيرات إلى مدرستين أحدهم يرى أن الموقف نفسه الذي تعرض له الحراس كافٍ ليتعرضوا لتلك التغيرات الغريبة حيث إعطائهم السلطة كان قادرا ًعلى تحويلهم لوحوش. لم يقتنع العديد بتلك النظرية وبدأوا يبحثوا عن أمور سرية في التجربة تحمل معها التفسير ولكن في دراسة نُشرت عام 2007 تفترض أن الطلاب المتطوعين للتجربة كانوا في الأساس لديهم الاستعداد لتلك الوحشية، حيث قام الباحثون بنشر إعلانين مختلفين لطلب متطوعين أحدهم لدراسة سيكولوجية عادية والآخر لمحاكاة حياة السجن وقد كان مطابقاً لإعلان تجربة ستانفورد مع استبدال رقم 15 دولار بسبيعن. فتقدمت مجموعتين مختلفتين لكل إعلان ثم قام الباحثون باخبتارات نفسية لكلاً منهما لقياس عدة جوانب في نفسية المجموعتين. وكانت المفاجأة أن مجموعة الطلاب الذين تقدموا لتجربة محاكاة السجن كانوا أكثر توجهاً لبعض الاظطرابات النفسية مثل: النرجسية، الغضب، حب السلطة والسيطرة،وحب الطبقية أوالتفرقة الاجاتماعية. وكانوا أقل في نسب التعاطف والإيثار. أي أن الأشخاص الأكثر توجهاً للعنف وما يرتبط به من صفات أرادوا التطوع لتجربة محاكاة حياة السجن. إذا نحن لدينا القدرة على الاختيار وفقاً لصفاتنا الداخلية وعند التعرض للموقف المناسب أو المؤثر بشكلٍ كافٍ تتغير صفاتنا وتصل إلى بعدٍ نفسي لا يمكن توقعه. ولكن هل كانت تجربة ستانفورد التجربة الوحيدة التي حاكت حياة السجن؟ في الحقيقة لا، ففي عام 2001 تم عمل تجربة مشابهة بالتعاون مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC.
سجن هيئة الإذاعة البريطانية BBC:
لنكن واقعيين لم تكن تجربة الBBC مقياساً لأثر السلطة علي قدر كونها مقياساً لأثر تكوين علاقات اجتماعية بين الأفراد لخدمة نفس الهدف. حيث في تجربة BBC التي تضمنت 15 مشاركاً كان المساجين ممثلين للطبقة قليلة المكانة من حيث الرداء السيئ والطعام القليل. أما الحراس فكانوا على النقيض تماماً. وكان من قواعد التجربة أنه بعد فترة سيتم تقييم المساجين واتخاذ واحد منهم للطبقة الأعلى ليكون من الحراس ففي البداية تصرف المساجين كأفراد مستقلين لخدمة المصلحة الذاتية، ولكن المفاجأة أنه بعد فترة من الزمن اتحد المساجين مع بعضهم واستطاعوا السيطرة علي السجن من الحرس. فلو نظرنا لتلك التجربة وتجربة ستانفورد سنجد أن التماسك الاجتماعي الذي حدث بين الحراس في تجربة ستانفورد جعلهم أكثر قوة وحتي مع وجود حراس لم يتبعوا العنف إلا أن المحصلة النهائية كانت مأساة في حق المساجين. وأيضاً في تجربة BBC لعب التماسك الاجتماعي دوراً مع المساجين الذين استغلوه أفضل استغلال وتحرروا من قيودهم. فنستنتج من خلال ما سبق أن تصرفات الشخص محددة بصفاته الشخصية واختياراته لبعض المواقف بعينها وتفاعله مع الموقف وكذلك تفاعله مع الآخرين.
إذا هل تحول السلطة البشر إلى وحوش ؟
حسناً، السلطة ليست بالأمر السيئ ولا بالجيد. السطلة ما هي إلا عدسة مكبرة. تستطيع السلطة أن تجعل صفات الإنسان أكثر قوة ووضوح، فالشخص صاحب السلطة هو بالضرورة أكثر ثقة بنفسه من ذي قبل وأكثر حساسية للعالم حوله، أكثر تركيزاً، ومن الممكن أن يكون أكثر إبداعاً. هل يعقل أن تكون تلك صفات سيئة؟ بالطبع لا، ولكن إذا كان الشخص صاحب اضطراب نفسي مسبق فستصب كل تلك الصفات لصالح الاضطراب ويكون أكثر عنفاً وقسوة. فلو نظرنا للنرجسية مثلا، يمتاز الشخص النرجسي بثقة قوية جداً في نفسه وخوف شديد على احترام ذاته وصورته فلو شعر بأي خطر ولو ضئيل على صورته الذاتية يكون رد فعله قاسٍ جداً حتى وإن لم يكن هناك إساءة حقيقية فهو يعيش في عالم من الأوهام عن صورته الذاتية الخالية من العيوب. تخيل معي أن تعطي لذلك الشخص السلطة بالطبع سيكون أسوأ، أكثر عنفاً، وقسوة. ولم تكن تجربة ستانفورد معاكسه لذلك الكلام فما حدث كان تكبيراً لصفات موجودة بالأساس، جعلت أصحابها يتطوعون لمثل تلك التجربة، وحين تكونت أواصر اجتماعية قوية ذاعت الوحشية حتى وإن لم يتصرف جميهم بوحشية فنحن بطبيعتنا نركز على الأكثر إحداثاً للجلبة والفوضي.
إذا حتى لا تتسبب السلطة في خلق وحوش يجب أن يأخذها أشخاص بالفعل طبيعيين ويتم مراقبة تصرفاتهم ومنع تكون أي تجمع من أصحاب السطلة مشتركين في الصفات السيئة القابلة للوحشية. فهل تحول السلطة البشر إلى وحوش ؟ ليس دائما، فهي تضخم من صفاتهم السابقة فالسلطة ما هي إلا عدسة مكبرة.
أي رجل قادر على تحمل الصعاب، فإن أردت اختبار الشخص حقيقةً فقط أعطه السلطة.
ابراهام لنكون
مصادر هل تحول السلطة البشر إلى وحوش ؟:
Revisiting the Stanford Prison Experiment: Could Participant Self-Selection Have Led to the Cruelty?
Does Power Corrupt Everyone Equally?
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :