عندما نسمع عبارة “مهد الإنسانية” (cradle of humanity)، النقطة في العالم التي انبثقت منها الحياة البشرية، هناك مكان واحد يتبادر إلى ذهننا عادة وهي قارة أفريقيا. ولسبب وجيه، مجموعة القرود التي ستصبح في النهاية بشرًا انفصلت لأول مرة عن الشمبانزي، أقرب أقربائنا في شجرة التطور، وكما قد تتخيل فأبناء عمومتنا المشعرين لا يزالون يعيشون هناك في قارة أفريقيا. لكن قصة التطور البشري لا تنتهي عند هذا الحد بالتأكيد، وربما من المدهش أنها لا تبدأ عند هذا الحد أيضًا. ومع استمرار ظهور المزيد والمزيد من الأبحاث والتحليلات حول أصولنا القديمة، يجب طرح السؤال: هل أخطأنا في فهم “مهد البشرية” وهل البحث عن مهد الإنسانية هدف سليم علميًا؟
محتويات المقال :
الجذور القديمة للإنسان
إن قصة التطور البشري عبارة عن نسيج معقد من خيوط الاكتشاف والبحث التي تمتد لملايين السنين. لكي نفهم من أين أتينا، يجب علينا أن نتعمق في الزمن، ونتتبع الجذور القديمة للإنسانية حتى بداية جنسنا البشري.
يكتنف الغموض الفصول الأولى من تاريخنا، حيث تقدم السجلات الحفرية والتحليل الجيني لمحات محيرة عن عالم مفقود منذ زمن طويل. إنه عالم حيث كان أسلافنا يسيرون على قدمين، ويشقون طريقًا بعيدًا عن أبناء عمومتهم من الرئيسيات. كان هذا الانفصال التدريجي، الذي حدث منذ حوالي 6-7 ملايين سنة، بمثابة بداية رحلتنا الرائعة كبشر.
وبالتقدم سريعًا إلى الحاضر، نجد أنفسنا نطرح أسئلة جوهرية حول أصولنا. أين ظهر أسلافنا الأوائل لأول مرة؟ فهل كان ذلك في أفريقيا، أو ربما في أوروبا، كما تقترح بعض الأبحاث الرائدة؟
بداية أوروبية
عندما نفكر في “مهد الإنسانية”، فإن أفريقيا غالبًا ما تكون أول مكان يتبادر إلى أذهاننا. وهذا صحيح، إنه المكان الذي لا يزال أبناء عمومتنا الشمبانزي يتجولون فيه. ولكن ماذا لو كنا قد فهمنا كل شيء بشكل خاطئ؟ ماذا لو لم تظهر القردة الأصلية من أفريقيا، بل من مكان يبدو غير مرجح بالنسبة للرئيسيات، أوروبا؟
قد يبدو الأمر بعيد المنال، لكن هذا بالضبط ما يقترحه بعض العلماء. وفقًا لديفيد بيجن، الأستاذ في جامعة تورنتو، فالبشراناويات (قبيلة من أسرة البشراناوات تحوي على جنسين فقط هما البشر والشمبانزيات وأسلافها المنقرضة) (hominines) لم تتطور في أوروبا الغربية والوسطى فحسب، بل أمضوا أكثر من خمسة ملايين سنة في التطور هناك. إنها فترة طويلة قضاها أسلافنا القردة القدماء في أوروبا قبل أن ينتشروا في نهاية المطاف إلى أفريقيا.
وتدعم البقايا المتحجرة من نفس الفترة التي عثر عليها في اليونان والبلقان هذه النظرية، مما يشير إلى أن أسلافنا أسلافنا من القردة العليا جاءوا من أوروبا، وليس أفريقيا. في الواقع، يشرح بيغن أنه على الرغم من وفرة بقايا البشراناويات في أوروبا والأناضول، إلا أنها غائبة تمامًا عن أفريقيا حتى ظهر أول بشراناوية هناك قبل حوالي سبعة ملايين سنة.
الهجرات المنسية خارج أفريقيا
عندما نفكر في الهجرة البشرية، فإننا غالبًا ما نفترض أنها رحلة مباشرة من أفريقيا إلى بقية العالم. ومع ذلك، فإن الواقع أكثر تعقيدًا بكثير. تشير الأبحاث الجديدة إلى أن أسلافنا لم يتبعوا مسارًا خطيًا واحدًا. وبدلاً من ذلك، هاجروا خارج أفريقيا عدة مرات، وتفاعلوا مع الأنواع البشرية الأخرى.
أحد أروع الأمثلة على هذه الهجرات المنسية هو إنسان النياندرتال (Neanderthals). غالبًا ما نفكر فيهم كنوع منفصل، لكنهم كانوا في الواقع مجموعة متميزة من البشر تطورت في أوروبا وآسيا. عندما غادر الإنسان العاقل (Homo sapien) أفريقيا منذ حوالي 60 ألف عام، التقى بإنسان نياندرتال، الذي كان يعيش بالفعل في هذه المناطق منذ مئات الآلاف من السنين.
ولكن هذا ليس كل شيء. كشفت الدراسات الجينية أن الإنسان العاقل تزاوج مع إنسان النياندرتال، تاركًا وراءه بصمة وراثية لا يزال بإمكاننا رؤيتها حتى اليوم. في الواقع، يحتفظ العديد من البشر المعاصرين بالحمض النووي للنياندرتال في جينوماتهم، وهو دليل على التفاعلات المعقدة بين هذه المجموعات البشرية القديمة.
الهجرات الأخرى خارج أفريقيا أقل شهرة، ولكنها رائعة بنفس القدر. ويُعتقد أن الإنسان المنتصب (Homo erectus)، وهو سلف بشري عاش قبل حوالي مليوني سنة، كان أول نوع بشري يهاجر خارج أفريقيا. وذهب إلى أوراسيا، حيث أدى إلى ظهور أنواع بشرية أخرى، بما في ذلك إنسان النياندرتال والدينيسوفان.
تتحدى هذه الهجرات المتعددة خارج أفريقيا وجهة نظرنا التقليدية للتطور البشري باعتبارها قصة واضحة ومباشرة ذات أصل واحد. وبدلاً من ذلك، يبدو أن أسلافنا كانوا في حالة تنقل مستمر، يتفاعلون مع الأنواع البشرية الأخرى ويتبادلون الجينات على طول الطريق.
السكان القدماء والإرث الجيني
تشير الأبحاث الجديدة إلى أن الحقيقة أكثر تعقيدًا بكثير. فبدلاً من “مهد الإنسانية” الواحد، أصبح الإرث الجيني لأسلافنا عبارة عن نسيج من القصص المتشابكة، المنسوجة من مجموعات سكانية قديمة متعددة منتشرة في جميع أنحاء أفريقيا.
تشير الأدلة إلى أن أسلافنا لم يتطوروا في مجموعة سكانية واحدة، بل في مجموعات متعددة التقت أحيانًا واختلطت وساهمت في ظهور الإنسان الحديث في نهاية المطاف.
هذه الصورة المعقدة مدعومة بسلسلة من الدراسات الحديثة التي قامت بتحليل الحمض النووي لكل من الأشخاص المعاصرين والقدامى، بالإضافة إلى الأدلة الأثرية والبيئية. ترسم النتائج صورة رائعة للسكان القدماء الذين كانوا منتشرين في جميع أنحاء أفريقيا، ويعيشون في بيئات مختلفة، ويتكيفون مع الظروف المتغيرة.
لم تكن هذه المجموعات القديمة معزولة عن بعضها البعض، بل شكلت شبكة من المجموعات المترابطة التي تتقاطع أحيانًا وتتزاوج وتتبادل الجينات. ولا يزال هذا الإرث الجيني مرئيًا في حمضنا النووي حتى اليوم، وهو دليل على الطبيعة المعقدة والديناميكية للتطور البشري.
قصة أصل معقدة
وبينما نتعمق في ألغاز التطور البشري، يصبح من الواضح أن مفهوم “مهد الإنسانية” الوحيد هو مفهوم خاطيء. إن أصول جنسنا البشري منسوجة من نسيج معقد من الهجرات والتحولات والتبادلات بين مختلف المجموعات السكانية القديمة التي امتدت لزمان ومكان واسعين.
في هذه الرواية المعقدة، تفسح النظرة التقليدية لأفريقيا باعتبارها المهد الوحيد للإنسانية المجال لفهم أكثر دقة. ونحن نعلم الآن أن أشباه البشر الأوائل تطوروا في أوروبا، وهاجروا إلى أفريقيا، ثم انتشروا بعد ذلك إلى آسيا. إنها قصة ذات أصول متعددة، حيث ساهمت مجموعات سكانية مختلفة في صعود الإنسان العاقل في نهاية المطاف.
هذا التيار من التطور البشري له آثار مهمة على كيفية إدراكنا لأنفسنا ومكانتنا في العالم. ومن خلال الاعتراف بتعقيد أصولنا، يمكننا أن نقدر بشكل أفضل التنوع والقدرة على التكيف اللذين مكّنا جنسنا البشري من الازدهار في بيئات متنوعة.
المصدر
Where Is The “Cradle Of Humankind”? Turns Out, That May Be The Wrong Question | iflscience
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :