محتويات المقال :
عدم الإنجاب الطوعي واللا إنجابية والفرق بينهما
يعد عدم الإنجاب الطوعي (voluntary childlessness) من المواضيع المثيرة للجدل في علم النفس وعلم الاجتماع والدراسات المتعلقة بالأسرة. وتكمن حساسية هذا الموضوع من النظرة السائدة في كثير من المجتمعات حول فكرة إنجاب الأطفال، حيث يعتبر هذا الأمر تتويجاً للعلاقة بين الرجل والمرأة. كما يمثل رمزاً للحب غير المشروط والتضحية اللذين يقدمهما الوالدان لأبنائهما كما حصلا عليهما من والديهما سابقاً.
أهمية الإنجاب عبر الزمن والوصمة المرتبطة بالعقم
ترجع المواقف السلبية تجاه عدم إنجاب الأطفال إلى حضارات إنسانية قديمة كالإغريق والرومان وأهل ما بين النهرين وغيرهم. وعادة ما كان ينظر إلى المرأة العاقر على أنها مسحورة أو ممسوسة من الشياطين، أو حلت عليها لعنة من نوع ما حرمتها من نعمة الأطفال. بالمقابل، لا يعتبر الرجل الطرف الملام في حالة العقم، وكان من الشائع لدى الكثير من الشعوب أن تقدم المرأة العاقر لزوجها إحدى الجواري أو الخادمات كي ينجب منها أطفالاً [1].
ويعد وجود آلهة للخصوبة لدى الكثير من الشعوب – إن لم يكن لديها جميعها – دليلاً قاطعاً على مدى اهتمامهم بهذه الفكرة، وحرصهم على تقديم الصلوات والقرابين للآلهة كي تذهب عنهم “لعنة” العقم. مثلاً، يذكر التاريخ أنه عند شعب ليتوانيا القديم، كانت المرأة العاقر تقدم لإلهة الخصوبة دجاجة بيضاء كذبيحة في سبيل أن تحمل وتلد. وحتى بعد انتشار الديانة المسيحية، كانت النسوة يلجأن إلى تكريس القداديس والصلوات كي ينعم عليهن الله بنعمة الإنجاب [1].
كما أن بعض القوانين القديمة تدخلت في حل مشكلة العقم، ونجد هذا لدى الباليين والآشوريين والمصريين مثلاً. فقد نصت بعض من قوانين هذه الحضارات على حق الرجل في طلاق زوجته إذا كانت عاقراً. كما ورد في شريعة حمورابي (1750 ق.م.) أنه على المرأة العاقر أن تقدم لزوجها إحدى خادماتها كي ينجب منها أطفالاً. وعندما يتم ذلك، تقوم الزوجة على رعاية الأطفال وتربيتهم كأنها أمهم، في حين تُعتق الخادمة مقابل هذه الخدمة التي قدمتها لسيدها [1].
حتى في العصر الحديث، لا يزال عدم الإنجاب من المسائل الإشكالية التي قد تؤرق الزوجين وتهز صورتهما الاجتماعية. ونرى بدائل عديدة عن الإنجاب الطبيعي قد يلجأ لها الزوجان اللذان منعتهما مشاكل صحية من هذا. فهناك من يقوم بالتبني، أو استخدام رحم بديل، وهناك من يلجأ إلى التلقيح الاصطناعي الذي يكون إما من الزوجين نفسهما أو من متبرعين [1].
تطور مفهوم عدم الإنجاب والانتقال إلى حالة عدم الإنجاب الطوعي
قد يكون عدم الإنجاب حالة مرضية ناتجة عن مشاكل صحية لدى المرأة أو الرجل. وكما ذكرنا في الفقرة السابقة، كانت تقدم القرابين والأضاحي للتخلص من هذا المرض أو اللعنة. في هذه الحالة يكون عدم الإنجاب إجبارياً ومفروضاً نتيجة ظروف معينة. ولكن ماذا إن لم يكن ناتجاً عن العقم؟ ماذا إن لم يكن هنالك عقم أصلاً؟
في الواقع، توجد حالة سائدة بين بعض الأشخاص يكون فيها عدم الإنجاب طوعياً أو اختيارياً. ومع أن دراسة هذه الفئة الديموغرافية لا تزال محدودة بعض الشيء، بدأ الاهتمام بها يتزايد، خصوصاً مع اتساع المجال لظهورها والتعريف بها، بل وتقديم الدعم لها، عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعن طريق الإنترنت عموماً [2].
وقد وجدت إحصائيات في عدد من الدول المتقدمة أن نسبة حالة عدم الإنجاب هي في تزايد، ولكن يصعب التمييز في هذه الفئة من السكان بين الحالات الطوعية وتلك الإجبارية. بالمجمل، ورد في دراسة نشرت في مجلة (دراسات في مجال الأمومة – Studies in the Maternal) أن نسبة هذه الفئة من السكان تتراوح بين 15 و25 بالمئة في عدد من الدول المتقدمة. ومع تزايد الميل في هذا التوجه، بات الاهتمام الأكاديمي يتسع لتحليل البيانات المتعلقة بعدم الإنجاب الطوعي من جوانب اجتماعية ونفسية وطبية وشخصية وتاريخية، وحتى نسوية. ويتركز البحث هنا في نسبة السكان عديمي الأطفال، والأسباب الكامنة وراء هذه الحالة، إضافة إلى النتائج المترتبة عليها على الأصعدة الاجتماعية والنفسية [2].
الأسباب الكامنة وراء عدم الإنجاب الطوعي
حاولت بعض الدراسات الاستقصائية البحث في دوافع البالغين الذين لا يودون الإنجاب. وقد تعددت النتائج التي انتهوا لها، ويمكن تلخيصها كما يلي.
تمثل الرغبة بالحرية من تحمل مسؤولية الأطفال أحد أكثر الأسباب شيوعاً ويشترك فيها كل من الرجال والنساء. فهناك من يولي كثيراً من الاهتمام للسفر والتنقل دون روابط أو قيود، ويرى في وجود الأطفال حائلاً دون التمتع بهذه الحرية [2، 3].
ويفسر البعض عدم رغبتهم بأن يصبحوا آباءً بأنهم لا يرتاحون في التعامل مع الأطفال. ومع أن أصحاب هذا التفكير من الرجال هم أكثر من النساء، صرحت بعض النساء بشكل واضح أنهن لا يحببن الأطفال. من جهة أخرى، تميل النسبة لصالح النساء عند الحديث عن الأسباب المتعلقة بالتقدم المهني والتطور الشخصي. إذ ترى العديد من الشابات أن إنجاب الأطفال قد يكون سبباً في توقف حياتهن المهنية وعائقاً أمام إنجازاتهن. لذا يفضلن عدم الإنجاب والمضي قدماً في مسيرة التطوير الذاتي [2، 3].
ولدى التفكير بحياة الشريكين معاً، يرى بعض الأزواج أن عدم إنجاب الأطفال يبشر بعلاقة أكثر سعادة وراحة. كما يمكن لهذا أن يؤمن لهما راحة مادية ويوفر الكثير من المصاريف، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على حياتهما المشتركة [2، 3].
ويعزو البعض هذا الخيار إلى مشاكل نفسية كانوا قد عانوا منها في صغرهم. ويتمثل ذلك في تجارب سلبية مع الأهل، مما أثر على صاحب العلاقة وجعله غير قادر على تربية الأطفال بالطريقة الصحيحة التي لم يكن قد حظي بها أصلاً. أو قد يكون نتيجة تجارب اجتماعية غير ناجحة، ولّدت لدى الأشخاص البالغين شكوكاً حول مقدرتهم على أن يصبحوا آباءً [2، 3].
ثم توجد أسبابٌ أكبر من الأفراد المعنيين قد تلعب دوراً في قرارهم بعدم الإنجاب. حيث وجدت بعض الاستقصاءات أن هنالك من الأزواج من يبدي قلقاً حول موضوع التضخم السكاني. وهذا يدفعهم إلى عدم المشاركة في تفاقم هذه المشكلة. أو قد يكون السبب هو القلق من الظروف السيئة على مستوى العالم عموماً، والخوف من توريط الأطفال في الحياة على كوكب يعج بالمشاكل [2، 3].
الفرق بين عدم الإنجاب الطوعي واللا إنجابية
إذاً، يمثل عدم الإنجاب الطوعي نمط حياة يتبناه المرء بكامل إرادته، بناءً على أسباب متعددة.
ولكن يوجد توجه فلسفي يشرح سبب هذا النمط، أو على وجه الدقة، ينادي به ويدعمه. يسمى هذا المنحى “اللا إنجابية – anti-natalism”، وهو موقف فلسفي يصنف عملية الإنجاب على أنها خاطئة أخلاقياً، وعليه لا ينبغي للبشر أن يتكاثروا. كما يعمم بعض أنصار اللا إنجابية نظرتهم السلبية للإنجاب حتى على الأجناس غير البشرية [4].
تتعدد الأسباب وراء هذا الموقف السلبي من التكاثر، لكن تتفق جميعها على نظرتها السوداوية حيال استمرار الجنس البشري على الأرض. فمثلاً، يرى معظم أنصار اللا إنجابية أن انقراض البشر هو أمر محتوم، وأنه من الأفضل للبشرية أن تنقرض بأسرع وقت ممكن. كما ينطلق هؤلاء من فكرة أن الموت هو أمر محزن ولا مفر منه، فالمرء يحزن لدى فقد محبيه. لكن الطريقة الأمثل لوقف موت البشر هي ببساطة عدم إنجابهم. إضافة لهذا، يرى اللا إنجابيون أن الحياة البشرية هي حياة معاناة وتعاسة، ومن أضمن الطرق للقضاء على العذاب في الحياة هي ألّا نعمل على استمرارها بمزيد من الأفراد البشريين [4].
كما توجد بعض التساؤلات حول أخلاقية فعل الإنجاب فيما يتعلق بموافقة الطرفين المعنيين؛ أي الأهل والأطفال. فعندما يختار البالغون إنجاب الأطفال، يقومون بالحكم على مصير شخص آخر لا يد له في هذا القرار؛ أي الطفل. ويطرح الكثير من الأطفال، أو حتى البالغين، هذا السؤال على والديهم: “لماذا أنجبتموني؟ أنا لم أطلب أن أولد!” وهذا أمر صحيح فعلاً، ويتمسك به مناصرو اللا إنجابية كذريعة لانتقاد عملية الإنجاب بالمبدأ [4].
ردود الفعل تجاه عدم الإنجاب الطوعي
الردود الإيجابية
وضحت إحدى الدراسات ردود أفعال مختلفة تجاه موقف بعض البالغين بعدم إنجاب الأطفال. وقد تباين ذلك بين مواقف داعمة للفكرة وأخرى رافضة لها. حيث كان أغلب الداعمين من فئة الشباب الذين يظهرون فهماً لهذا الموقف الذي قد يختاره أقرانهم. بالمقابل، أظهر بعض الكبار في السن، وخاصة من أفراد عائلة الأشخاص المعنيين، مشاعر حزن أو قلق حيال هذا الخيار. فهو لا يتناسب مع العقلية والمبادئ التي تربوا عليها [2، 3].
أما عن رأي الشريك، فقد أظهرت المقابلات التي أجرتها هذه الدراسة أن عدم الرغبة بالإنجاب كانت في بعض الحالات سبباً بارتباط الشريكين. وفي حالات أخرى، كانت هذه الرغبة شرطاً للارتباط ولم تكن لتنجح العلاقة لولا تحققه [2، 3].
كما وجد باحثون في دراسة أخرى ارتفاع نسبة الرضا في العلاقة التي لا إنجاب فيها، وانخفاض نسبة الطلاق بين الأزواج ممن لم ينجبوا مقابل الأزواج الذين لديهم أطفال دون سن الـ 16 عاماً. ولدى المقارنة بين أزواج كبار في السن، تبين أن التوتر الذي يعانيه الآباء هو أكبر من الموجود لدى غير الآباء. أي يتميز نمط الحياة الذي يكون فيه عدم الإنجاب اختيارياً بانعكاسات إيجابية على الحياة المشتركة للطرفين [3].
الردود السلبية
بالمقابل، لا تخلو النتائج وردود الفعل من مظاهر سلبية. فقد صرح بعض الأزواج أنه رغم تلقيهم للدعم من عائلاتهم وأصدقائهم، واجهوا تعليقات وانتقادات من أشخاص غرباء كلياً أو تربطهم علاقة سطحية. ويميل توجيه الانتقاد أو التساؤلات عن عدم الإنجاب إلى النساء أكثر من الرجال. بل على العكس، صرح بعض الرجال الذين لم ينجبوا أنهم يلقون مديحاً من أقرانهم. حيث ينظر إليهم أنهم يعيشون حياة تتسم بالحرية وعدم الالتزام. وهذا ما يثبت أن النظرة القديمة التي تربط كينونة المرأة بالإنجاب لا تزال موجودة ولو على بشكل أقل انتشاراً. وترى النساء في هذا ظلماً وانتهاكاً لخصوصيتهن [، 3].
أما على الصعيد الصحي، فقد وجدت بعض الدراسات ارتفاع نسبة الوفيات بسرطان الثدي لدى النساء اللواتي لم يسبق لهن الإنجاب. ومع الأسف، تؤكد أبحاث طبية ارتفاع احتمال الإصابة بسرطان الثدي بالتزامن حالة عدم الإنجاب أو التأخر بذلك لما بعد سن الثلاثين. وتستخدم هذه الحجة من قبل المجتمع في إقناع النساء بالإنجاب، إضافة إلى تسليط الضوء على أهمية وجود الأبناء لتقديم المساعدة لوالديهم في شيخوختهم. وهذا يؤكد وجود بقايا العقليات القديمة التي تصم عدم الإنجاب على أنه فعل سلبي، خاصة عندما يتعلق بالمرأة [3].
اقرأ أيضاً: هل سيتمكن الأطفال من النمو في الرحم الاصطناعي؟
المصادر
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :