في عالمنا المزدحم بالأخبار والأحداث، قد ننسى أحيانًا أن أعظم الأسرار والمفاجآت تأتي من أعماق الفضاء الخارجي. فمؤخراً، خطف كائن سماوي يحمل الاسم الرمزي (3I/ATLAS) الأضواء، مثيراً أسئلة حارقة حول ماهيته وأصله. هذا الجسم، الذي يُعتقد أنه زائر من خارج نظامنا الشمسي (ما يُسمى بالجسم “بين النجمي”)، لم يكتفِ بالمرور بجانبنا، بل أظهر سلوكاً وتركيباً كيميائياً دفعا ببعض العلماء إلى وصفه بـ “حصان طروادة“ الكوني، مُحذّرين من احتمال أن يُمثل “حدث البجعة السوداء” الذي قد يغير مفهومنا للكون.
زائر فريد من نوعه
لفهم أهمية هذا الجسم، يجب أن نعرف أولاً ما يمثله.
تعريف “الجسم بين النجمي“: هو ببساطة أي جسم (قد يكون كويكب أو مذنباً) لم يتكون في نظامنا الشمسي، بل طاف في الفضاء الشاسع بين النجوم لملايين السنين، حتى دخل مجال جاذبية شمسنا ثم سيخرج منه مجدداً. (3I/ATLAS) هو ثالث كائن من هذا النوع يتم تأكيد رصده حتى الآن، وهو ما يفسر الرمز “3” في اسمه.
الحجم العملاق:
تشير التقديرات إلى أن هذا الجسم هائل، إذ يُمكن أن تصل كتلته إلى 33 مليار طن، وحجمه يُقارب جزيرة كبيرة (مثل مانهاتن). هذا الحجم كبير جداً مقارنة بالزائرين النجميين السابقين، مما يثير تساؤل العلماء عن سبب وصول هذا “العملاق” تحديداً إلى جوارنا.
اللغز الكيميائي (سبيكة النيكل):
اللغز الأكبر يكمن في المواد التي يطلقها الجسم. فقد اكتشف العلماء وجود مادة كيميائية تُعرف باسم “رباعي كربونيل النيكل“، وهي سبيكة (مزيج معدني) لم تُشاهد في أي مذنب طبيعي من قبل. الغريب أن هذه السبيكة لا تُنتج بشكل طبيعي على الأرض إلا في المصانع والعمليات الصناعية التي يقوم بها البشر. هذا الاكتشاف هو ما دفع العالم آفي لوب (Avi Loeb)، أستاذ جامعة هارفارد، ليطرح السؤال: هل يمكن أن يكون هذا الكائن مُصطنعاً؟
“حصان طروادة” و”البجعة السوداء“
استعار آفي لوب مفاهيم من الأساطير والاقتصاد لوصف مدى خطورة الاحتمالات غير المألوفة المرتبطة بـ (3I/ATLAS):
“حصان طروادة”:
في الأسطورة اليونانية، كان حصان طروادة هدية تبدو جميلة ومُسالمة، لكنها كانت تخفي داخلها جنوداً جاهزين للهجوم. يرى لوب أن (3I/ATLAS) قد يبدو “مذنباً طبيعياً” في ظاهره، لكنه قد يكون في الواقع “مركبة استكشافية” أو “مسباراً” أرسلته حضارة أخرى بغرض التخفي والمراقبة، أو ربما يحمل هدفاً آخر لا نعرفه. أي أن الخطورة ليست في الاصطدام، بل في طبيعة الكائن ذاته.
“البجعة السوداء“
يُستخدم هذا المصطلح لوصف حدث نادر جداً، ويكون تأثيره على البشرية ضخماً، ولا يمكن التنبؤ به مسبقاً، لكن عندما يحدث، يبدو منطقياً في سياق الأحداث. في السياق الكوني، يعني لوب أن اكتشاف أن (3I/ATLAS) هو تكنولوجيا فضائية (حتى لو كان الاحتمال ضئيلًا) سيكون له تأثير هائل على فهمنا للكون والوجود، وهو ما يجب الاستعداد له والتفكير فيه.
يوضح لوب أننا يجب أن نكون مستعدين حتى لـ “الموعد الأعمى“ غير المريح؛ حيث يجب أن نأخذ احتياطاتنا حتى لو افترضنا أن الزائر (المذنب) ودود، لأن العواقب المحتملة قد تكون خطيرة.
الإجراءات الدولية: طمأنة رسمية وتعبئة عالمية
ما هو موقف الوكالات الفضائية الكبرى مثل وكالة ناسا (NASA) والوكالة الأوروبية للفضاء؟
تؤكد وكالة ناسا ووكالات رصد الكويكبات عالمياً أن (3I/ATLAS) لا يُشكّل أي تهديد وشيك باصطدام الأرض. سيعبر الجسم في أقرب نقطة له على مسافة آمنة جداً (حوالي 270 مليون كيلومتر) وسيكمل مساره خارج نظامنا الشمسي.
التعبئة العالمية للدفاع الكوكبي: رغم عدم وجود تهديد مباشر، دفع السلوك الغريب للجسم بالجهات الدولية إلى الاستنفار. فقد أطلقت الشبكة الدولية للإنذار من الكويكبات (IAWN) – وهي تحالف عالمي يضم مراصد ومنظمات للدفاع الكوكبي – “حملة مذنب“ مُكثّفة.
أهداف الحملة (27 نوفمبر 2025 – 27 يناير 2026): هذه الحملة، التي تُعد اختباراً حقيقياً للجاهزية العالمية، تهدف إلى:
تحديد مساره بدقة متناهية: لمعرفة ما إذا كان يتبع القوانين الفيزيائية بشكل كامل، أم أن هناك قوة “غير جاذبية” (مثل انبعاث غازات غير مفسرة أو دفع صناعي) تؤثر على حركته.
تحليل مكوناته: استخدام أقوى التلسكوبات لجمع أكبر قدر من البيانات حول غازاته وغباره لتفسير لغز سبيكة النيكل الغامضة.
الدفاع الكوكبي ضرورة وليست رفاهية
إن فرضية آفي لوب حول احتمال أن يكون الجسم تكنولوجيا فضائية تُظهر أن العلم لا يخاف من طرح الأسئلة الجريئة، ولكنه في النهاية يعتمد على الدليل المُقنع، وحتى الآن، يميل غالبية المجتمع العلمي إلى اعتبار الجسم مذنباً طبيعياً لكن بخصائص نادرة جداً، بينما يتم التحقق من فرضية لوب بكل جدية.
إن دخول كائن بهذا الحجم إلى جوارنا يوضح لماذا يجب على الحكومات والمؤسسات الاستثمار في الدفاع الكوكبي، وتطوير تكنولوجيا تتبع وتحويل الأجسام الفضائية.
إن مرور (3I/ATLAS) هو فرصة علمية نادرة لفهم الأجسام القادمة من مجرات أخرى. وبينما لا ندعو للذعر، فإن اليقظة العلمية والتعاون العالمي هما سلاحنا الأقوى. سواء كان (3I/ATLAS) صخرة كونية عملاقة تحمل أسراراً عمرها مليارات السنين، أو هو بالفعل “حصان طروادة” يحمل دلالات غير مسبوقة، فإن الأهم هو أننا نستعد لمعرفة الحقيقة. السماء لا تكف عن مفاجأتنا، ومن واجبنا أن نكون على أتم الاستعداد.
مؤتمر "وكلاء من أجل العلم": رائدو الذكاء الاصطناعي يتولون تأليف ومراجعة الأوراق البحثية لم يعد…
شهدت العقود الثلاثة الماضية تطورات جذرية في قدرة البشرية على قراءة وفهم الشفرة الجينية والبيولوجية…
لقد كان من دواعي سروري البالغ أن أشارك مؤخراً في فعاليات مؤتمر جامعة القاهرة الدولي…
استشراف علمي مثير يكشف شكلنا بعد مئات آلاف السنين لطالما شغل سؤال: "كيف سيبدو الإنسان…
عمر ياغي ونوبل الكيمياء.. من تحديات شُحّ المياه إلى ثورة الأطر المعدنية العضوية (MOFs) الحلم…
ضوء كمومي مضغوط فائق السرعة: اختراق علمي يفتح آفاقاً جديدة للاتصالات المشفرة بسرعات "البيتاهرتز" على…