Ad

في ظل تسارع وتيرة التغيرات المناخية التي تعصف بكوكبنا الأزرق، لم يعد دور المؤسسات الأكاديمية قاصراً على نشر الأبحاث النظرية في الدوريات العلمية فحسب، بل أضحى لزاماً عليها أن تكون هي “بيت الخبرة” و”قاطرة التغيير” التي تقود المجتمع نحو بر الأمان البيئي. إننا نعيش اليوم في عصر لا صوت فيه يعلو فوق صوت “الاستدامة”، ولا لغة أدق من لغة الأرقام التي تحصي أنفاسنا الكربونية.

ومن هذا المنطلق، ومن قلب “قبة القاهرة” التاريخية، انطلقت يوم الثلاثاء الماضي الموافق 16 ديسمبر 2025، دعوة علمية جادة من كلية العلوم بجامعة القاهرة، لفك طلاسم مصطلح يتردد كثيراً ولكن يغيب فهمه الدقيق عن الكثيرين: “البصمة الكربونية” (Carbon Footprint). لم تكن مجرد محاضرة عابرة، بل كانت، في تقديري، بمثابة “بيان عملي” يعلن انخراط الجامعة العريقة في معركة المناخ، متسلحة بالعلم والمعايير الدولية.

في هذا التقرير العلمي المفصل لموقع “بيئة أبوظبي”، نستعرض وقائع هذا الحدث الهام، ونغوص في العمق العلمي للمفاهيم التي طُرحت، لنضع بين يدي القارئ العربي دليلاً معرفياً مبسطاً حول كيفية قياس أثرنا على هذا الكوكب.

تفاصيل الحدث.. العلم في خدمة البيئة

شهدت قاعات كلية العلوم العريقة زخماً أكاديمياً متميزاً، حيث نُظمت المحاضرة بالتعاون المثمر مع الجمعية المصرية للكيمياء التحليلية، وبرعاية كريمة من الأستاذة الدكتورة سهير فهمي رمضان، عميد الكلية، التي أكدت أن الكلية تضع “الملف الأخضر” على رأس أولوياتها الاستراتيجية.

تميز الحدث بحضور نوعي جمع بين القيادة والإدارة والبحث العلمي، بمشاركة الدكتورة عبير محسن سالم، مدير المكتب الأخضر (Green Office) بالكلية، والدكتورة رشا النشار، مدير مركز الحد من المخاطر والدراسات والبحوث البيئية، ولفيف من علماء المستقبل وطلبة الدراسات العليا.

تشريح المفهوم.. ماذا نعني علمياً بـ “البصمة الكربونية”؟

خلال المحاضرة، تم تأصيل المفهوم علمياً بعيداً عن السطحية الإعلامية. فالبصمة الكربونية ليست مجرد “دخان مصانع”، بل هي مؤشر بيئي دقيق يعبر عن إجمالي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري (Greenhouse Gases – GHGs) الناتجة عن نشاط معين، سواء كان فرداً، أو منتجاً، أو مؤسسة تعليمية.

ولعل النقطة الجوهرية التي تم تسليط الضوء عليها هي استخدام وحدة القياس المعيارية المعروفة بـ “مكافئ ثاني أكسيد الكربون”.

لماذا هذه الوحدة؟ لأنه ببساطة، ليست كل الغازات متساوية في ضررها. فعلى سبيل المثال، غاز الميثان ($CH_4$) يمتلك قدرة على حبس الحرارة (Global Warming Potential) تفوق ثاني أكسيد الكربون بمرات عديدة. لذا، يقوم العلماء بتحويل أثر كافة الغازات إلى ما يعادلها من $CO_2$ لتوحيد لغة القياس.

منهجيات القياس.. كيف تحسب الجامعة “أنفاسها”؟

انتقلت المحاضرة من النظرية إلى التطبيق، مستعرضة المنهجيات العلمية المعتمدة عالمياً (مثل بروتوكول الغازات الدفيئة – GHG Protocol) والذي يقسم الانبعاثات إلى ثلاثة نطاقات رئيسية (Scopes) :

  1. النطاق الأول (Direct Emissions): الانبعاثات المباشرة من المصادر التي تمتلكها الكلية (مثل استخدام الوقود في المعامل البحثية).
  2. النطاق الثاني (Indirect Energy Emissions): الانبعاثات المرتبطة باستهلاك الكهرباء والطاقة المشتراة لتشغيل المدرجات والمختبرات.
  3. النطاق الثالث (Other Indirect Emissions): وهو التحدي الأكبر، ويشمل انبعاثات سلاسل الإمداد، تنقلات الطلاب والموظفين، وإدارة النفايات.

استراتيجيات الكلية.. نحو “جامعة خضراء”

في كلمتها الملهمة، أوضحت أ.د. سهير فهمي رمضان أن الهدف ليس القياس للقياس، بل “القياس للإدارة”. فالبيانات التي ستنتج عن رصد البصمة الكربونية ستكون حجر الزاوية لاتخاذ قرارات واعية، مثل:

  • التحول نحو مصادر طاقة أنظف داخل الحرم الجامعي.
  • تطبيق مفاهيم “الكيمياء الخضراء” (Green Chemistry) في المعامل لتقليل المخلفات الخطرة.
  • تعزيز الثقافة الرقمية لتقليل استهلاك الورق والأحبار.

وأكدت الدكتورة عبير محسن سالم أن “المكتب الأخضر” بالكلية يعمل كدينامو محرك لدمج هذه المفاهيم في الحياة اليومية للطالب، ليصبح خريج “علوم القاهرة” سفيراً للبيئة أينما حل.

الأبعاد الاستراتيجية: مصر 2030 وما بعدها

لم تكن الفعالية بمعزل عن السياق الوطني والإقليمي. فقد تم ربط مخرجات المحاضرة بشكل مباشر مع رؤية مصر 2030 والاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ.

إن الجامعات المصرية، وفي مقدمتها جامعة القاهرة، تلعب دوراً محورياً في دعم الدولة لتحقيق التزاماتها الدولية (Nationally Determined Contributions – NDCs). فعندما تنجح كلية العلوم في خفض بصمتها الكربونية، فهي تقدم نموذجاً قابلاً للتكرار (Scalable Model) في كافة المؤسسات الحكومية، مما يساهم في النهاية في تحسين جودة الهواء، والحفاظ على الموارد، والحد من المخاطر البيئية.

وقد اختتمت الفعالية بنقاشات طلابية واعدة، عكست وعياً متنامياً لدى جيل المستقبل بضرورة التحرك الآن لإنقاذ الغد.

دعوة للتفاؤل والعمل

في الختام، لا يسعنا إلا أن نثمن هذه الخطوة المباركة من “قلعة العلوم” في مصر. إن الحديث عن البصمة الكربونية لم يعد ترفاً فكرياً، بل هو لغة العصر التي يجب أن نتقنها جميعاً.

إن الطريق نحو “الحياد الكربوني” (Carbon Neutrality) يبدأ بخطوة، وها هي علوم القاهرة تضع قدمها بثبات على أول الطريق. رسالتنا اليوم للقارئ العربي ولشبابنا الباحثين: “البيئة ليست إرثاً ورثناه عن آبائنا، بل هي دين استلفناه من أبنائنا”. فلنعمل سوياً، بالعلم والوعي، لنسدد هذا الدين، ونحافظ على كوكبنا صالحاً للحياة.

طارق قابيل
Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 3.7]

سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.


أكاديمية البحث العلمي

User Avatar

د. طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.


عدد مقالات الكاتب : 113
الملف الشخصي للكاتب :

التالي

مقالات مقترحة

التعليقات :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *