ببالغ الحزن والأسى، ودعت الأوساط الأكاديمية والعلمية في مصر والعالم العربي قامة من قامات الوراثة ونشر الثقافة العلمية، هو الأستاذ الدكتور أحمد شوقي، أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة الزقازيق. لم يكن الدكتور شوقي مجرد أستاذ جامعي يلقي المحاضرات، بل كان مُكرّسًا حقيقيًا للعلم، وهب حياته وماله الخاص لإثراء المكتبة العربية بمحتوى علمي دقيق وميسر، في زمن يندر فيه الاهتمام بالعلم الجاد. إن رحيل أمثال هؤلاء العظماء بصمت هو بمثابة خسارة وطنية وإنسانية تُسائلنا جميعًا عن أولوياتنا الثقافية والإعلامية التي غالبًا ما تضع “باعة الوهم” في الصدارة وتغفل عن صُنَّاع الوعي الحقيقيين.
لا ريب أن الفقد أليم، ويزداد هذا الألم مرارةً حين يغادرنا أحد صُنَّاع الوعي في صمت شبه تام، وكأن جهود العمر وتراكمات الإخلاص لم تكن كافية لكي يتردد صدى الرحيل. إننا اليوم في رثاء الأستاذ الدكتور أحمد شوقي حسن، أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة الزقازيق. لم يكن رحيل الدكتور شوقي مجرد فقد لأكاديمي، بل كان خسارة وطنية وثقافية عميقة تُثير تساؤلاً جوهرياً ومُلحاً حول المعايير التي نحتكم إليها في تقدير القامات في مجتمعاتنا العربية.
كيف يمكن لعالم جليل، أسس مدرسة علمية، وكرّمته الدولة بمنحه جائزة الدولة التشجيعية، ووهب ماله وجهده لإثراء المكتبة العربية، أن يغادر الحياة دون التكريم الإعلامي الذي يليق بإسهاماته؟ إن هذه المفارقة المؤسفة هي ما يُلخص بدقة أزمة الأولويات التي نعيشها، حيث يُلقى الضوء الساطع على باعة الوهم وأصحاب المحتوى الترفيهي، بينما يُترك العالم الحقيقي، الذي وصفه عارفوه بأنه “عاشقاً للعلم بروح التصوف، متصالح، خفيض الصوت، وشريف الخصومة“، في ظلال النسيان.
يهدف هذا المقال إلى تكريم الدكتور أحمد شوقي، وإلقاء الضوء على مسيرة هذا العالم الجليل وعلى إرثه العلمي والتربوي، والتعريف بمشروعه الرائد “كراسات علمية“، واستخدام قصته كمنطلق لدعوة شاملة لإعادة الاعتبار للعلم والعلماء في المشهد الثقافي والإعلامي العربي، ودعوة لإنصافه وتكريمه بما يليق بجهوده العظيمة في نشر الثقافة العلمية في العالم العربي.
المسيرة الأكاديمية: من الزقازيق إلى مدرسة لينينغراد العميقة
نشأ الدكتور أحمد شوقي كأحد أبرز علماء الوراثة، وهو التخصص الذي يُعد حجر الزاوية لفهم الحياة وتطورها، بدءًا من الأمراض وصولاً إلى تحسين المحاصيل الزراعية. وتميزت مسيرة الدكتور أحمد شوقي بالعمق والتخصص الذي لا يقبل الحلول الوسط. ففي تخصص علم الوراثة، الذي يُعد حجر الزاوية لفهم أسرار الحياة والتنوع البيولوجي، لم يكتفِ الفقيد بالدراسة المحلية، بل سعى للمعرفة في أصولها.
كان سفره إلى مدينة لينينغراد، التي تُعرف حالياً باسم سان بطرسبرغ في الاتحاد السوفيتي سابقاً (روسيا حالياً)، لتلقي دراساته المتخصصة في الوراثة الميكروبية، علامة فارقة في مسيرته. فقد عُرفت المدارس العلمية السوفيتية بعمقها النظري والتطبيقي، وخصوصاً في مجالات العلوم الأساسية. وتميزت مسيرته الأكاديمية بالعمق والتخصص، حيث قام بدراسة أصول علم الوراثة في مدينة سان بطرسبرغ الروسية العريقة، والتي تُعرف بتاريخها الطويل في العلوم والابتكار. هذا التكوين الأكاديمي المزدوج، بين البيئة المصرية الأصيلة والمدرسة الروسية المتعمقة، أثرى رؤيته ومنهجه التعليمي، ومكَّنه من العودة حاملاً معه منهجية علمية صارمة، ليشارك في تأسيس قسم الوراثة بكلية الزراعة جامعة الزقازيق، ويصبح أحد القامات المؤسسة التي طورت برنامج الوراثة، مؤثراً في أجيال من الباحثين والطلاب.
الوراثة : هو علم دراسة الجينات (Genes) والتنوع الوراثي في الكائنات الحية، وهو من أهم العلوم الأساسية التي يقوم عليها التطور والزراعة والطب الحديث.
التقدير الرسمي الغائب إعلامياً:
إن حصوله على جائزة الدولة التشجيعية هو اعتراف رسمي من الدولة بمكانته وبجودة إسهاماته العلمية. وتُمنح هذه الجائزة لأفضل الأبحاث والمؤلفات التي تُقدم قيمة علمية وتطبيقية حقيقية. إن التعتيم الإعلامي الذي صاحب رحيله، رغم هذا التكريم الرسمي، يضعنا أمام سؤال قاسٍ: هل فقدت جوائز الدولة الكبرى قيمتها الاعتبارية والإعلامية أمام سيل المحتوى السطحي؟ يجب أن يكون أي حامل لجائزة الدولة التشجيعية أو التقديرية هو موضوع احتفاء إعلامي دائم، وليس مُجرد خبر عابر يُنسى.
“كراسات علمية”: مشروع رائد بتمويل ذاتي.. حكاية الإخلاص للعلم
إن الإنجاز الأبرز الذي يُخلِّد ذكرى الدكتور أحمد شوقي هو مشروعه الثقافي الرائد “كراسات علمية“، الذي صدر عن المكتبة الأكاديمية. هذا المشروع لم يكن مجرد سلسلة من الكتب، بل كان بيانًا عمليًا على إخلاصه اللامحدود لنشر الثقافة العلمية.
كان الهدف الأسمى للكراسات هو مقاومة الأمّية العلمية وردم الفجوة المعرفية بين ما ينتجه الغرب وما يصل إلى القارئ العربي. لقد كان الدكتور شوقي يدرك أن التعقيد في المصطلحات (Terminology) هو حاجز بين العلم والجمهور. لذا، اعتمدت الكراسات على منهجية فريدة:
تهدف “كراسات علمية” إلى تقديم مفاهيم علمية متخصصة ومحدثة في مجالات متنوعة (كالوراثة، والتكنولوجيا الحيوية، والبيئة، والعلوم الزراعية وغيرها) بلغة عربية سهلة ومبسطة، لتكون في متناول الطالب الجامعي والباحث والقارئ العادي متوسط الثقافة.
يُعد مشروع “كراسات علمية“، الصادر عن المكتبة الأكاديمية، الشهادة الحقيقية على إخلاص الدكتور أحمد شوقي. هذا المشروع لم يكن وليد دعم مؤسسي أو تمويل ضخم، بل كان نابعاً من إيمان عميق بضرورة نشر العلم، وصل إلى حد التضحية بالمال الخاص. وما يجعل هذا المشروع استثنائيًا هو أن الدكتور شوقي وهب حياته لنشره وكان يصرف عليه من ماله الخاص، وهي تضحية نادرة في زمننا، تؤكد على أن رسالة العلم لديه كانت أسمى من أي مكسب مادي. كان يؤمن بأن نشر المعرفة هو “عبادة“، وهذه الروح التصوفية في التعامل مع العلم هي ما ميَّزه عن غيره.
اعتمدت الكراسات على أحدث المعلومات العلمية من مصادر متخصصة عالمية، مع الالتزام بالدقة والأمانة العلمية.
التبسيط المنهجي
تقديم العلوم المعقدة، مثل الهندسة الوراثية (Genetic Engineering) والبيولوجيا الجزيئية (Molecular Biology)، بلغة عربية فصيحة، مع استخدام الألفاظ الشائعة لدى الجمهور العربي، وشرح الألفاظ الغريبة بين قوسين (إن دعت الحاجة).
الدقة والأمانة العلمية
الالتزام بأحدث المعلومات العلمية الموثوقة، مع الإشارة للمصادر المتخصصة، وهو ما يضمن الجودة والاحترافية.
الروح التصوفية في خدمة العلم:
إن الملمح الأكثر تأثيراً في هذا المشروع هو الروح التي قام عليها. أن “يصرف من ماله الخاص“ على مشروع ثقافي لنشر المعرفة، هو عمل يجاوز حدود الوظيفة الأكاديمية ليلامس حدود التصوف في حب العلم. هذا الفعل يضع نموذجاً للعلماء والباحثين والمثقفين: أن الإخلاص للرسالة يتقدم على البحث عن الربح والشهرة. في عصرنا الذي يُقاس فيه النجاح بالمكاسب المادية، يأتي الدكتور شوقي ليعلِّمنا أن القيمة الحقيقية تُقاس بمدى التأثير والعطاء غير المشروط.
رؤية تجديدية في الفكر العلمي: مؤلفات خالدة
لم تتوقف إسهاماته عند تبسيط العلوم القائمة، بل امتدت إلى محاولات جادة لتجديد الفكر العلمي ذاته. وهذا ما نلمسه في عناوين بعض مؤلفاته القيمة التي تركها:
علم الوراثة: نحو تعريف جديد
هذا الكتاب ليس مجرد شرح لأساسيات الوراثة، بل هو دعوة للعلماء والباحثين لإعادة النظر في المفاهيم الأساسية للتخصص، وتطوير رؤانا بما يتناسب مع التطورات الهائلة التي يشهدها هذا العلم. هذا المستوى من النقد والتجديد لا يصدر إلا عن عالم متعمق.
ثلاث قصص علمية: البيولوجيا – التطور – الوراثة
يمثل هذا العمل محاولة رائدة لربط العلوم الأساسية (كالبيولوجيا والتطور) بأسلوب قصصي موجّه لجمهور أوسع، مما يكسر الحاجز النفسي بين القارئ والمادة العلمية. وهذه الأساليب تُعد اليوم أحدث أدوات التثقيف العلمي التي تُستخدم عالمياً.
إن أعماله الأدبية والعلمية تبرهن على أن العالم الحقيقي هو من يمتلك القدرة على التخصص والتبسيط في آن واحد.
نداء لتكريم منارة العلم
إن إهمال الإعلام لتكريم العلماء أمثال الدكتور أحمد شوقي يُعد فجوة معرفية تتطلب سدّها، لذا فكل كلمة تُكتب عنه هي بمثابة أرشفة إلكترونية تضمن بقاء ذكراه ووصول مشروعه “كراسات علمية” للجيل الجديد.
لقد جسَّد الدكتور أحمد شوقي نموذج العالم الرباني، الذي يرى في نشر العلم رسالة سامية تستحق التضحية. إن تكريمه لا يعني مجرد نشر نعي؛ بل يعني الحفاظ على مشروعه الثقافي “كراسات علمية“، وضمان استمراره، وتوعية الأجيال القادمة بأن القيمة الحقيقية هي في العطاء العلمي، وليس في الشهرة الزائفة.
إن حزننا على فقد الدكتور أحمد شوقي يتشابك مع فقدان قامات أخرى من زملائه الذين خدموا الوطن بصمت وإخلاص، مثل الدكاترة أحمد مستجير، سمير حنا صادق، محمود خيال، ومصطفى فهمي.
عندما يغفل الإعلام والمجتمع عن تكريم هذه القامات، فإننا نرتكب خطأ مزدوجاً:
إجحاف في حق الراحلين: حرمانهم من التقدير الذي يستحقونه لقاء جهودهم.
تقويض لمفهوم القدوة: توجيه رسالة سلبية للشباب بأن الإخلاص والعمل الأكاديمي الرصين لن يجلب التكريم أو الشهرة، وأن العمل في صمت قد يعني النسيان. وهذا يهدد استمرارية التفوق العلمي في الأجيال القادمة.
ويجب أن تكون جامعة الزقازيق، والمؤسسات الأكاديمية الأخرى، هي الحصن الأول الذي يحافظ على ذكرى هؤلاء الرواد. إن تكريمهم ليس رفاهية، بل هو جزء أصيل من الأمن القومي المعرفي.
خارطة طريق للتكريم الفعلي وإحياء الذكرى
انطلاقاً من دورنا كأكاديميين ومثقفين، يجب أن نحول حزننا إلى عمل إيجابي يضمن خلود ذكرى الدكتور أحمد شوقي وإرثه. وأقترح خارطة طريق للتكريم الفعلي والمستدام:
تسمية قاعة رئيسية أو معمل مركزي باسمه في كلية الزراعة بجامعة الزقازيق، مع وضع نبذة عن إنجازاته ومشروع “كراسات علمية”.
إطلاق جائزة سنوية باسم “جائزة الدكتور أحمد شوقي للثقافة العلمية“ تمنح لأفضل كتاب أو مقال في تبسيط العلوم.
العمل بالتعاون بين المكتبة الأكاديمية (الناشر) والمجلس الأعلى للثقافة على إعادة طبع ونشر سلسلة “كراسات علمية“ وكتبه الرئيسية، وإتاحتها مجاناً أو بسعر رمزي للطلاب والباحثين لتصبح صدقة جارية لروحه.
أرشفة أعماله رقمياً: إنشاء صفحة إلكترونية أو موقع مخصص، بالتنسيق مع وزارة التعليم العالي، لأرشفة جميع مؤلفاته وإتاحة بعضها للتحميل لضمان وصول علمه للجميع .
دعوة نقابة الصحفيين والجمعيات العلمية المتخصصة (مثل نقابة المهن الزراعية والجمعيات العلمية في الوراثة) لإصدار نعي رسمي والاحتفاء بذكراه سنوياً.
تحويل قصته إلى محتوى إيجابي ملهم عبر المنصات الرقمية لتعزيز قيمة العمل الصامت المخلص.
العلم رسالة لا تجارة
لقد ترك الدكتور أحمد شوقي حسن، بأسلوبه الهادئ، وتفكيره المنطقي، وعطائه السخي، إرثاً لا يُقدر بثمن. لقد علَّمنا أن العلم رسالة وعبادة، وليس تجارة أو مطية للشهرة.
إن تكريم هذه القامة، والإصرار على إحياء ذكراه، هو في نهاية المطاف تكريم لمصر التي أنجبت هذا العالم. لنجعل من هذا الفقد دافعاً حقيقياً لنا لكي لا يرحل صُنَّاع الوعي أبداً في صمت، ولنُعلي من شأن العلم والعلماء فوق كل اعتبار.
رحم الله الدكتور أحمد شوقي وكل علماء أمتنا الأجلاء الذين رحلوا بصمت، وجزاهم خير الجزاء على ما قدموه للعلم والبشرية. وألهم محبيه وتلاميذه الصبر وعزاؤنا الوحيد في علمه الذي لا يزول، ومشروعه الذي سيبقى شاهداً على إخلاصه.
الحياة منظومة تتجدد ذاتياً لا آلة عشوائية! في إنجاز تاريخي هزّ أركان علم الأحياء التطوري،…
تعد مملكة أورارتو واحدة من أبرز الحضارات الحديدية في الشرق القديم، إذ نشأت في القرن…
لطالما مثلت مصر، بموقعها الاستراتيجي عند ملتقى قارات إفريقيا وآسيا وأوروبا، نقطة محورية للتفاعل البشري…
على مشارف هضبة الجيزة التاريخية، حيث تقف الأهرامات شامخةً كشاهد على عبقرية الماضي، وُلدت أيقونة…
لطالما كان أصل الإنسان ورحلاته الأولى حول العالم من أكثر الألغاز إثارةً للجدل والبحث في علم…
في عالمنا المزدحم بالأخبار والأحداث، قد ننسى أحيانًا أن أعظم الأسرار والمفاجآت تأتي من أعماق…