أكاديمية البحث العلمي

حلم “أفاتار” يصبح حقيقة: علماء صينيون يبتكرون نباتات عصارية تضيء الظلام

لم يعد مشهد الغابات المتلألئة في فيلم “أفاتار” مجرد خيال علمي بعيد المنال، بل بات واقعًا ملموسًا بفضل تقدم الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية. ومؤخرا، نجح علماء صينيون في ابتكار نباتات عصارية تتوهج في الظلام باستخدام تقنية مبتكرة تعتمد على الجسيمات النانوية المضيئة.

هذه الجسيمات تمتص الضوء وتطلقه تدريجياً، مما يسمح للنباتات بإصدار إضاءة ذاتية لمدة تصل إلى ساعتين. وعلى عكس المحاولات السابقة التي كانت تعتمد على الهندسة الوراثية، فإن هذه التقنية أثبتت كفاءة أعلى في النباتات العصارية بفضل تركيبتها الورقية الفريدة. هذا الإنجاز يمثل خطوة هائلة نحو مستقبل مستدام، حيث يمكن للنباتات أن تحل محل مصابيح الإضاءة التقليدية، مما يساهم في توفير الطاقة وحماية البيئة.

فبعد عقود من الأبحاث التي سعت لتوظيف ظاهرة “الإضاءة الحيوية” (Bioluminescence)  الموجودة في بعض الكائنات كالفطر والأسماك، تمكن العلماء من تحقيق إنجاز ثوري: ابتكار نباتات تتوهج في الظلام. هذا الاكتشاف ليس مجرد إنجاز علمي مذهل، بل هو خطوة عملاقة نحو مستقبل أكثر استدامة، حيث يمكن للنباتات أن تساهم في إنارة منازلنا وشوارعنا دون الحاجة للكهرباء. لكن كيف تمكن العلماء من تحويل هذه الرؤية إلى حقيقة؟ وما هي التقنية التي استخدموها لإضاءة النباتات؟ وهل يمكن لهذه النباتات أن تصبح بديلاً حقيقياً للمصابيح التقليدية؟

نباتات متوهجة في الظلام.. ثورة صينية تضيء المستقبل

في إنجاز علمي جديد يفتح آفاقًا واسعة في مجال الإضاءة والطاقة المتجددة، تمكن فريق من العلماء الصينيين من ابتكار نباتات عصارية (Succulents) تتوهج في الظلام. هذا الابتكار الذي يذكرنا بالعوالم الساحرة في أفلام الخيال العلمي، يمثل نقلة نوعية في استخدام الكائنات الحية كبديل مستدام لمصادر الإضاءة التقليدية. وقد نشرت نتائج هذا البحث في مجلة “Matter” العلمية، حيث كشفت عن التفاصيل الدقيقة للتقنية التي سمحت بإحداث هذا التوهج.

لم تكن فكرة إضاءة النباتات جديدة، فلطالما حاول العلماء توظيف الجينات المسؤولة عن الإضاءة في بعض الكائنات الحية مثل اليراعات والفطر في النباتات. كانت أبرز المحاولات السابقة هي تلك التي قامت بها شركة التكنولوجيا الحيوية الأمريكية “Light Bro” عام 2024، حيث ابتكرت نوعًا خاصًا من أزهار البتونيا (Petunia) أطلقوا عليها اسم “Firefly”. ورغم أن هذه الأزهار كانت تتوهج، إلا أن إضاءتها كانت خافتة وتقتصر على اللون الأخضر فقط، مما جعلها غير عملية للاستخدامات اليومية.

أما الفريق الصيني من جامعة جنوب الصين الزراعية  (South China Agricultural University)، فقد اتخذ نهجًا مختلفًا. بدلاً من الاعتماد على الهندسة الوراثية المعقدة، قرروا استخدام جسيمات مضيئة (Luminescent particles) لإحداث التوهج.

السر في الجسيمات النانوية والنباتات العصارية

يكمن السر في هذا الابتكار في استخدام جسيمات فوسفور (Phosphor particles) متناهية الصغر، حيث تم تقليل حجمها إلى حوالي 7 ميكرون (Micrometers) لتتمكن من اختراق أنسجة أوراق النباتات دون الإضرار بها. هذه الجسيمات لديها القدرة على امتصاص الطاقة من مصادر الضوء كالشمس أو المصابيح الداخلية، ومن ثم إطلاقها تدريجيًا على شكل ضوء مرئي في الظلام.

ولتحقيق أفضل النتائج، جرب العلماء إدخال هذه الجسيمات في أنواع مختلفة من النباتات، بما في ذلك النباتات العصارية ذات الشكل الوردي، والنباتات غير العصارية مثل البوثوس الذهبي (Golden Pothos) والملفوف الصيني (Chinese cabbage). وكانت المفاجأة أن النباتات العصارية هي الوحيدة التي أظهرت توهجًا ساطعًا وفعالًا، على عكس التوقعات التي رجحت أن النباتات ذات الأوراق الأكثر تهوية ستكون أفضل في امتصاص الجسيمات.

Related Post

وتبين أن السبب في هذا النجاح يرجع إلى التركيب الفريد لأوراق النباتات العصارية، حيث ساعدت الأوردة الضيقة والمتساوية على توزيع الجسيمات المضيئة بشكل أكثر كفاءة، مما أدى إلى توهج أقوى وأكثر استمرارية. وبمجرد “شحنها” بضوء الشمس أو ضوء الغرفة، يمكن لهذه النباتات أن تصدر ضوءًا لمدة تصل إلى ساعتين.

تطبيقات عملية ومستقبل واعد

لم يكتفِ الفريق باختبار نبتة واحدة، بل قاموا بتركيب 56 نبتة عصارية متوهجة على جدار نباتي (Plant wall)، ليكتشفوا أن الضوء المنبعث منها كان كافيًا لإضاءة الأشياء القريبة. هذا التطبيق العملي يفتح الباب أمام استخدام هذه النباتات في تزيين المساحات الداخلية، وإضاءة الحدائق، وحتى استبدال المصابيح الليلية.

ما يميز هذه التقنية هو سهولة تطبيقها وانخفاض تكلفتها، حيث استغرق تحضير كل نبتة حوالي 10 دقائق فقط، وبلغت التكلفة الإجمالية للعملية أكثر بقليل من 10 يوان صيني (حوالي 1.4 دولار أمريكي)، مما يجعلها في متناول الجميع.

آفاق البحث المستقبلية

يواصل الباحثون دراسة التأثيرات طويلة المدى لهذه الجسيمات على صحة النباتات ونموها، بهدف التأكد من أن هذه التقنية آمنة ومستدامة. كما يسعون إلى تطبيقها على أنواع أخرى من النباتات، مما قد يمهد الطريق لإنشاء مدن كاملة تضاء بالنباتات المتوهجة، وتحقيق حلم الإضاءة الحيوية (Bio-lighting) على نطاق واسع.

وصف العلماء اندماج الجسيمات النانوية مع البنية الطبيعية للنباتات بأنه “شبه سحري”، وهو وصف دقيق لإنجاز علمي يجمع بين سحر الطبيعة وتقدم التكنولوجيا، ليرسم لنا مستقبلًا مشرقًا ومستدامًا.

هذه التقنية ليست مجرد تجربة معملية، بل هي بداية ثورة حقيقية في مجال الإضاءة الصديقة للبيئة. فبإمكاننا أن نتخيل مدنًا وشوارعًا وحدائق تضاء بضوء طبيعي وساحر، مما يقلل من استهلاك الكهرباء ويخفف من التلوث الضوئي. يبقى التحدي الأكبر أمام العلماء هو ضمان سلامة هذه التقنية على المدى الطويل، وتوسيع نطاق تطبيقها لتشمل أنواعًا أخرى من النباتات، ولكن الأمل كبير في أن يتحقق هذا الحلم، وأن يصبح عالم “أفاتار” المضيء جزءًا من واقعنا اليومي.

Author: طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير...

اضغط هنا لتقييم التقرير
[Average: 0]
طارق قابيل

يمثل الدكتور طارق قابيل نموذجًا بارزًا للعالم المصري الملتزم بتطوير العلوم. فمن خلال مسيرته الحافلة بالإنجازات، استطاع أن يساهم بشكل كبير في مجال الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية في مصر. وقد ساهم بشكل كبير في تطوير هذا المجال، وحقق إنجازات بارزة على الصعيدين المحلي والدولي. حصل الدكتور قابيل على درجة الدكتوراه في الهندسة الوراثية من جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعة كليمسون الأمريكية، حيث أجرى أبحاثًا رائدة في زراعة الأنسجة النباتية. عمل كأستاذ زائر في جامعة كليمسون وشارك في العديد من المشاريع البحثية الوطنية والدولية. يشغل الدكتور قابيل حاليًا منصب مقرر لجنة الآداب والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية بمكتب التقييم الفني لأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا في مصر، وأمين مجلس الثقافة والمعرفة بالأكاديمية الباحث الرئيسي لخريطة طريق التواصل العلمي، حيث يساهم في صياغة السياسات العلمية وتوجيه البحث العلمي نحو تحقيق التنمية المستدامة. كما أنه عضو في العديد من الجمعيات العلمية، مما يؤكد مكانته البارزة في المجتمع العلمي المصري والعربي. للدكتور طارق قابيل أكثر من 1000 مقال في تبسيط العلوم في أهم المجلات والجرائد العربية، ويعتبر رائدًا من رواد الثقافة العلمية في مصر، وتجسد إنجازات الدكتور قابيل التزامه العميق بتطوير العلوم ورفع مستوى البحث العلمي في مصر والعالم العربي. وبفضل جهوده المتواصلة، أصبح الدكتور طارق قابيل رمزًا للباحث المصري المبدع، الذي يسعى دائمًا إلى تطوير علمه وخدمة مجتمعه. وقد ترك بصمة واضحة في مجال العلوم الأساسية، وفتح آفاقًا جديدة للباحثين الشبان.

Share
Published by
طارق قابيل

Recent Posts

المصريون والذكاء الاصطناعي: ثورة تكنولوجية وثقة متزايدة

أظهرت دراسة شملت 47 دولة حول العالم أن المصريين هم رابع أكبر الشعوب استخدامًا للذكاء…

يوم واحد ago

“كروكوديل” فرعوني يتربع على عرش باتاغونيا: اكتشاف مفترس عملاق أكل الديناصورات قبل 70 مليون سنة

سيطرت الديناصورات على كوكب الأرض لعشرات الملايين من السنين، وتصدرت المشهد كأضخم الكائنات وأكثرها شراسة.…

يومين ago

ثورة في علم الأحياء الاصطناعية: علماء يصممون كائنًا حيًا بشفرة وراثية “غريبة” تمامًا

لطالما كان الحمض النووي (DNA) هو "كتاب الحياة" الذي يحدد خصائص كل كائن حي على…

3 أيام ago

“سبايكوميلوس”: ديناصور المغرب المدرع يغير قواعد اللعبة وأسرار لم تُكشف بعد!

في قلب جبال الأطلس المغربية، وعلى بعد أميال من بلدة بولمان الهادئة، يكمن كنزٌ جيولوجي…

4 أيام ago

من الخلية إلى الكيوبت: ثورة في علوم الأحياء تقودها الفيزياء الكمومية

لطالما ساد اعتقاد في الأوساط العلمية بأن عالم الفيزياء الكمومية (Quantum Physics) الذي يحكم سلوك…

5 أيام ago

هل يعيد الذيل الروبوتي الياباني الذيل الذي خسرناه في طريقنا للتطور؟

هل أنت مستعد لارتداء ذيلك من جديد؟ ثورة في عالم الحركة البشرية أم مجرد فضول…

6 أيام ago