نظرية الشعر عند أفلاطون

نظرية الشعر عند أفلاطون

إننا نفهم الشعر الآن على أنه جنس أدبي وقد نذهب أبعد ونعده طريقة للتفلسف، بيد أن الشعر في الأفق الإغريقي كان أكثر من ذلك بكثير. كان الشعر يمثل الحلقة التي تربط الإنسان بالإله، العالم بالسماء ذلك لأن الشعر لم يكن نوعًا من الخطاب العقلاني بل فُهم على أساس أنه وحي من الله. فهزيود مثلًا كان مصدرًا رئيسًا لمعرفة الإغريق بآلهتهم والقصص التي رواها هومر وجدت طريقها في تقليد الإغريق الديني.  حتى عند أفلاطون ورغم علاقته المتوترة مع المسألة الشعرية نجده يصف الشعر في سياق الوحي والكلام الإلهي. في هذا المقال سوف نبين نظرية الشعر عند أفلاطون من خلال أعماله ومحاوراته المختلفة.

ماهية الشعر:

 المسألة الشعرية في نسق أفلاطون الفلسفي تفتقر إلى التماسك ظاهريًا، فهي تختلف من محاورة لأخرى. نجده أحيانًا يأخذ على الشعر طابعه البياني وفي حين آخر يركز عليه بوصفه قصصًا مروية شعرًا، وفي حين آخر يعتبره وحيًا إلهيًا. فهم أفلاطون الشعر وعرفه على أنه محاكاة  لكنه اخذ مواقف مختلفة منه.

الشعر والحقيقة:

البحث عن الحقيقة هو الهدف الأفلاطوني الأسمى، فكثيرًا ما يؤكد على ذلك على لسان سقراط، يقول سقراط لآيون: “أما أنا فواحد من سواد الناس يتكلم الحقيقة وحسب”(1). ويقول لجلوكون: “من الواجب ألا تحترم إنسانًا أكثر مما تحترم الحقيقة“(2). فالشاعر، وفقًا له، لا يقول الحقيقة. العالم الحق عند أفلاطون هو عالم الكينونة الذي لا يتغير، ووحده الفيلسوف قادر على إدراك ذلك العالم، والعالم الظاهر والذي يماثل أمام حواسنا هو عالم الصيرورة والفناء، فالفني، النجار على سبيل المثال، حين يصنع سريرًا فصنعته تأتي في المرتبة الثانية لكونها جزء من العالم المحسوس، أمام الفنان، الرسام مثلًا، حينما يرسم سريرًا فصنعته تأتي في المرتبة الثالثة بالمقارنة مع السرير الحق الموجود في عالم المثل. فالشاعر أيضًا يحتل المرتبة الثالثة بالنسبة للطبيعة الحقة فهو مقلد (3).

 وفي حواره مع جورجياس حول البيان (Rhetoric) يبين أفلاطون على أن البيان لا يهدف إلى الحقيقة إنما إلى الإقناع. والشعر أيضأ نوع من البيان، فيقول: “الشعر يكون نوعًا من البيان موجه إلى الشعب…في الواقع أن الشاعر يقوم على المسرح بمهنة الخطيب“(4).

الشعراء والعقل:

طالما أن الفيلسوف وحده يحتك بالحقيقة من خلال العقل فأن الأداة الشعرية لا يمكن أن تكون هي العقل. حسب زعم أفلاطون أن الله هو من سلب العقل من الشعراء لذلك فأن الشاعر لا يميل بطبيعته إلى المبدأ العاقل في النفس إنما يكون أميل إلى المنفعل المتقلب التي يسهل محاكاته(5). لذا فأن الشعر يركز على ذلك الجزء الذي يتعطش إلى الدموع ويهفو إلى التنهيد ويصبو إلى الذنب(6).

نفس الشاعر:

يقول أفلاطون في الجمهوية إن هناك بين الشعر والفلسفة معركة قديمة العهد، سبب ذلك يعود إلى نفس الشعر. وفقًا لكل أفلاطون لكل شخص نفس تحدد ماهيته. فالنفس ذات الرؤية الشاملة فتستقر في رجل قد تهيأ ليكون فيلسوفًا(7). للنفس درجات ويرتبها أفلاطون على النحو التالي:

الدرجة الأولى: فيلسوف.

الثانية: ملك يحكم بالقانون أو محارب ماهر

الثالثة: سياسي أو رجل أعمال.

الرابعة: رجل محب للتمارين الرياضية.

الخامسة: الرجل العارف والقيادي

السادسة: الشاعر والفنان.

السابعة: صانع أو مزارع

الثامنة: محترفو السفسطة.

التاسعة: طاغية

الإلهام الشعري أو المس الإلهي:

يرى أفلاطون أن الشعراء يؤلفون قصائدهم الجميلة لا بواسطة الفن بل لأنهم ملهمون وممسوسون(8). ومن يطرق أبواب الشعر دون أن يكون قد مسه الهوس الصادر عن ربات الشعر ظنًا منه أن مهاراته الإنسانية كافية لأن تجعل منه في آخر الأمر شاعرًا فلا شك أن مصيره هو الفشل(9).

ويفرق أفلاطون بين الهوس الذي يرجع إلى الأمراض الإنسانية [النفسية والعقلية] والهوس الراجع إلى حالة إلهية تخرجنا عن القواعد المعتادة. الهوس الإلهي ينقسم إلى أربع أقسام:

هوس النبوءة مصدره أبولون.

هوس الكشف الصوفي مصدره ديونيزوس.

الإلهام الشعري مصدره ربات الشعر.

هوس الحب مصدره أفروديت (10).

الشعر والله:

كثير من الشعراء والفلاسفة تعاملوا مع المسألة الشعرية في أبعادها الدينية، يقول نوفاليس إن الشعر هو دين عملي. كما أن ابن العربي في خطبة ديوان المعارف الإلهية يقول بأن الله جعل الوجود كبيت الشعر في التركيب والنظم. فأفلاطون أيضًا يقول بأن الشعراء ينطقون بلسان الوحي الإلهي(11).  وفي محاورة آيون يقول بأن الله قد سلب الشعراء عقولهم واتخذهم وكلاء له وإن الله نفسه هو المتكلم وإنه يخاطبنا من خلال الشعراء. ويستمر قائلًا بأن قصائدهم الجميلة ليست بشرية أو من صنع الإنسان بل إلهية ومن صنع الله(8).

اقرأ أيضًا نظرية المعرفة أو الأبستمولوجيا: أنواع المعرفة ومكوناتها وتحليلاتها

أفلاطون وطرد الشعراء:

إذا كان يعتبر أفلاطون الشعر إلهامًا إلهيًا فما الذي يجعله ألا يترحب بوجود الشعراء في جمهوريته الفاضلة؟ يقول في الجمهوية إنه إذا ظهر في دولتنا رجل بارع في محاكاة كل شيء وأراد أن يقدم عرضًا لأشعاره على الناس فسوف ننحي له تبجيلًا كأنه كائن مقدس ومن ثم سنرحله إلى دولة أخرى(12). لنفهم هذا الإشكال علينا أن نعيد السياق الذي طرد فيه أفلاطون الشعراء من الدولة. يقول سقراط لأديامانتوس: “إننا لسنا الآن شعراء يا أديامانتوس، إنما نحن ننشئ دولة، ومهمة منشئ الدولة هي أن يصوغ القوالب العامة التي يجب أن يصب فيها الشعراء أقاصيصهم ونضع لهم الحدود التي ينبغي أن يلتزموا بها” (13). هذا القرار الإفلاطوني يأتي في سياق بناء دولة وخاصة جزئية تعليم الحراس وتطويرهم، ولهذا القرار ثلاث مبررات:

المبرر البيداغوغي:

الفلسفة الكلاسيكية جعلت التربية من مهماتها الأصيلة، على ذلك نجد بأن الفلاسفة كانوا يلعبون دور المربي في الكثير من الأحيان. ولأن الشعراء كانوا يقصون قصصًا كاذبة ويؤثرون بذلك على بناء الفرد الأخلاقي والمعرفي كما يقول أفلاطون فأنه حذر من تأثيرهم السلبي. يقول على ذلك: “لأن الطفل لا يستطيع أن يميز الأسطوري من الواقعي فلا شك أن كل ما يتلقاه ذهنه في هذه السن ينطبع فيه بعمق(14). ويزعم أيضًا بأن الشعر يؤذي الأذهان(15). وكذلك أن عيب الشعر الأكبر هو قدرته على إيقاع الأذى بالأخيار ذاتهم(16).

ولأن تصور هوميروس بأن الآلهة تحارب بعضها وتثير المشاكل فيما بينها دعى أفلاطون إلى حظر هذا النوع من الشعر لأنه يدفع بالناس إلى الجريمة. كما ادرك أفلاطون أن الشعراء كما لا يتأثرون بالعقل فهم لا يؤثرون فيه لذلك فأن الشعر لا يمكن أن يحقق الهدف الأسمى، السعادة. يقول عن ذلك بأن الشعر يغذي الانفعال بدلًا من أمن يضعفه ويجعل له الغلبة مع أن الواجب هو قهره [الجانب المنفعل] إن شاء الناس أن يزدادوا سعادة وفضيلة.

Related Post

المبرر اللاهوتي:

المصدر الأهم للحياة الروحية الإغريقية ومعرفتهم بآلهتهم كان قصائد هومر وهزيود وأسخيليوس. تمرد أفلاطون على ذلك جاء من الطريقة التي تناولوا بها الشعراء المسائل الإلهية. على ذلك يضع أفلاطون أمام الشعراء قانونين يجب الإلتزام بهما:

القانون الأول: الله هو مصدر الخير وحده. جاء هذا القانون ردًا على هومر الذي يقول:

على باب زيوس يوجد وعاءان ممتلئان، أحدهما للمصائر السعيدة والآخر للمصائر التعسة

فيرد أفلاطون بقوله: “أما القول بأن الإله الخير هو علة أي شر يلحق بأي فرد فذلك ما ينبغي أن نحاربه بكل قوانا(17).

القانون الثاني: الله ثابت لا يتغير. جاء ذلك بعد أن قال أسخيليوس:

”إن الآلهة يجوسون خلال المدن متنكرين في صورة غرباء من بلاد أخرى ومتخذين كل صورة ممكنة

لذلك يقول أفلاطون بأنه لا مكان للأكاذيب الشعرية عند الله(18).

المبرر البراغماتي:

عند الحديث عن أهمية الأدب بصورة عامة نكون في موقف ضعيف عندما يُقصد بالأهمية النتائج المترتبة عن العمل الأدبي وتقيمها نفعيًا. فهل الأدب يشفي بالمعنى الطبي؟ هل هناك حاجة للأدب في الميدان العلمي والمعرفي؟ يطرح أفلاطون سؤالًا على جلوكون حول هومر وأهمية شعره إذ يقول: “هل سمع أحد عن حرب حدثت في وقته [هومر] ونجح هو في قيادتها بنفسه أو بنصائحه أو هل نسب إليه اختراع بارع في الفنون أو خبرة علمية (19). فأفلاطون هنا يفكر بوصفه منشئ دولة وحسب كما اقر هو نفسه، لطالما أن الشعر لا يمكن أن يلعب دورًا عمليًا في الدولة. هذه الحجة الأفلاطونية ضد الشعر ما زالت قائمة بل يتم استخدامها في مواجهة الفلسفة أيضًا ذلك لأنها لا تلعب أي دور علمي حاليًا في العالم.

المصادر:

1 –  عادل مصطفى، فهم الفهم (محاورة آيون)، مؤسسة هنداوي، ص283.

2- أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء 2004، ص504.

3 – نفس المصدر، ص507.

4 – أفلاطون، محاورة جورجياس، ترجمة محمد حسن ظاظا، الهيئة المصرية 1970، ص118.

5- الجمهورية، ص517.

6- الجمهورية، ص518.

7- أفلاطون، محاورة فايدروس، ترجمة اميرة حلمي مطر، دار غريب 2000، ص66.

8- محاورة آيون، ص285.

9- فايدورس، ص60.

10- فايدورس، ص93.

11- الجمهورية، ص222.

12- الجمهورية، ص262.

13- الجمهورية، ص239.

14- الجمهورية، ص238.

15- الجمهورية،ص 504.

16- الجمهورية، ص517.

17- الجمهورية، ص240.

18- الجمهورية، ص244.

19- الجمهورية، ص510.

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
Author: Jaffer Juqi - جعفر جوقي

تجرف الصيرورة كل كينونة وهي على قيد التكوين؛ الهوية غير ممكنة, ولتفادي ملل جريان الحياة البائس أجد في القراءة والترجمة, الشعر على وجه التحديد, بعض الطمأنينة

Jaffer Juqi - جعفر جوقي

تجرف الصيرورة كل كينونة وهي على قيد التكوين؛ الهوية غير ممكنة, ولتفادي ملل جريان الحياة البائس أجد في القراءة والترجمة, الشعر على وجه التحديد, بعض الطمأنينة

Share
Published by
Jaffer Juqi - جعفر جوقي

Recent Posts

ابتكار واقي شمس بتقنية جديدة لتبريد الجلد

عندما يتعلق الأمر بحماية بشرتنا من التأثيرات القاسية لأشعة الشمس، فإن استخدام واقي الشمس أمر…

يوم واحد ago

العثور على مومياوات مصرية قديمة بألسنة وأظافر ذهبية

اكتشف فريق من علماء الآثار 13 مومياء قديمة. وتتميز هذه المومياوات بألسنة وأظافر ذهبية،وتم العثور…

يوم واحد ago

بناء منازل على المريخ باستخدام الدم البشري

ركز العلماء على الخرسانة الرومانية القديمة كمصدر غير متوقع للإلهام في سعيهم لإنشاء منازل صالحة…

يوم واحد ago

خلايا المخ تتطور بشكل أسرع في الفضاء وتظل بحالة جيدة!

من المعروف أن الجاذبية الصغرى تغير العضلات والعظام وجهاز المناعة والإدراك، ولكن لا يُعرف سوى…

يومين ago

ما هو الويب 3.0 وكيف سيحمي بيانات المستخدمين وخصوصيتهم؟

الويب 3.0، الذي يشار إليه غالبًا باسم "الويب اللامركزي"، هو الإصدار التالي للإنترنت. وهو يقوم…

يومين ago

كيف يمكن مشاهدة انفجار المستعر الأعظم قبل حدوثه؟

لطالما فتنت المستعرات العظمى علماء الفلك بانفجاراتها القوية التي تضيء الكون. ولكن ما الذي يسبب…

يومين ago