عادة ما ننظر إلى الحزازيات (Mosses) – تلك النباتات الخضراء المتواضعة التي تغطي الصخور وجذوع الأشجار – على أنها مجرد جزء من المشهد الطبيعي، أو ربما مؤشر على الرطوبة. قلة منا أدرك أن هذه الكائنات القديمة، التي تُعد من أوائل الكائنات التي وطأت اليابسة، تحمل في طياتها إمكانات ثورية قد تُغير وجه صناعات حيوية متعددة، من الأدوية والعلاجات إلى مستحضرات التجميل وحتى المواد الصناعية المتطورة. لقد غيرت الحزازيات مناخ الأرض، وساهمت في إثراء الغلاف الجوي بالأكسجين، وهي اليوم تُستخدم لتنقية هواء المدن الملوثة. فكيف يمكن لهذه النباتات الصغيرة أن تُصبح مصانع حيوية عملاقة لإنتاج البروتينات والمواد القيمة، ولماذا يفضلها علماء التكنولوجيا الحيوية على الأنظمة التقليدية؟ هذا ما سنكشفه في هذا التقرير الشامل.
محتويات المقال :
لطالما بحث العلماء عن أنظمة إنتاج فعالة وآمنة للمركبات البيولوجية المعقدة، وخاصة البروتينات البشرية ذات الاستخدامات العلاجية. في هذا السياق، يبرز اسم رالف ريسكي (Ralf Reski)، عالم التكنولوجيا الحيوية النباتية في جامعة فرايبورغ الألمانية، والذي رأى في الحزازيات كنزًا غير مستغل. على الرغم من التحفظات الأولية من زملائه الذين اعتقدوا أن الحزازيات لا علاقة لها بالتكنولوجيا الحيوية، إلا أن إصرار ريسكي قاده إلى اكتشافات غيرت مسار هذا المجال.
تتميز الحزازيات، وعلى وجه التحديد نوع فيسكوميتريوم باتينس (Physcomitrium patens) – الذي كان يُعرف سابقًا باسم Physcomitrella patens – بخصائص فريدة تجعلها بيئة مثالية لإنتاج المركبات البيولوجية القيمة. فبعيدًا عن الأنظمة التقليدية مثل البكتيريا أو الخميرة أو الخلايا الحيوانية، تقدم الحزازيات مزايا متعددة:
في أواخر التسعينيات، وبعد حصوله على الدكتوراه، أقنع ريسكي شركة الكيماويات الألمانية BASF بالاستثمار في أبحاثه المتعلقة بالتكنولوجيا الحيوية للحزازيات. كان أحد مشاريعه الأولى هو تحديد الجينات المسؤولة عن إنتاج الأحماض الدهنية المتعددة غير المشبعة (Polyunsaturated Fatty Acids – PUFAs)، مثل أوميغا 3 وأوميغا 6، المعروفة بفوائدها الصحية للإنسان (Ref. 4). كان الهدف هو نقل هذه الجينات من الحزازيات إلى “النباتات الحقيقية” (Crop plants)، مثل بذور اللفت (Canola) أو بذور الزيوت الأخرى، لإنتاج زيوت أكثر صحة.
لم يقتصر طموح ريسكي على تحسين زيوت المحاصيل، بل سعى أيضًا لاستخدام الحزازيات كمصانع لإنتاج المركبات العلاجية. ومع هذا الهدف، أسس شركته الخاصة “جرينوفيشن” (Greenovation)، والتي تُعرف الآن باسم “إيليفا بيولوجيكس” (Eleva Biologics).
بفضل قدرتها على الارتباط بالجليكوزيل بشكل مناسب، نجحت الحزازيات في إنتاج نسخة معاد تركيبها من بروتين ألفا جالاكتوسيداز البشري (human alpha galactosidase protein – aGal). يُستخدم هذا البروتين كعلاج بديل للإنزيم في علاج داء فابري (Fabry disease)، وهو مرض وراثي نادر. دخل هذا الدواء، الذي يُعد أول دواء يتم إنتاجه بواسطة الحزازيات، التجارب السريرية في عام 2015. وقد أظهر ميزة تنافسية طفيفة على نظيره المنتج من خطوط الخلايا البشرية عند اختباره على الفئران؛ فمن خلال تفاعله مع مستقبل مختلف، كان أفضل في استهداف الكلى والقلب.
بعد نجاح إنتاج aGal، تساءل ريسكي وفريقه ما إذا كانت الحزازيات قادرة على إنتاج بروتينات أكبر وأكثر تعقيدًا في عملية الارتباط بالجليكوزيل. “ما هو أعقد بروتين بشري موجود في السوق؟” كان هذا هو السؤال الذي دفعهم إلى تحدي جديد: إنتاج العامل H (Factor H). هذا البروتين، الموجود في الدم، ينظم الاستجابات المناعية ويلعب دورًا في مجموعة من الأمراض.
المدهش أن هذا المشروع الجريء أثبت نجاحًا باهرًا فاق توقعات الفريق. لم يدركوا إلا عند كتابة أول مخطوطة لهم حول إنتاج البروتين في الحزازيات، أن أي فريق آخر لم ينجح في إنتاج عامل H معاد التركيب وتسويقه. أوضح ريسكي أن “الناس حاولوا إنتاجه في الخميرة، لكن كانت هناك مشكلات في الارتباط بالجليكوزيل، ولا يمكن إنتاجه بواسطة خلايا المبيض الهامستر الصيني (Chinese hamster ovary – CHO cells) في الوقت الحالي، لأنه معقد للغاية.”
حاليًا، يُجري ريسكي وزملاؤه في Eleva وجامعة فرايبورغ أبحاثًا حول استخدام العامل H المنتج من الحزازيات في علاج التنكس البقعي المرتبط بالعمر (Age-related macular degeneration) واضطرابات المكمل (Complement disorders)، مثل أمراض الكلى.
لم تكن الأمثلة المذكورة هي المرات الوحيدة التي تفوقت فيها الحزازيات على أنظمة الزراعة الأخرى. فقد أبلغ مختبر ريسكي مؤخرًا عن نجاحه في إنتاج مكون رئيسي من حرير السحب (Dragline silk) الخاص بعنكبوت الأرملة السوداء الغربي. تُقدر هذه الألياف بقوتها ومرونتها الاستثنائية. يوضح ريسكي أن بروتين الحرير العنكبوتي المصنوع من الحزازيات “أكثر تعقيدًا من أنواع الحرير العنكبوتي الأخرى المصنوعة من النباتات في الوقت الحالي، لذا نحن نقوم الآن بتقييم ما إذا كان يمكننا استخدامه في الطب الحيوي أيضًا.”
نظراً لأن بروتينات الحرير العنكبوتي لا تثير استجابات مناعية في البشر، فإنها تُعد مواد جذابة لمجموعة واسعة من تطبيقات الطب الحيوي. يأمل ريسكي في استخدام بروتينات الحرير التي ينتجها من الحزازيات في لصقات توصيل الأدوية بالإبر الدقيقة (Microneedle drug delivery patches).
بعيدًا عن المجال الطبي، تُستخدم مصانع الحزازيات التابعة لريسكي أيضًا في إنتاج مركبات نشطة بيولوجيًا لمستحضرات العناية بالبشرة ومستحضرات التجميل. يقول ريسكي: “في الحزازيات، توجد العديد من المواد التي تنشط الجينات وتجديد الخلايا.”
تتجاوز فضائل الحزازيات بكثير مجالات العناية بالبشرة والطب. فالحزازيات الخثية (Peat mosses)، على سبيل المثال، تنظم دورة الكربون على الأرض. تُهدد هذه الحزازيات بشكل متزايد بسبب استنزاف الأراضي، وإزالة الغابات، واستخراج الخث، وارتفاع درجات الحرارة، وتحتاج المناطق المستنقعية الخثية إلى كل المساعدة الممكنة. “تخزن جميع الأراضي الخثية معًا كمية من الكربون أكبر من جميع المواد الحية مجتمعة، وهذا أمر لا يُقدر حق قدره”، كما يقول ريسكي. يعمل ريسكي وفريقه حاليًا على زراعة مستنسخات من الحزازيات الخثية عالية الأداء يمكن استخدامها لاستكمال المستنقعات الخثية الموجودة والتي تتعرض للتهديد.
كما استكشف مختبر ريسكي آثار تغير المناخ على تاكاكيا (Takakia)، وهو نوع من الحزازيات يُعد أحفورة حية (Living fossil) يبلغ عمره 400 مليون سنة. ووفقًا لريسكي، فإن قصة تاكاكيا تُعد تحذيرًا بشأن مستقبلنا. “لقد رأى الديناصورات تأتي وتذهب”، يقول ريسكي. “لقد رآنا نأتي، وإذا لم نكن حذرين، فسوف يرانا نذهب.”
لقد أظهرت الأبحاث الرائدة التي قام بها رالف ريسكي وفريقه أن الحزازيات ليست مجرد نباتات بسيطة، بل هي كائنات حيوية متعددة الاستخدامات وقادرة على إحداث ثورة في العديد من المجالات. من إنتاج الزيوت الصحية والبروتينات العلاجية المعقدة، مثل ألفا جالاكتوسيداز والعامل H، إلى تصنيع الحرير العنكبوتي المتين للاستخدامات الطبية، وحتى إنتاج المركبات النشطة لمستحضرات التجميل، تثبت الحزازيات أنها مصانع حيوية فعالة واقتصادية. علاوة على ذلك، تلعب هذه النباتات القديمة دورًا حيويًا في الحفاظ على بيئة الكوكب، وتخزين الكربون، وتُعد مؤشرًا حيًا على التغيرات المناخية. إن قدرة الحزازيات على النمو بسهولة، وخلوها من مسببات الأمراض، ومرونتها الجينية، تجعلها بديلاً جذابًا ومستدامًا لأنظمة الإنتاج التقليدية.
في عصر تتزايد فيه الحاجة إلى حلول مستدامة وآمنة للإنتاج الحيوي، تبرز الحزازيات كخيار واعد لمستقبل أكثر صحة واستدامة. إن ما بدأ كفكرة جريئة لعالم واحد تحدى التيار، قد أصبح اليوم مجالًا بحثيًا مزدهرًا يُبشر بابتكارات غير مسبوقة. بينما يواصل العلماء استكشاف الإمكانات الكاملة لهذه النباتات الخضراء المتواضعة، فإن الرسالة واضحة: قد تكون ثورة التكنولوجيا الحيوية القادمة تنبع من أصغر الكائنات وأكثرها قدمًا على وجه الأرض. الحزازيات لم تعد مجرد “نباتات لا علاقة لها بالتكنولوجيا الحيوية”، بل هي نجوم ساطعة في سماء الابتكار العلمي، تحمل في طياتها مفاتيح حلول لكثير من التحديات الصحية والبيئية التي يواجهها عالمنا اليوم. إنها بحق “ثورة خضراء” تُعيد تعريف حدود ما يمكن تحقيقه في عالم التكنولوجيا الحيوية.
كان نظام زراعة الطحالب الذي ابتكره رالف ريسكي هو الأول الذي نجح في إنتاج عامل بشري معاد التركيب للتطبيقات العلاجية.
عمر ياغي ونوبل الكيمياء.. من تحديات شُحّ المياه إلى ثورة الأطر المعدنية العضوية (MOFs) الحلم…
ضوء كمومي مضغوط فائق السرعة: اختراق علمي يفتح آفاقاً جديدة للاتصالات المشفرة بسرعات "البيتاهرتز" على…
مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2025 (Nobel Prize in Physics 2025) لثلاثة من أبرز…
تُعد مملكة دلمون واحدة من أقدم الممالك الحضارية في تاريخ الشرق الأدنى القديم، والتي ازدهرت…
الفرامل الخفية لـ "جيش المناعة": اكتشاف الخلايا التائية التنظيمية يفتح آفاق علاج أمراض المناعة الذاتية…
السواقي المنسية: مصر تُحيي تراث الألفي عام لتوليد الكهرباء النظيفة.. طاقة المستقبل بين جنبات الماضي…