
وداعاً “أيقونة الحمض النووي”: جيمس واتسون
ببالغ الحزن والتقدير، أعلن العالم عن رحيل أحد أبرز العقول التي شكّلت الفهم الحديث للحياة؛ عالم البيولوجيا الجزيئية الأمريكي جيمس ديوي واتسون، الذي غيَّبته المنية عن عمر ناهز الـ 97 عاماً في دار للرعاية في إيست نورثبورت، نيويورك، بتاريخ 6 نوفمبر 2025. لقد كان واتسون، الحائز على جائزة نوبل، شخصيةً محوريةً لا تُمحى من تاريخ العلم، بفضل إنجازه الذي هزَّ أركان البيولوجيا: اكتشاف البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين (Deoxyribonucleic acid)، المعروف اختصاراً بـ “DNA”، أو ما يُعرف بين الجمهور باسم “الشفرة الوراثية للحياة“.
يمثّل هذا الاكتشاف نقطة تحوّل محورية لم تُغيّر فحسب طريقة فهمنا لانتقال المعلومات الوراثية وكيفية تضاعف الخلايا، بل أشعلت فتيل ثورة في مجالات الطب، والتقنيات الحيوية، وعلم الجريمة (التحليل الجنائي)، وعلم الأنساب. لكن مسيرة واتسون المهنية التي امتدت سبعة عقود لم تكن خالية من الجدل، فقد تلطخت سمعته المهنية في سنواته الأخيرة بسبب تصريحاته العنصرية والجنسية التي أدَّت إلى نبذه من قبل بعض الأوساط العلمية. هذا التقرير المفصّل يستعرض الإرث العلمي الهائل لجيمس واتسون، ويُسلِّط الضوء على الإنجاز التاريخي الذي وضعه في مصاف الخالدين، والجدل الذي ظلّ يُلاحقه حتى آخر أيامه.
الإنجاز الخالد: كشف سرّ البنية الحلزونية المزدوجة
في عام 1953، وبينما كان جيمس واتسون عالماً شاباً لا يتجاوز عمره الـ 24 عاماً، وبالتعاون مع زميله الفيزيائي البريطاني فرانسيس كريك في مختبر كافنديش (Cavendish Laboratory) بجامعة كامبريدج، نشروا ورقة علمية مقتضبة في مجلة “نيتشر” (Nature) الشهيرة، تقترح نموذجاً هيكلياً لجزيء الحمض النووي. كان هذا النموذج عبارة عن شريطين يلتفان حول بعضهما البعض في شكل سلم ملتف، أو ما يُعرف بـ “الحلزون المزدوج”.
لم يكن هذا الاكتشاف مجرّد شكل هندسي لجزيء، بل كان اللحظة المضيئة التي فسّرت عملياً كيفية تخزين المعلومات الوراثية في الكائنات الحية، وكيف يمكن لهذه المعلومات أن تُنسخ بدقة متناهية عند انقسام الخلايا. الفضل في هذا الإنجاز مُنح عام 1962 بجائزة نوبل في الفسيولوجيا أو الطب (Physiology or Medicine)، والتي تقاسمها واتسون وكريك مع زميلهما موريس ويلكنز، “لاكتشافاتهم المتعلقة بالبنية الجزيئية للأحماض النووية وأهميتها في نقل المعلومات في المادة الحية”.
ولا يمكن تناول قصة اكتشاف الحمض النووي دون الإشارة إلى العالمة روزاليند فرانكلين، التي قدمت بيانات حاسمة، أبرزها صورة الأشعة السينية (X-ray image) الشهيرة التي عُرفت باسم “الصورة 51” والتي كانت مفتاحاً لا غنى عنه في بناء نموذج واتسون وكريك. للأسف، توفيت فرانكلين عام 1958 قبل منح الجائزة، ما جعلها غير مؤهلة للحصول عليها (جائزة نوبل لا تُمنح بعد الوفاة)، وهو ما يثير جدلاً تاريخياً حول الاعتراف الكامل بمساهمتها.
الإرث العلمي: ثورة البيولوجيا والتقنية الحيوية
لم يتوقف إرث واتسون عند كشف البنية، بل امتد ليُشعل ثورة البيولوجيا الجزيئية (Molecular Biology) التي نعيشها اليوم. لقد فتح اكتشاف الحمض النووي الأبواب أمام مجموعة لا حصر لها من التطبيقات التي غيّرت وجه العالم:
الطب الحديث: مهّد الاكتشاف الطريق أمام فهم الأمراض الوراثية وتطوير العلاج الجيني (Gene Therapy)، ومكافحة الأورام من خلال بحوثه اللاحقة في مختبر كولد سبرينغ هاربور (Cold Spring Harbor Laboratory) حيث ركّز على فيروسات الحمض النووي المسببة للسرطان.
ثورة التقنيات الحيوية: نشأة صناعة التقنية الحيوية (Biotechnology) التي تقدَّر بمليارات الدولارات، والتي تُستخدم في إنتاج الأدوية، وتطوير محاصيل زراعية مقاومة للأمراض والجفاف، وزيادة القيمة الغذائية للمنتجات.
العدالة الجنائية: إحداث ثورة في علم الجريمة من خلال فحص الحمض النووي (DNA Testing)، ما أتاح تحديد هويات المجرمين، وتبرئة الأبرياء.
مشروع الجينوم البشري (Human Genome Project): كان واتسون أحد الآباء المؤسسين لهذا المشروع العملاق الذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي، ويهدف إلى تحديد تسلسل الجينات البشرية بأكملها. قد أصبحت صورة الحلزون المزدوج للحمض النووي رمزاً عالمياً معترفاً به للعلم، بل وتعدّت الأوساط العلمية لتظهر في الأعمال الفنية والطوابع البريدية، ما يعكس تأثيرها العميق على الثقافة العامة.
سنوات الجدل: السقطات الأخلاقية والمهنية
على الرغم من تألقه العلمي، عُرف واتسون بشخصيته الصريحة والجريئة، بل والمثيرة للجدل، سواء من خلال مذكراته المثيرة بعنوان “الحلزون المزدوج“ عام 1968، التي وصف فيها السباق المحموم نحو الاكتشاف بصراحة لم تعجب الكثير من زملائه، أو من خلال مواقفه الأخلاقية المتناقضة.
ومع ذلك، فإن الجانب الأكثر ظلاماً في مسيرته يكمن في تصريحاته المتأخرة حول العرق والذكاء. ففي عام 2007، أجبر واتسون على الاستقالة من منصبه كمستشار في مختبر كولد سبرينغ هاربور (حيث عمل مديراً لسنوات طويلة منذ عام 1968) بعد أن أدلى بتصريحات عنصرية مفادها أن الجينات تؤدي إلى فروق في النتائج بين السود والبيض في اختبارات الذكاء، وأن الناس من أصل أفريقي أقل ذكاءً من البيض.
وفي عام 2019، وبعد بث فيلم وثائقي كرّر فيه واتسون هذه الآراء، قام المختبر بإلغاء جميع ألقابه الفخرية وقطع جميع علاقاته به، واصفاً ملاحظاته بأنها “متهورة وغير مدعومة بسند علمي”. هذه التصريحات أدَّت إلى نبذه مهنياً وإنساناً من قِبَل المجتمع العلمي، ما يضع نهاية مُرّة لمسيرة كان يمكن أن تظلّ مُلهمة بالكامل.
إرثٌ مُعقَّد: كيف يواجه التاريخ عالماً أنقذ البشرية ثم خذلها؟
يمثّل رحيل جيمس واتسون عن عالمنا لحظة للتأمل في التعقيد الذي يكتنف العبقرية البشرية. لا يمكن بأي شكل من الأشكال نزع ورقة اكتشاف البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي (DNA) من تاريخ العلم؛ فهذا الإنجاز سيبقى إلى الأبد حجر الزاوية الذي بُنيت عليه البيولوجيا الجزيئية الحديثة، وهو الأصل الذي تفرّعت منه ثورات العلاج الجيني، والطب الشخصي (Personalized Medicine)، ومشروع الجينوم البشري العملاق. لقد استغل واتسون فضوله الجامح وقدرته الفذة على الربط بين الاستنتاجات ليُقدّم للبشرية خريطة الطريق للوراثة، مُغيّراً بذلك نظرتنا للذات وللحياة نفسها.
ولكن، قصته أيضاً هي بمثابة تذكرة مؤلمة بأن الإنجاز العلمي الهائل لا يُعفى من المساءلة الأخلاقية والإنسانية. لقد أدَّت تصريحاته الأخيرة حول العرق والذكاء، والتي افتقرت إلى السند العلمي القوي، إلى تلطيخ سمعته ودفعه إلى العزلة المهنية. هذا التناقض الصارخ بين عظم الإنجاز وفداحة السقطة الأخلاقية يجعل من واتسون مثالاً تاريخياً يفرض علينا سؤالاً جوهرياً:
هل يمكن فصل إرث العالم عن سلوكه وتصريحاته؟
إن الإجابة العلمية تكمن في أن اكتشاف الحمض النووي قد تمّ، وسوف يستمر في خدمة البشرية بغض النظر عن مُكتشفه. الإرث الحقيقي لجيمس واتسون ليس في شخصه الذي مات، بل في البنية الحلزونية المزدوجة التي تُنير مختبراتنا حتى اليوم. وعلينا كجمهور عربي مُتلقٍّ للعلم أن نتقبّل هذه الصورة المُعقدة: عالمٌ أعطانا مفتاح الحياة، وترك لنا، من خلال مسيرته، تحدّياً أخلاقياً مستمراً حول كيفية مواءمة العبقرية مع المسؤولية الإنسانية. إن رحيله ليس نهاية الطريق، بل هو دعوة لمواصلة الرحلة في فهم الجينوم، بعقول منفتحة وضمائر يقظة.
على الرغم من الجدل الذي أحاط بشخصيته وتصريحاته المتأخرة، لا يمكن بأي حال من الأحوال التقليل من الأهمية التاريخية والحضارية لإنجاز جيمس واتسون الأبرز: تحديد البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي (DNA). هذا الاكتشاف ليس مجرّد فصل في كتب البيولوجيا، بل هو الدستور الأساسي للبيولوجيا الجزيئية الحديثة.
ويُشكّل رحيل جيمس واتسون نهاية لحقبة علمية بامتياز. هو العالم الذي ساهم ببراعة لا تُضاهى في فك رموز “سر الحياة” من خلال اكتشافه التاريخي لبنية الحمض النووي الحلزونية المزدوجة، الأمر الذي منح البشرية الأساس لفهم آليات الوراثة والتطور والمرض، وأطلق العنان لثورة التقنيات الجينية والطب الحديث. ومع ذلك، فإن قصته تذكير أيضاً بأن العبقرية العلمية يمكن أن تترافق مع سقطات أخلاقية ومهنية جسيمة، حيث إن تصريحاته العنصرية والجنسية في نهاية حياته لطخت إرثه النقي، ما جعله شخصيةً مثيرةً للجدل بقدر ما كانت بارعة. واتسون هو رمز للعلم الحديث بكل ما يحمله من إشراق وظلام.
إن رحيل واتسون يفتح المجال أمام جيل جديد من العلماء لمواصلة البناء على هذا الأساس المتين. فإذا كانت معرفة بنية الـ “DNA” قد أضاءت الطريق لكيفية تخزين المعلومات، فإن الجهد العلمي يتجه الآن إلى كيفية تحرير هذه المعلومات والاستفادة منها في صياغة مستقبل أكثر صحة للإنسان، بعيداً عن أية تحيزات أو انقسامات. إرث واتسون سيظلّ قائماً، ليس كنهاية لمسيرة عالم فحسب، بل كنقطة انطلاق لرحلة لا تتوقف في استكشاف أسرار الجينوم البشري.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :