لطالما كان حلم محاكاة العقل البشري، هذا الأعجوبة البيولوجية المعقدة، هدفًا أسمى للعلماء والمهندسين. فمنذ عقود، سعى الباحثون في مجال الذكاء الاصطناعي (AI) إلى بناء أنظمة حاسوبية قادرة على التعلم، والتفكير، واتخاذ القرارات بنفس الطريقة التي يعمل بها الدماغ. واليوم، يبدو أن هذا الحلم قد اقترب من أن يصبح حقيقة ملموسة، وذلك بفضل إنجاز علمي صيني مذهل قد يقلب موازين عالم الحوسبة رأساً على عقب. فقد أعلنت جامعة تشجيانغ الصينية عن تطوير حاسوب فريد من نوعه أطلقت عليه اسم “قرد داروين” (Darwin’s Monkey)، والذي يعتمد على بنية عصبية تحاكي الدماغ البشري، ويفتح الباب أمام جيل جديد من الحوسبة العصبية (Neuromorphic Computing). هذا الإنجاز ليس مجرد تقدم تقني، بل هو نقطة تحول قد تغير فهمنا للذكاء الاصطناعي، وتفتح آفاقًا غير مسبوقة في مجالات البحث العلمي، والتطبيقات العملية، وربما حتى فهم أسرار العقل البشري نفسه.
محتويات المقال :
في خطوة جريئة تضاف إلى سجل الإنجازات العلمية الصينية، كشفت جامعة تشجيانغ عن “قرد داروين” (Oukong)، وهو حاسوب ثوري يمثل نقلة نوعية في مجال الذكاء الاصطناعي. هذا الحاسوب، الذي أطلقت عليه الجامعة اسم “أول حاسوب في العالم مبني على مبدأ الدماغ البشري”، لا يعتمد على البنية التقليدية للمعالجات المركزية (CPUs) ووحدات معالجة الرسوميات (GPUs)، بل على شريحة متخصصة في الحوسبة العصبية، أطلق عليها اسم “داروين 3” (Darwin 3). هذه الشريحة مصممة لتقليد آلية عمل الدماغ البشري، وتحتوي على أكثر من 2 مليار خلية عصبية اصطناعية، وهو رقم يضاهي عدد الخلايا العصبية في دماغ قرد المكاك، مما يجعله خطوة عملاقة نحو بناء ذكاء اصطناعي أكثر تطورًا وفعالية.
لفهم أهمية هذا الإنجاز، يجب أن نتعرف على مفهوم الحوسبة العصبية (Neuromorphic Computing). ببساطة، هي مقاربة جديدة في تصميم أجهزة الكمبيوتر، تهدف إلى محاكاة طريقة عمل الدماغ البشري. فبينما تعتمد أجهزة الكمبيوتر التقليدية على نظام ثنائي (صفر وواحد)، حيث تتم معالجة البيانات بشكل تسلسلي، يعتمد الدماغ على شبكة واسعة من الخلايا العصبية (Neurons) المتصلة ببعضها البعض، والتي تعالج المعلومات بشكل متوازي (Parallel Processing).
تتميز الحوسبة العصبية بكفاءتها العالية في استهلاك الطاقة، وقدرتها على معالجة كميات هائلة من البيانات بشكل فوري، ومرونتها في التعلم والتكيف. وهذا ما يجعلها مثالية للتطبيقات التي تتطلب قدرات إدراكية، مثل التعرف على الصور والأصوات، ومعالجة اللغات الطبيعية، والروبوتات.
تعتبر شريحة “داروين 3” (Darwin 3) التي صممتها جامعة تشجيانغ، حجر الزاوية في حاسوب “قرد داروين”. هذه الشريحة ليست مجرد معالج تقليدي، بل هي شبكة عصبية اصطناعية متكاملة، تحتوي على خلايا عصبية وشبكات تشابكية (Synapses) تحاكي بدقة بنية الدماغ. وقد أشار بيان الجامعة إلى أن النظام الحاسوبي بالكامل يضم 960 شريحة من هذا النوع، مما يمنحه قوة حسابية هائلة، وقدرة على معالجة المعلومات بشكل لم يسبق له مثيل.
هذه الشريحة المتطورة، والتي تعد نتاجًا لأعوام من البحث والتطوير، تفتح الباب أمام العديد من التطبيقات الواعدة. فبفضل بنيتها العصبية والتشابكية القوية، تمكن العلماء من إجراء نمذجة أولية لأدمغة كائنات حية مختلفة، بدءًا من الكائنات البسيطة مثل الديدان الخيطية (Caenorhabditis elegans)، وصولاً إلى الكائنات الأكثر تعقيدًا مثل سمك الزرد والفئران وقرود المكاك.
لا يقتصر تأثير حاسوب “قرد داروين” على مجال الحوسبة فقط، بل يمتد ليشمل مجالات أخرى مثل علم الأعصاب (Neuroscience)، والطب، والذكاء الاصطناعي.
يؤكد الخبراء أن هذا الابتكار “يفتح آفاقًا جديدة لفهم الدماغ البشري”، ويقلل الحاجة إلى إجراء تجارب بيولوجية حقيقية، ويسهم في تعزيز الأبحاث العصبية وفهم أفضل للوظائف الدماغية. فبدلاً من إجراء تجارب على الحيوانات أو البشر، يمكن للعلماء الآن استخدام “قرد داروين” لمحاكاة وظائف الدماغ، ودراسة كيفية عمل الخلايا العصبية والشبكات العصبية، وفهم آليات الأمراض العصبية مثل الزهايمر والشلل الرعاش. وهذا قد يؤدي إلى تطوير علاجات جديدة وفعالة لهذه الأمراض.
على صعيد الذكاء الاصطناعي، يمثل “قرد داروين” خطوة كبيرة نحو بناء أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر تطورًا وذكاءً. فبفضل قدراته على التعلم والتكيف، يمكن استخدامه في تطوير روبوتات قادرة على التفاعل مع بيئتها بشكل طبيعي، أو في بناء أنظمة للرؤية الحاسوبية (Computer Vision) أكثر دقة وفعالية، أو في تطوير أنظمة للتعرف على الكلام (Speech Recognition) تفهم السياق وتتعلم من التفاعل.
قد يكون لهذا الابتكار تطبيقات في مجالات أخرى مثل:
يعد إطلاق حاسوب “قرد داروين” خطوة عملاقة نحو عصر جديد من الحوسبة، عصر لا يعتمد على القوة الحسابية الخام، بل على محاكاة ذكاء الدماغ البشري. ورغم أن هذا الإنجاز لا يزال في مراحله الأولى، إلا أنه يمثل إشارة واضحة على أن الصين تسير بخطى حثيثة لتكون في صدارة سباق الذكاء الاصطناعي العالمي. فبفضل هذا الحاسوب، قد نرى في المستقبل القريب أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر ذكاءً، وروبوتات أكثر وعيًا، وتطبيقات تكنولوجية لم نتخيلها من قبل.
إن هذا الابتكار ليس مجرد قطعة من التكنولوجيا، بل هو نافذة على مستقبل قد يكون فيه الذكاء الاصطناعي لا يقل تعقيدًا عن الذكاء البشري. ومع استمرار الأبحاث والتطوير، قد نشهد قريبًا ثورة حقيقية في عالم الحوسبة، ثورة قد تغير شكل العالم كما نعرفه.
في خضم التحديات الصحية التي تواجه البشرية، يبرز العقم عند الرجال كأحد أبرز القضايا التي…
"النيروجيكو": عندما يُعيد الذكاء الاصطناعي تشكيل الإنسان. كتاب يستشرف مستقبل الوجود في عصر الخوارزميات ثورة…
في عالم يتسارع فيه العلم لتجاوز حدود المستحيل، يبرز التعديل الوراثي كأحد أكثر التقنيات إثارة…
هل اقتربنا من "الدماغ الرقمي"؟ في عالم يتسارع فيه الابتكار التكنولوجي بوتيرة غير مسبوقة، أصبح…
خطوة هائلة إلى الأمام في مجال الطب التجديدي والعلاجات الجينية يُعرف مرض النقرس (Gout) باسم…
يترقب عشاق الفلك في جميع أنحاء العالم، وخاصة في المنطقة العربية، حدثاً فلكياً نادراً ومثيراً…