ما هي متفردة الثقب الأسود؟
لكي نفهم مفهوم «المتفردة-singularity»، لا بد من تخيل مقدار هائل من الجاذبية، يضغطك إلى نقطة لا متناهية الصغر، بحيث لا يجعلك تشغل -حرفيًا- أيّ حجم يذكر. قد يبدو لك الأمر مستحيلًا، وهو بالفعل كذلك! ومتفردات كهذه، والتي يعتقد أنها موجودة داخل الثقوب السوداء وفي بداية الانفجار العظيم، لا تمثل شيئًا فيزيائيًا. بل يظهر مفهومها في الرياضيات ليخبرنا أن نظرياتنا الفيزيائية تنهار، وأننا نحتاج لتبديلها بنظريات أفضل.
محتويات المقال :
يمكن أن تحدث المتفردات في أي مكان، وهي شائعة بشكل كبير في الرياضيات التي يستخدمها الفيزيائيون ليعبروا عن نظرياتهم. وبشكل مبسط، يمكن القول أن المتفردات هي نقاط تسلك الرياضيات فيها سلوكًا “شاذًا”، غالبًا بإنتاجها أرقامًا كبيرةً لا منتهية، أو بأن يصبح التابع غير معرف في نقطة ما أو غير قابل للاشتقاق عندها. وكمثال على المتفردات في الرياضيات نأخذ العملية 1/X. فعمليًا، كلما أخذت معادلة ما القيمة السابقة، وسعت قيمة X إلى الصفر، تسعى قيمة المعادلة إلى اللانهاية. فنقول أن التابع السابق غير معرف عند الصفر، أي يملك متفردة عند الصفر. ويمكن حل غالبية هذه المتفردات بالإشارة إلى أنها تنقص عاملًا مفقودًا يجب إضافته إلى معادلتها. أو إلى استحالة الوصول إلى قيمتها الفعلية، وكأن نقول أن المتفردات غير “حقيقية”. [1]
ولكن بعض المتفردات في الفيزياء لا تحل بهذه البساطة. ومن أشهرها «متفردات الجاذبية-gravitational singularities»، أي القيم اللامنتهية التي تظهر في نظرية النسبية العامة لأينشتاين، أفضل نظرية حالية لوصف الجاذبية. في النسبية العامة، يوجد نوعان رئيسيان من المتفردات، هما «متفردة الإحداثيات-coordinate singularity»، و«المتفردة الحقيقية-Real singularity». تحدث متفردات الإحداثيات عندما تظهر لا نهاية في جملة إحداثيات معينة، وتختفي عند اختيار جملة أخرى، فتكون ظاهرية فقط.
*جملة الإحداثيات: في هذه الحالة تبين الاحداثيات المستخدمة للتعبير عن الزمان والمكان. [2]
مثلًا، طبق الفيزيائي «كارل شوارزشايلد-Karl Schwarzschild» قوانين النسبية العامة على نظام بسيط لكتلة كروية، مثل النجوم. فوجد أن حلول المعادلات تضمنت متفردتين: إحداهما في مركز الكرة، والأخرى على بعد معين من مركزها. وتعرف المسافة الثانية اليوم ب «نصف قطر شوارزشايلد-Schwarzschild radius» وتتعلق بكتلة الجسم. لعدة سنوات اعتقد الفيزيائيون أن كلا المتفردتين تمثل انهيارًا لقوانين الفيزياء، ولكنهم لم يبالوا للثانية طالما كان نصف قطر الكتلة الكروية أكبر من نصف قطر شوارزشايلد.
ولكن ما الذي يحدث لو تقلص جسم ما لأقل من نصف قطر شوارزشايلد الخاص به؟ عندها ستقع المتفردة الثانية خارج الجسم، ويعني أن النسبية العامة ستنهار في مكان لا يجب أن تنهار فيه. ولم تطل المعضلة حتى اكتشف العلماء أن متفردة نصف قطر شوارزشايلد هي متفردة إحداثيات لا أكثر. ومجرد تغيير في نظام الإحداثيات المستخدم يزيل المتفردة، ويحمي النسبية العامة من الانهيار. [3]
بقيت المتفردة المتمركزة داخل مركز الجسم بينما أزيلت قرينتها. لأنك إن ضغطت جسمًا ما لأقل من نصف قطر شوارزشايلد الخاص به، تصبح جاذبيته شديدةً لدرجة أنه ينهار على نفسه باستمرار إلى نقطة لا متناهية الصغر. ولعقود من الزمن، تناقش الفيزيائيون حول إمكانية حدوث انهيار في اللانهاية كهذا، أو وجود قوة تمنع هكذا انهيار. ففي حين تحافظ «الأقزام البيضاء-white dwarfs» و«النجوم النيوترونية-neutron stars» على نفسها من الانهيار، أي جسم كتلته أكبر من 6 أضعاف كتلة الشمس سيملك مقدارًا هائلًا من الجاذبية. وتتغلب جاذبيته على كل قوى الطبيعة فينهار في نقطة لا منتهية، تشكل متفردةً حقيقة. [4]
إن التعريف السابق ذكره هو التعريف الفعلي لماهية «الثقب الأسود-black hole». فهو نقطة كثافتها لا متناهية، تحاط بأفق حدث يقع عند نصف قطر شوارزشايلد. حيث “يحمي” أفق الحدث المتفردة داخل الثقب، مانعًا المراقبين الخارجيين من رؤيتها إلا إذا عبروا أفق الحدث. اعتقد الفيزيائيون سابقًا أنه في النسبية العامة، تحاط جميع المتفردات بآفاق حدث. وعرف المفهوم السابق باسم «فرضية الرقابة الكونية-the Cosmic Censorship Hypothesis». وسموها كذلك لأنهم اعتقدوا بوجود عملية ما في الكون “تكون رقيبة” على المتفردات وتمنعها من أن تكون مرئية. ثم أظهرت المحاكاة الحاسوبية إمكانية وجود «متفردات مجردة-naked singularities». حيث تكون المتفردة المجردة عبارةً عن متفردة بدون أفق حدث، مما يجعلها قابلة للرصد من العالم الخارجي. ولكن يبقى وجود هكذا متفردات موضع جدل العلماء حتى اليوم. [5]
ولأنها تعتبر متفردات رياضية، لا أحد يعلم حقًا ماذا يوجد في مركز الثقوب السوداء. ولكي نعلم ذلك، نحتاج إلى نظرية أخرى غير نظرية النسبية العامة، لأنها تنهار في المتفردة. وتحديدًا، نحتاج إلى نظرية كم للجاذبية، أي نظرية تصف سلوك الجاذبية القوية على مقاييس صغيرة جدًا. توجد بعض الفرضيات التي تعدل أو تستبدل نظرية النسبية العامة كليًا محاولةً وصف متفردة الثقب الأسود. ومنها فرضية «نجوم بلانك-Planck stars»، وهي حالة افتراضية لمادة شديدة الانضغاط. و«نجوم الطاقة المظلمة-dark energy stars»، وهي حالة افتراضية لطاقة الفراغ، تبدو وتتصرف كثقب أسود. وحتى يومنا هذا، تبقى هذه الأفكار مجرد افتراضات لن تجيب عنها إلا نظرية كم الجاذبية المنتظرة. [6]
تعتبر «نظرية الانفجار العظيم-The Big Bang theory» والتي تفترض صحة النسبية العامة، النموذج الكوني الحديث لتاريخ كوننا. كما تتضمن متفردة تقع في الماضي البعيد، منذ حوالي 13.77 مليار سنة. فبحسب هذه النظرية، كان الكون بأكمله منضغطًا في نقطة لا متناهية الصغر تشكل ما يعرف بمتفردة الانفجار العظيم. [7]
ويعلم الفيزيائيون اليوم أن الاستنتاج السابق خاطئ. فرغم نجاحها الكبير في وصف تاريخ كوننا، إلا أنه وكما في الثقوب السوداء، يخبرنا وجود متفردة في الانفجار العظيم -مرة أخرى- أن نظرية النسبية العامة غير مكتملة، وتحتاج للتحديث.
The Basque Center of Applied Mathematics [1]
The Stanford Encyclopedia of Philosophy [2]
[3] the University of California
Universe Today [4]
ScientificAmerican [5]
Physics of the Universe[6]
The Astrophysics Data System[7]
توصل باحثون إلى اكتشاف رائد يمكن أن يحدث ثورة في عالم التكنولوجيا القابلة للارتداء. لقد…
مع تصاعد التوترات حول نهر النيل، الذي يشكل شريان حياة بالغ الأهمية لملايين البشر في…
من المتوقع أن تشهد البشرية في السنوات القليلة المقبلة تطورات كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي.…
مقاومة المضادات الحيوية، التي تمثل تهديدًا صحيًا عالميًا متزايدًا، لها سبب مفاجئ وهي التربة. حيث…
في عالم الفلسفة الإسلامية، تم التغاضي عن مفهوم رائع لعدة قرون. لقد كانت الأحادية (monism)،…
من خلال إعادة التفكير في افتراضاتنا حول الحياة خارج الأرض، يتحدانا عالمان للنظر في إمكانية…