أكاديمية البحث العلمي

عيد العلم المصري: من “ريشة جحوتي” المقدسة إلى منارات العلم الحديث

في الحادي والعشرين من ديسمبر، لا تحتفل مصر بمجرد مناسبة عابرة، بل تستحضر روح هويتها الحقيقية. إنه “عيد العلم المصري“، اليوم الذي يُمثل حلقة وصل متينة بين جذور المعرفة الضاربة في عمق التاريخ، وبين ثمارها التي نعيشها اليوم. إن اختيار يوم 21 ديسمبر للاحتفال بعيد العلم ليس مصادفة، بل هو ربط ذكي بين “جحوتي” القديم و”التنويـر” الحديث.

يوافق هذا التاريخ ذكرى افتتاح الجامعة المصرية (جامعة القاهرة حالياً) في عام 1908. ويحتفي هذا التقرير العلمي بـ “عيد العلم المصري” الموافق 21 ديسمبر، مستنداً إلى تحليل أثري لنقش المعبود “جحوتي” على عرش الملك رمسيس الثاني بالأقصر.

يمثل جحوتي، برأس طائر أبي منجل، الرمز الأقدم للحكمة، والطب، والفلك، والتدوين. كما يسلط الضوء على مدينة “الأشمونين” بالمنيا كمركز إشعاع علمي قديم. ويربط التقرير بين هذه الجذور التاريخية وبين الحدث الحديث المتمثل في تأسيس الجامعة المصرية عام 1908، ليؤكد أن العلم والمعرفة هما الركيزة الأساسية التي استندت عليها الحضارة المصرية في الماضي، وتستند عليها الدولة الحديثة في الحاضر.

الصورة التي تتصدر المشهد اليوم ليست مجرد تحفة فنية، بل هي وثيقة تاريخية دامغة. إنها تُظهر المعبود المصري جحوتي، سيد الحكمة والكلمة المقدسة، وهو يخط بيده دستور الحضارة. إن اختيار هذا الرمز، وتحديداً في هذا التاريخ، يؤكد حقيقة راسخة: مصر هي صاحبة إحدى أقدم الحضارات التي جعلت من “العلم” ركيزة أساسية للبناء والخلود، قبل أن يعرف العالم معنى الجامعات أو الأكاديميات بآلاف السنين.

رحلة في عقل الحضارة المصرية

في العقيدة المصرية القديمة، لم يكن العلم نشاطاً بشرياً بحتاً، بل كان فعلاً إلهياً مقدساً.

رمزية الاسم:جحوتي” (أو تحوت كما سماه الإغريق) هو “رب القلم” و”سيد الكتبة”. ارتبط اسمه بالقمر، الذي كان التقويم المصري والزراعة والطب يعتمدون على منازله ودوراته. لذا، كان جحوتي هو المسؤول عن حساب الزمن وتنظيم الفصول، وهو ما يوازي اليوم “علم الفلك” و”الرياضيات”.

الطب والعالم الآخر: لم يقتصر دوره على الكتابة، بل كان الطب جزءاً من حكمته، حيث ارتبطت التعاويذ العلاجية والنصوص الطبية بقدرته على الشفاء. كما كان له دور محوري في “محكمة الموتى” في العالم الآخر، حيث يقوم بتدوين نتيجة وزن قلب المتوفى، مما يرمز إلى أن “العدالة” (الماعت) تعتمد على “الدقة والتسجيل”، وهما من أهم صفات المنهج العلمي.

دلالات الصورة: لماذا “أبو منجل”؟

النقص البارز الذي بين أيدينا، والموجود على ظهر عرش تمثال الملك رمسيس الثاني بمعبد الأقصر، يحمل دلالات بصرية عميقة:

رأس الإيبس (Ibis): صُوِّر جحوتي في هيئة بشرية برأس طائر “أبو منجل”. هذا الطائر كان مقدساً لدى المصريين لدقته المتناهية في البحث عن طعامه بمنقاره الطويل المعقوف داخل طمي النيل، منقباً عن الحبة الصالحة. هذه هي بالضبط صفة “العالم والباحث”: الذي ينقب بصبر ودقة لاستخراج “الحقيقة” (المعرفة) من وسط “الغموض” (الطمي).

Related Post

أدوات الكاتب: يظهر وهو يحمل “لوحة الكتابة” و”الريشة” (قلم البوص)، في وضعية التأهب للتدوين. هذه الإشارة تؤكد أن الحضارة المصرية لم تكن حضارة شفهية، بل حضارة “تدوين وتوثيق”. ما لا يُكتب، لا يُحفظ.

الأشمونين”: أول مدينة جامعية في التاريخ

يشير النص التاريخي إلى أن مركز عبادة جحوتي الرئيسي كان في مدينة هيرموبوليس (مدينة هرمس كما سماها اليونانيون مساواة لإلههم هرمس بجحوتي)، والتي تقع حالياً بالقرب من الأشمونين بمحافظة المنيا.

الأهمية العلمية: لم تكن الأشمونين مجرد مكان للعبادة، بل كانت مركزاً للاهوت والكونيات (Cosmology). ففيها نشأت نظرية “الخلق الثامون” (Ogdoad)، وهي محاولة فلسفية علمية مبكرة لتفسير نشأة الكون من عناصر الطبيعة الأولية. يمكن اعتبار معابد الأشمونين بمثابة “الجامعة الأولى” التي قصدها الفلاسفة والطلاب من العالم القديم لتعلم الفلك والسحر (الكيمياء القديمة).

الربط المعاصر: لماذا 21 ديسمبر؟

إن اختيار يوم 21 ديسمبر للاحتفال بعيد العلم ليس مصادفة، بل هو ربط ذكي بين “جحوتي” القديم و”التنويـر” الحديث. يوافق هذا التاريخ ذكرى افتتاح الجامعة المصرية (جامعة القاهرة حالياً) في عام 1908.

في ذلك اليوم، استعاد المصريون زمام المبادرة العلمية، مؤسسين أول جامعة أهلية حديثة تضاهي جامعات أوروبا. وكأن أحفاد “رمسيس الثاني” و”جحوتي” قرروا أن يعيدوا إحياء “بيت الحياة” (Per-Ankh) في صورة صرح أكاديمي حديث، مؤكدين أن العلم هو المكون الجيني الذي لا يموت في الشخصية المصرية.

دعوة لاستكمال المسيرة

إن وقوفنا اليوم أمام نقش “جحوتي” يفرض علينا مسؤولية أخلاقية وعلمية. فالمصري القديم الذي قدّس القلم واعتبر الحبر دماء الحضارة، لم يترك لنا مجرد آثار حجرية، بل ترك لنا “منهج حياة”. في عيد العلم، الرسالة واضحة: الحضارات لا تُبنى بالأمنيات، بل تُبنى في المعامل، وقاعات المحاضرات، وبين صفحات الكتب. علينا أن نستلهم من “دقة أبي منجل” شغف البحث، ومن “ريشة الكاتب” أمانة التدوين، لنضمن لمصر مكاناً دائماً في صدارة الأمم، كما كانت منذ فجر التاريخ.

Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 5]
طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.

Share
Published by
طارق قابيل

Recent Posts

بعد صمت دام 1.5 مليون عام: أحفورة “غونا” تكشف الحلقة المفقودة في قصة التطور

أحجية ثلاثية الأبعاد: علماء يعيدون تركيب وجه إنسان ما قبل التاريخ ويكتشفون مفاجأة تقنية مذهلة.…

3 أيام ago

الكونغرس يفتح “الصندوق الأسود”: تحقيق رسمي في استخدام البنتاغون للقراد كسلاح بيولوجي سري

في سابقة تشريعية وتاريخية، وبعد عقود طويلة من التكتم، والاتهامات المتبادلة بين نظريات المؤامرة والتفسيرات…

4 أيام ago

قفزة نوعية نحو “توطين” علوم الفضاء:مختبر مصري عائم في الفضاء يواجه العواصف الشمسية ويحمي مناخ الأرض

قمر صناعي نانوي يرصد أسرار "الأيونوسفير" وتحمي تكنولوجيا الأرض في خطوة تاريخية تتجاوز مجرد إطلاق…

7 أيام ago

ثورة في “اقتصاد المعرفة”: مصر تعبر جسر المستقبل من الأبحاث الأكاديمية إلى الابتكار الصناعي

بقلم: د. طارق قابيل العاصمة الإدارية الجديدة – لم يكن المشهد في العاصمة الإدارية الجديدة…

أسبوع واحد ago

عبقري مصري يضيء سماء الابتكار الأمريكي: ماهر القاضي من كلية العلوم جامعة القاهرة إلى الأكاديمية الوطنية للمخترعين

البروفيسور ماهر القاضي يمثل الابتكار وقود الحضارات ورافعة التقدم الإنساني، ويسجل التاريخ بمداد من ذهب…

أسبوع واحد ago

تسويق العقول” و”الدبلوماسية العلمية”.. مصر تستضيف قمة “عقول العالم” (IAP) لربط العلم بالسياسة لأول مرة

لأول مرة في دولة عربية.. مصر تجمع 150 أكاديمية عالمية لربط "العلم بالسياسة" وتطلق معرض…

أسبوعين ago