تحكي ثلاثة هياكل عظمية حياة العبيد الأفارقة في تاريخ المكسيك حيث دفنوا في قبر جماعي جوار مشفى سانت جوزيه المكسيكية، فتش العلماء بين ثنايا عظامهم وفي أفواههم ومادتهم الوراثية لرسم صورة كاملة وحية عنهم وعن معاناتهم.
قامت مستشفى سانت جوزيه الملكية «The Royal Hospital of Saint Joseph of the Indians»على الجانب الآخر من الكوكب منذ خمسة قرون، أمر بإقامتها إحدى ملوك الأسبان لخدمة الهنود، وهكذا قدمت خدمة متميزة لأهل المكسيك، كما شهدت تفشي الأوبئة التي أفتكت بنصف شعبها، أغلقت المشفى بابها وأخلت أجنحتها منذ ثلاثة قرون، وبقت المقبرة المجاورة وبقت جثثها، تحكي الجثث تاريخ وصول أوروبا للمكسيك وتاريخ المكسيك وأهلها، كما تحكي تاريخ الاستعباد فيها.
بدأت الحكومة المكسيكية مد خطوط مترو الأنفاق لتصل المناطق الحيوية في البلاد، والتي شملت مشفى سانت جوزيه ومقبرتها، استخرج علماء الحفريات جثث هذه المقبرة وما بقى منها لدراسة تاريخ دخول الأوروبيين وسيطرتهم على المكسيك من خلال فحص رفات الجثث وتحليلها.
لفت انتباه رودريجو باركيرا «Rodrigo Barquera» ثلاثة جثث بالتحديد مدفونة في قبر جماعي، وبدأوا دراستهم التي نشرت حديثًا هذا العام في مجلة الخلية «Cell Press»، بدأ الفريق البحثي تقصي حياة هؤلاء الثلاثة، والبحث بين ثنايا هياكلهم العظمية وربطها بمعلوماتنا التاريخية لرسم صورة كاملة وحية لثلاثة عبيد أفارقة على الجانب الآخر من الكوكب في فترة موبوءة من حياة المكسيك.
حين فارقت الروح الجثث، كان أصحابها بين العشرينات والثلاثينات من أعمارهم، ولم تكن حياتهم بالسهلة أبدًا، فأصابت طلقة نارية أحدهم وتركت رقعتها في قفصه الصدري، وآخر عانى من سوء التغذية والأنيميا حتى لتجد أن عظامه أصبحت أرفع وأخف، أما الثالث فأفصحت ساقه وعظامه عن كسور نتيجة المجهود البدني الغير المحتمل.
وجد الباحثون آثار بكتيريا وفيروسات باقية في فم وأسنان رفاقنا الثلاثة، فبعضها يفتك باللكبد وبعدها يصيب الجهاز التناسلي، يدفعنا تشابه هذه البكتيريا والفيروسات مع سلالتها الأفريقية بالظن أن رفاقنا حملوا هذه الأمرض معهم حين نُقلوا إلى المكسيك أول مرة، أو أصابتهم العدوى على السفينة التي نقلتهم.
لم يقتل رفاقنا أمراضهم ولا طلقة الرصاص ولا العمل المضني، ماذا قتلهم؟ لا نعرف، ربما يشير دفنهم في قبر جماعي في فترة شديدة الأوبئة إلى إصابتهم بأمراض عصرهم في المكسيك، ولكن لم يجد الباحثون دليلًا قاطعًا على ذلك.
أكَّد الباحثون الأصول الأفريقية لرفاقنا عن طريق تحليل مادتهم الوراثية ومقارنتها بجينات الشعوب الأفريقية، ولكنهم لم يستطيعوا تحديد وطن رفاقنا الأصلي الذي أُخرجوا منه، لعل أصولهم في ذاتها لا تثير الاستعجاب، ففي هذه الفترة نُقِل عشرات آلاف الأفارقة إلى المكسيك، فيحمل معظم المكسيكيين الآن جيناتٍ أفريقية.
قدم الباحثون لنا صورة حية لحياة ثلاثة أفراد في قبر جماعي بجوار أنقاض مشفى سانت جوزيه، صوروا لنا تعب أجسادهم والأمراض التي أغنصتهم والوطن الذي أفتقدوه ومصاعب حياتهم، رغم مرور قرون على آخر يومٍ التقطوا فيه أنفاسهم، لم تحك لنا كتب التاريخ والمؤرخون قصتهم – ربما لانعدام أهميتها بالنسبة لتاريخ الشعوب ككل وتاريخ حروبها، استطعنا نحن الآن استجواب الماضي ومعرفة أخبار،فكما حفظت هذه الجثث حياة العبيد الأفارقة في تاريخ المكسيك ، من يدري فلربما تحفظ أجسادنا أخبارنا وآلامنا قرونًا بعد موتنا فاتحة بابنا لأقوام غيرنا، لا يربطنا معهم سوا مرور الزمن.
المصادر:
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :