بعد يومٍ طويل قررت الجلوس ومشاهدة أحد الأفلام وقد وقع الاختيار على الفيلم الرومانسي Five feet apart، ولاحظت المعاناة الحقيقية التي يعيش فيها مصابي مرض التليف الكيسي-Cystic fibrosis منذ نعومة أظافرهم. فبشكلٍ عام يُعتبر المرض جزءاً مؤلماً في الحياة مؤثراً فيها أو بالأحرى عائقاً كبيراً في طريق السعادة. فما بالك لو كان المرض ملازما لصاحبه منذ لحظات ولادته الأولى؟! بالطبع سيكون الأمر شديد القسوة. وهذا هو حال مريض التليف الكيسي-Cystic fibrosis. فذلك المرض يصيب الكثير من غدد الجسم مثل الغدد العرقية، النبكرياس، الغدد المفرزة للمخاط في الجهاز التنفسي وغيرهم. فيغير من طبيعة إفرازاتهم، ويجعلها أكثر لزوجة مما يحمل العديد من العواقب الوخيمة التي يعاني منها مريض التليف الكيسي والتي سنذركها ونشرحها سوياً في السطور القادمة. ولكن أولاً دعنا نستكشف تاريخ ذلك المرض وكيف أنه ارتبط بالفن بطريقةٍ أو بأخرى؟
محتويات المقال :
في الحقيقة من أهم الأمور التي تميز ذلك المرض هي ملوحة الجلد أو تحديدا ملوحة العرق الزائدة عن الحد، حتى أن اللأباء يلاحظون ذلك في بداية حياة أبنائهم أثناء التقبيل مثلا، بالإضافة لذلك إصابة البنكرياس بأضرار قوية. وهذا بالضبط ما تصفه بعض الكتابات من القرون الوسطى. وتشير العديد من الأدلة إلى أن الموسيقار البولندي الرائع وعازف البيانو المبدع فريديك شوبان كان أيضا مصاب بالتليف الكيسي حيث أنه حيث كان يعاني من نقص شديد في الوزن مقارنة بطوله، والإصابة بعدوى الجهاز التنفسي بشكلٍ متكرر، وكذلك يُعتقد أنه كان عقيم، في الحقيقة كل ذلك من أعراض التليف الكيسي. وهنا عزيزي القارئ اسمح لي أن ارشح لك الاستماع إلى أحد روائعه في أثناء إكمالك لذلك المقال:
وكان أول وصف حديث لذلك المرض من نصيب أخصائية علم الأمراض الأمريكية Dorothy Andersen-دوروثي أندرسن وكان ذلك عام 1938 وبعد ذلك بدأ الأطباء في وضع خطط لتشخيص وعلاج ذلك المرض وكان ذلك تحديدا عام 1963حيث وضع بعض الخبراء طريقة تشخيص تعتمد على تركيز الملح في العرق بالإضافة للأعراض المهمة المصاحبة للمرض مثل عدوى الجهاز التنفسي المتكررة ونقص الوزن . و حتى الآن يعتبر ذلك من الأمور المهمة في التشخيص.
ولكن ما هو أساس المرض؟ ما الذي يوجد بالكواليس ولازال مجهولاً؟
حسنا لقد كان ذلك عام 1989حين استطاع الباحثون أخيراً الكشف عن الطفرة الجينية الرئيسية المسببة للمرض. في حقيقة الأمر يصف الدكتور فرنسيس كولينز مراحل اكتشافه هو وزملائة الباحثين لتلك الطفرة في كتابه (لغة الإله-the language of god) فذلك الاكتشاف تطلب عدداً كبيراً جداً من المتطوعين، وكذلك عدد ضخم من المعامل، والباحثين. فقد كان باللأمر الجلل وقد عصف بهم اليأس والاحباط العديد من المرات وكذلك انقطاع تمويل والعديد من المشاكل الضخمة التي كادت تقضي على الاكتشاف كله، حتى حلول عام 1989 الذي فيه استطاع الباحثون والمتطوعون أن يقفوا بقمة الفخر حيث أنهم أخيراً وصلوا للحجر الأول في أحجية التليف الكيسي. وبتلك المناسبة ألف فرنسيس كولينز أغنية حتى يغنيها جمع القائمين على الاكتشاف ويصف شعوره وقد تساقطت الدموع من عينيه في أثناء غنائهم لتلك الأغنية التي تدون ذلك الانتصار. حسناً بعد أن تعرفنا على مرض التليف الكيسي من الناحية التاريخية حان الوقت الآن لنتعرف عليه طبياً.
هو مرض وراثي متنحي أكثر انتشاراً في المجتمعات البيضاء أو القوقازية، ونادر جداً في غيره من الأعراق الزنجية والآسيوية، يصيب ذلك المرض غدد الجسم ويقلل من نسبة الماء في إفرازاتها فتكون أكثر لزوجة. في الواقع لمعرفة أي المرض لابد من معرفة الوضع الطبيعي أولاً. ففي الطبيعي يحتوي الحمض النووي DNA على جين يعبر عن بروتين يسمى CFTR يتم ترجمته إلى mRNA هذا المركب مسؤول عن إيصال الرسالة الجينية من الحمض النووي في النواة إلى خارجها حيث عضي الترجمة وهو الريبوسومات. يتم هنا ترجمة mRNA إلى بروتين CFTR الذي بدوره ينتقل إلى سطح الخلية، وهنا يعمل كقناة ينتقل من خلالها أيونات الكلور السالبة، ويقوم بالتأثير على قنوات أخرى على سطح الخلية وظيفتها تنظيم انتقال أيونات الصوديوم. ونتيجة لتلك السيطرة على حركة الأيونات يتم السيطرة على حركة الماء (حيث تتحرك الماء بين الأوساط المتخلفة تحت تأثير اختلاف تركيز الأملاح بين تلك الأوساط فيما يُعرف بالضغط الأسموزي) وعن طريق تلك الخطوات يتم ضبط مكونات إفرازات الغدد والتحكم في لزوجتها حتى لا تتسبب اللزوجة الزائدة عن الحد مثلاً في سد قنوات الغدد وبالتالي العديد من المشاكل التي تختلف على حسب الغدة المتأثرة. حسنا هذا هو الطبيعي ولكن ماذا عن المرض؟
في مرضي التليف الكيسي ما يحدث هو طفرة جينية أو لنكن أكثر وضوحا هناك أكتر من 1700 طفرة جينية مرتبطة بعملية إنتاج ووظيفة بروتين CFTR مقسمة إلى أكثر من قسم تستهدف تقريباً كل مرحلة من مراحل إنتاج البروتين وانتقاله وأدائه لوظيفته؛ حيث أنه هناك بعض الطفرات تؤدي إلى عدم تصنيع البروتين ككل أو على الأقل يكون أقصر مما ينبغي بكثير. والبعض الآخر يؤدي إلى تصنيعه بشكلٍ خاطئ فلا يكون صالح للاستخدام والانتقال إلى سطح الخلية في الحقيقة تشغل تلك الطفرة الغالبية العظمى من المصابين بمرض التكيس الليفي حيث أن 70% من المرضى مصابين بطفرة في ترجمة الجين بشكل صحيح فينتج عن الترجمة حذف أحد الأحماض الامينية (الأحماض الأمينية هي الوحدة الأساسية المكونة للبروتينات) وتحديداً الفينيل ألانين-phenylalanine مما يؤدي لخلل في شكل البروتين وجعله غير قابل للاستخدام. وقد يتم إنتاج البروتين وبالشكل المناسب لانتقاله لسطح الخلية لكنه لا يعمل أيضاً بمعنى أن القناة تظل مغلقة فلا انتقال يحدث على الإطلاق للكلور أو تنتقل كمية بسيطة جدا. وأخيراً قد يتم إنتاج البروتين ويكون صالح للاستخدام، ولكن مع الأسف تكون كميته بسيطة والعديد من الطفرات الأخرى الضارة. في الحقيقة معرفة نوع الطفرة الجينية أمر مهم جداً لمعرفة أسلوب العلاج المناسب، وكذلك التنبؤ بحالة المريض.
وبعد أن حدث الخطأ الجيني المسؤول عن تعطل القناة CFTR يحدث بالتالي خلل في انتقال الكلور من وإلى الخلية فمثلاً في الغدد العرقية لا يتم إعادة امتصاص الصوديوم، ويخرج الكلور بكميات كبيرة فيكون طعم العرق شديد الملوحة. أما في الجهاز التنفسي يظل الكلور والصوديوم محتجزين داخل الخلية، فبالتالي لا تتحرك الماء وتخرج الإفرازات شديدة اللزوجة مما يؤدي إلى الكثير من المشاكل والتعرض الكبير للعدوى الخطيرة. وفي البنكرياس أيضاً تكون الإفرازات شديدة اللزوجة قادرة على سد القناة التي تفتح في الإثنى عشر مما يؤدي بدوره إلى نقص هضم وامتصاص الكثير من المواد وخاصةً المواد الدهنية الأمر الذي يؤدي إلى نقص شديد في الوزن وتأخر في النمو. فبذلك يعاني مريض التكيس الليفي من أعراض هضمية صعبة وتأخر في النمو وأيضاً التهابات متكررة في البنكرياس. بالإضافة لبعض الأعراض الأخرى مثل العقم لدى الرجال ومشاكل في الأمعاء.
غالباً لا يعتمد علاج التليف الكيسي على حل نهائي وجذري للمشكلة حيث يتطلب ذلك تصليح العطل الجيني نفسه ولازال أمامنا طريق طويل حتي ننجح في ذلك، وطريق أطول لانتشار ذلك النوع من العلاج في أنحاء المعمورة. فيعتمد العلاج على تقليص الأعراض إلى أقصي درجة ممكنة فمثلاً يتم عمل تحاليل بشكل دوري على عينات من الجهاز التنفسي حتى يتم الكشف عن أنواع البكتيريا الموجودة والتعامل معها بالشكل المناسب والمضادات الحيوية المناسبة. ويتناول المريض باستمرار المقويات الغذائية بخاصة الفيتامنات الدهنية (A D E K ) وتعاطي إنزيمات البنكرياس، والكثير من العلاجات الأخرى التي تهدف لجعل الحياة محتملة وأطول بقدر المستطاع. ويوجد أيضاً أنواع جديدة من العقارات تصحح من شكل البروتين أو تقوي من عمله، المهم أنها تعمل على أساس المشكلة ولكن تلك الأدوية حديثة نسبياً وبعضها ما زال تحت الاختبار. بالإضافة للتدخل الجراحي مثل عملية نقل الرئة التي قد تزيد من فرصة النجاة.
وبذلك تعرفنا على الكثير من النواحي الخاصة بذلك المرض الخطير آملين أن تنجح التجارب العلاجية التي تتم فيه لمستقبل أفضل للمرضى.
مصادر:
Was Frédéric Chopin’s Illness Actually Cystic Fibrosis?
كتاب لغة الإله لفرنسيس كولينز
THOMPSON & THOMPSON GENETICS IN MEDICINE chapter
Ferri’s Clinical Advisor chapter cystic fibrosis
توصل باحثون إلى اكتشاف رائد يمكن أن يحدث ثورة في عالم التكنولوجيا القابلة للارتداء. لقد…
مع تصاعد التوترات حول نهر النيل، الذي يشكل شريان حياة بالغ الأهمية لملايين البشر في…
من المتوقع أن تشهد البشرية في السنوات القليلة المقبلة تطورات كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي.…
مقاومة المضادات الحيوية، التي تمثل تهديدًا صحيًا عالميًا متزايدًا، لها سبب مفاجئ وهي التربة. حيث…
في عالم الفلسفة الإسلامية، تم التغاضي عن مفهوم رائع لعدة قرون. لقد كانت الأحادية (monism)،…
من خلال إعادة التفكير في افتراضاتنا حول الحياة خارج الأرض، يتحدانا عالمان للنظر في إمكانية…