قد ساعدت المعرفة التاريخية الكثير من الشعوب على التوصل إلى حلول لمشكلاتها، مثلما الإنسان يحتاج إلى الذاكرة لبناء مكانته الاجتماعية .. فإن الشعب يحتاج إلى الذاكرة الثقافية لبناء هويته والإجابة على سؤال "من نحن ومن هم الآخرون"
تتكون المناظر الطبيعية الحضرية والتاريخية من طبقات من السمات الملموسة وغير الملموسة مثل الذكريات الثقافية، كذكريات جماعية لسكان المدينة. إذ يمكن للذكريات الثقافية أن تؤثر علي تشكيل هوية المكان، ونوعية الحياة الاجتماعية مثل الصحة والرفاهية، وهوية المجتمع، وإدراك المكان، والمشاركة الاجتماعية. ويشير هذا المقال إلى قيمة استدعاء ميزات الذاكرة الثقافية التي يمكن استخدامها لتحقيق التنمية الاجتماعية.
محتويات المقال :
الذاكرة الثقافية هي عملية تذكر الأحداث التي تتعلق بالأشياء والأماكن والتي يصادفها الأشخاص في إطار اجتماعي. ويُنظر إلى الذاكرة الجماعية على أنها مستودع للثقافة، وأحيانًا تؤدي هذه النظرة إلى استخدام مصطلح “الذاكرة الثقافية” [1]. ظهر مصطلح الذاكرة الثقافية لأول مرة في الأدب على يد «موريس هالبواكس-Maurice Halbwachs» في كتابيه “الأطر الاجتماعية للذاكرة” وكتاب “الذاكرة الجماعية”.
تأسس فهم هالبواكس للذاكرة الثقافية على التمييز بين الذاكرة الفردية والجماعية. فوصف الذاكرة الفردية بأنها “شخصية” و”سيرة ذاتية” للفرد. في حين أن الذاكرة الجماعية “اجتماعية” و”تاريخية” [2]. وبعد تقديم هالبواكس للمفهوم، درس «بيير نورا-Pierre Nora»الذاكرة الجماعية المكانية. وكان نورا مهتمًا بشكل خاص بالبيئة الجغرافية والعمرانية. وناقش نورا كيف يمكن لأماكن معينة التقاط مشاعر مختلفة وتجسيد الذكريات الوطنية [3].
وبناءًا على مساهمات هالبواكس، أسس «الدو روسي-Aldo Rossi» مفهوم “الذاكرة الحضرية” في كتابه “هندسة المدينة”. وقد سمح روسي بإدخال مفهوم الذاكرة الجماعية في الهندسة المعمارية والتصميم الحضري. ويجادل ألدو روسي في هذا الكتاب بأن الحفاظ على المواقع التراثية يعادل الاحتفاظ بالذكريات الثقافية للناس وحماية هوياتهم الوطنية [4].
أضافت «كريستين بوير-Christine Boyer» إلى هذه المناقشة في كتابها “مدينة الذاكرة الجماعية” أن الهندسة المعمارية للمدينة تعبر عن الذاكرة الثقافية، وهي تحمل آثار الأشكال المعمارية السابقة، إلى جانب التخطيط والمعالم الأثرية للمدينة. وتوضح كريستين أنه على الرغم من أن أسماء المدن قد لا تتغير، فإن عناصرها المادية قابلة للتغيير دائمًا، ويتم نسيانها وتعديلها لتلائم المتطلبات الجديدة، أو حتى قد تختفي في السعي وراء أغراض مختلفة.
ومع ذلك يمكن لذكرياتنا الجماعية والفردية أن تخبرنا بالتغييرات التي تحدث، وتساعدنا على تمييز مدينتنا عن مدن الآخرين من خلال التعرف على شوارعها ومعالمها وأشكالها المعمارية وآثارها [5].
يشير كل هؤلاء المنظرين إلى الصلة المهمة بين الذاكرة الثقافية والأماكن التي لا تُنسى في المدن، والتي تستحضر صورًا وتصورات جماعية.
شهدت الإسكندرية “الميناء الرئيسي لمصر” مؤخرًا معدلًا متسارعًا من التحضر والتصنيع لتلبية احتياجات سكانها المتزايدين. وقد أدى ذلك إلى ظهور تهديدات حضرية واجتماعية وبيئية للمناظر الطبيعية الحضرية التاريخية للمدينة. ويعد سوق الشارع التاريخي “زنقة الستات” (المعروف أيضًا باسم “زنة الستات”) أحد أهم الأماكن التي لا تنسى في الإسكندرية، وهي تواجه حاليًا التدهور المادي والتلوث البيئي، وهي قضايا تهدد ارتباط المكان، والذكريات، وصورة المكان، والاستخدام، والتفاعل الاجتماعي لمستخدميه [6].
تساهم الذاكرة الثقافية في تحديد الهوية من خلال حماية مواقع الأحداث المهمة (مثل المعالم أو المباني الأثرية). وتعزز تلك المواقع مشاعر الاستمرارية والتميز. وأظهرت تعليقات المشاركين في الدراسة أن تفرد هذا الموقع واستمراريته باعتباره “فريدًا من نوعه” في الإسكندرية، وحقيقة أنه لم يشهد أي تحول تخطيطي كبير، أوجد مشاعر اليقين والمتعة التي حمت هوية المكان وخبرته. ويدعم هذا فهم «أنطون ولورانس-Anton and Lawrence» للمواقع التي تمتلك هوية مكان، ويقترحا أن الأماكن التي من المرجح أن يتم استيعابها في بنية الهوية هي تلك التي يمكن أن تجعلنا نشعر بأننا فريدون، ومسؤولون، وراضون عن أنفسنا، وتتوافق مع إدراكنا الذاتي لمن نحن [7].
كان من الملاحظ أن جميع المشاركين كانوا على دراية كاملة بالخلفية التاريخية للسوق، بدءًا من حملة نابليون الفرنسية. حيث أعطت اسطبلات الخيول الخاصة بالجنود اسم السوق الرئيسي (شارع فرانساه). وكان الوجود اللاحق للمدينة التركية منعكس في النسيج العمراني (الأزقة الضيقة). بينما تم استحضار القصص عن جرائم ريا وسكينه. أدى هذا الوعي بتاريخ الموقع إلى تكرار الذكريات الثقافية، وخلق مشاعر جماعية بالمسؤولية والفخر المدني. وتتفق هذه العلاقة بين القيمة التاريخية والذاكرة الثقافية.
تشير النتائج إلى أن الذاكرة الثقافية، والتعلق بالمكان، والقيمة التاريخية له، جميعها تضيف إلى الإحساس بالمكان من خلال تكوين علاقة تجاهه والارتباط المجتمعي به.
نأمل أن تقوم سلطات التخطيط العمراني الوطنية ومصممي ومخططي المدن في العموم بالتعرف على المناظر الطبيعية الحضرية التاريخية كمستودعات للذكريات الثقافية. كما أن التأكد من تطوير تلك الأماكن وإدارتها يعكسان القيم التاريخية من خلال تذكر الأنشطة والأحداث التي حدثت هناك وإحياء ذكراها. ويوصى بشدة بأن تشتمل هذه الأعمال على تمثيل للذكريات الثقافية جنبًا إلى جنب مع الحفاظ على النسيج المادي التاريخي. ويمكن أن يحدث هذا من خلال التخطيط التشاركي، حيث ستحتاج الحكومات إلى الانخراط مع المجتمع، وتخصيص وقت كافٍ لجمع البيانات الواقعية، مما يجعل من الممكن مراعاة الذكريات والعواطف والآراء الثقافية. كما يمكن أن تشارك المجموعات الاجتماعية بشكل أكبر في التخطيط التشاركي من خلال إجراء مقابلات شخصية مع المستخدمين للموقع. وسيعمل هذا النهج على تحديد الذكريات التي يريدون الحفاظ عليها لهم وللأجيال القادمة، من أجل خلق التماسك الاجتماعي الضروري وحماية هوية الموقع والتجربة والشعور بالمكان.
يمكن للذاكرة الثقافية أن تربط الأجيال بأماكن الأحداث المهمة، بحيث تظل هذه الأحداث في ذهن الأشخاص المرتبطين بالمناظر الطبيعية الحضرية التاريخية. ويعد الحفاظ على التراث الثقافي والمادي للأجيال القادمة أمرًا مهمًا، ويجب التعامل معه بنفس الاعتراف الذي تتمتع به الأجيال الحالية لتعميم الاستدامة والتنمية االاجتماعية.
عقلك، وهو عبارة عن شبكة معقدة من الأفكار والمعتقدات، ولكنه يعمل حاليًا ببرنامج قديم. لقد…
تم اكتشاف خزان ضخم من الهيدروجين، والذي قد يشكل مصدراً محتملاً للطاقة النظيفة، تحت سطح…
لقد تم اكتشاف تمثال نصفي لكليوباترا في مدينة تابوزيريس ماجنا المصرية القديمة، مما أثار جدلاً…
عثر مقاتلون تابعون للمعارضة في سوريا على مخزونات ضخمة من مخدر الكبتاجون في مستودع بدمشق.…
توصل باحثون إلى اكتشاف رائد يمكن أن يحدث ثورة في عالم التكنولوجيا القابلة للارتداء. لقد…
مع تصاعد التوترات حول نهر النيل، الذي يشكل شريان حياة بالغ الأهمية لملايين البشر في…