أكاديمية البحث العلمي

من عالم الخيال إلى الواقع: أصغر محرك نانوي في التاريخ يفتح آفاقاً جديدة للطب والميكانيكا الدقيقة

كان حلم تصنيع آلات دقيقة بحجم الذرات والجزيئات مجرد خيال علمي، لكن اليوم، بفضل التقدم الهائل في علوم المواد والفيزياء، أصبح هذا الحلم حقيقة، حيث قام فريق من الباحثين في جامعة غوتنبرغ السويدية باختراق علمي غير مسبوق، تمكنوا من خلاله من ابتكار أصغر محرك في التاريخ على رقاقة (Engine on a chip)، وهو إنجاز يمثل قفزة نوعية في مجال الميكانيكا النانوية ويفتح الأبواب أمام تطبيقات ثورية، لا سيما في المجال الطبي. هذا المحرك المبتكر لا يعتمد على التروس الميكانيكية التقليدية، بل على نظام ضوئي فريد من نوعه، مما يجعله أصغر من شعرة الإنسان بعشرات المرات، بحسب ما نشر في مجلة “نيتشر كومينيكشن” (Nature Communications).

أصغر من التخيل.. حجم يفوق الوصف

يتميز المحرك الجديد بحجمه المتناهي الصغر، حيث يصل حجم مكوناته إلى 16-20 ميكرومتراً (Micrometers)، وهو ما يعادل تقريباً حجم خلية بشرية واحدة. هذا الحجم الدقيق لم يكن ممكناً تحقيقه باستخدام التقنيات القديمة، حيث كانت المحركات الدقيقة تتوقف عند حاجز 0.1 ملم بسبب تعقيدات التصنيع والتشغيل.

البروفيسور غان وانغ، الباحث الرئيسي في فيزياء المواد الرخوة بجامعة غوتنبرغ، أوضح أنهم تجاوزوا هذه العقبة باستخدام نظام تروس مبتكر يعمل بالضوء بدلاً من الاعتماد على الوصلات الميكانيكية المعقدة. هذا التحول الجذري في طريقة العمل هو ما مكنهم من تحقيق هذا الإنجاز.

كيف يعمل المحرك النانوي؟ الضوء هو القوة المحركة

على عكس المحركات التقليدية التي تستخدم التروس المسننة لنقل الحركة، يعتمد هذا المحرك على مبدأ مختلف تماماً. الفريق صمم تروساً دقيقة جداً من مادة السيليكون على رقاقة متطورة، وهي مصممة خصيصاً لالتقاط الضوء والتحكم فيه.

التحكم في السرعة: يتم توجيه شعاع ليزر (Laser) على هذه التروس، وتتحكم شدة هذا الشعاع (Intensity of light) في سرعة دوران التروس. فكلما زادت شدة الضوء، زادت سرعة الدوران، والعكس صحيح.

تغيير الاتجاه: الأمر الأكثر إثارة للإعجاب هو أن استقطاب الضوء (Polarization of light) يمكن أن يغير اتجاه حركة المحرك فوراً، سواء للأمام أو للخلف. هذا التحكم الدقيق والمرن يفتح إمكانيات هائلة في التطبيقات المستقبلية التي تتطلب حركة دقيقة وسريعة.

هذا التصميم الفريد من نوعه يلغي الحاجة إلى الوصلات الميكانيكية، مما يقلل من التعقيد والتآكل ويسمح بدمج المحرك في أجهزة بالغة الدقة.

تحديات وعقبات تم تجاوزها

على مدى أكثر من ثلاثة عقود، كانت محاولات تصغير المحركات الدقيقة تواجه تحديات كبيرة. كانت المشكلة الأساسية تكمن في أن التروس (الأجزاء الدوارة) عند تصغيرها إلى مستوى معين تصبح غير فعالة، حيث أن الاحتكاك (Friction) وقوى التلامس تصبح ذات أهمية كبيرة، مما يؤدي إلى عدم قدرتها على العمل بكفاءة.

لكن فريق جامعة غوتنبرغ نجح في تجاوز هذه المشكلة باستخدام الليزر كمصدر للطاقة والحركة. يقول البروفيسور غان وانغ: “باستخدام الضوء بدلاً من الوصلات الميكانيكية، استطعنا تجاوز عقبة كانت تعيق تقدم هذا المجال لعقود طويلة”.

تطبيقات مستقبلية واعدة

Related Post

هذا الابتكار ليس مجرد إنجاز نظري، بل يحمل في طياته إمكانيات تطبيقية هائلة، خاصة في مجال الطب الحيوي (Biomedicine) وتكنولوجيا النانو(Nanotechnology).

ثورة في المجال الطبي

يأمل الباحثون أن يكون هذا المحرك النانوي اللبنة الأولى لتطوير أجهزة طبية دقيقة يمكن أن تحدث ثورة في مجال العلاج. بعض هذه التطبيقات المستقبلية تشمل:

أجهزة ضخ دقيقة: يمكن أن تعمل هذه المكونات النانوية كأجهزة ضخ (Pumps) دقيقة جداً داخل الجسم، لإيصال الأدوية مباشرة إلى الخلايا السرطانية أو المناطق المصابة بدقة متناهية، مما يقلل من الآثار الجانبية للأدوية.

صمامات حيوية: يمكن استخدامها كصمامات دقيقة (Microsurgical valves) للتحكم في تدفق السوائل داخل الأوعية الدموية أو الأعضاء، وهو ما يعد تطوراً هائلاً في مجال الجراحة الدقيقة.

الروبوتات النانوية: هذا المحرك يمهد الطريق لتطوير روبوتات نانوية (Nanobots) يمكنها القيام بمهام معقدة داخل الجسم، مثل تنظيف الأوعية الدموية من الكوليسترول أو إصلاح الأنسجة التالفة.

تطبيقات صناعية وبيئية

إلى جانب الطب، يمكن أن يجد هذا المحرك تطبيقات في مجالات أخرى مثل:

الالكترونيات الدقيقة: يمكن استخدامه في تصنيع أجهزة إلكترونية أصغر وأكثر كفاءة.

المراقبة البيئية: تطوير حساسات (Sensors) نانوية يمكنها الكشف عن الملوثات في الماء أو الهواء بدقة فائقة.

هذا الابتكار من جامعة غوتنبرغ يمثل نقطة تحول حاسمة في مجال الميكانيكا النانوية. باستخدام الضوء بدلاً من التروس الميكانيكية، تمكن الفريق من إنشاء أصغر محرك في التاريخ، متجاوزاً بذلك عقبات تصنيعية وتقنية استمرت لعقود. ورغم أن هذا الإنجاز لا يزال في طور النموذج الأولي، إلا أنه يفتح آفاقاً واسعة لتطبيقات ثورية في الطب والهندسة وعلوم المواد.

إن هذا الاختراع ليس مجرد محرك صغير، بل هو بوابة لمستقبل جديد حيث تصبح الآلات الدقيقة جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، من الروبوتات العلاجية داخل الجسم إلى الأجهزة الإلكترونية التي لا يمكن تخيلها. هذا الإنجاز يذكرنا بأن حدود العلم ليست سوى تحديات تنتظر من يكتشفها.

Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.

Share
Published by
طارق قابيل

Recent Posts

شمس المستقبل تشرق في مصر: شراكة استراتيجية مع الصين لتوطين أحدث تكنولوجيا الطاقة الشمسية

تُعدّ الطاقة المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية، حجر الزاوية في بناء اقتصادات المستقبل المستدامة. فمع تزايد…

10 ساعات ago

لغز “واو!” يعود: هل يحل المذنب الغامض “3 أي/أطلس” لغز صرخة الفضاء اليتيمة؟

في سماء يوليو 2025، لفت جرم سماوي غامض الأنظار، مذنب ضخم أطلق عليه اسم "3…

22 ساعة ago

ابتسامة من أعماق الظلام: اكتشاف أنواع جديدة من أسماك الحلزون تثير دهشة العلماء

تعتبر أعماق المحيطات آخر الحدود المجهولة على كوكب الأرض، فهي عوالم غامضة لم تكشف بعد…

3 أيام ago

اختراق صيني يغير قواعد جراحة العظام: هل يصبح “غراء العظام” الحل السحري للكسور؟

لطالما كانت كسور العظام كابوساً يؤرق الملايين حول العالم، فالطرق التقليدية لعلاجها غالباً ما تقتضي…

4 أيام ago

ما حقيقة التشابه الجيني بين الإنسان والشمبانزي؟ وهل هي حقاً 99%؟

هناك اعتقاد سائد منتشر بشكل كبير بأن الإنسان والشمبانزي يتشاركان في ما يقرب من 99%…

5 أيام ago

“دييلا”: أول وزير يعمل بالذكاء الاصطناعي في ألبانيا.. خطوة جريئة نحو حكومة بلا فساد أم مجرد تجربة رقمية؟

في خطوة غير مسبوقة على الصعيد الأوروبي والعالمي، أعلنت ألبانيا عن تعيين وزيرة افتراضية تعمل…

7 أيام ago