في عالم الجوائز العلمية المرموقة التي تتسابق فيها العقول لفك أسرار الكون، تبرز جوائز “إيج نوبل” (Ig Nobel Prizes) كظاهرة فريدة من نوعها. فبينما تكرم “جائزة نوبل” الإنجازات التي “تفعل الخير للبشرية”، تحتفي “إيج نوبل” بالأبحاث التي “تجعلك تضحك، ثم تفكر”. هذه الجائزة الساخرة، التي تأسست عام 1991، ليست مجرد نكتة علمية، بل هي مرآة تعكس أهمية الفضول، والبحث عن إجابات لأسئلة تبدو سخيفة للوهلة الأولى، لكنها قد تفتح آفاقًا جديدة للمعرفة.
وفي عالم يغرق في الصراعات السياسية والتوترات الدولية، تبقى العلوم ملاذًا للمعرفة والإلهام، وأحيانًا للضحك. فبينما تتسابق المختبرات لفك شفرات الأمراض المستعصية، أو تطلق التلسكوبات لترصد مجرات بعيدة، تظهر جوائز “إيج نوبل”Prizes) لتكريم البحوث التي “تجعلك تضحك، ثم تفكر”. لكن هذا العام، حملت هذه الاحتفالية السنوية، التي تُعرف بخفتها ومرحها، نكهةً مُرةً غير معتادة، حيث غاب نصف الفائزين عن حفل التكريم في بوسطن، ليس بسبب ظروف شخصية، بل بسبب قيود السفر، وتأشيرات الدخول، والتوترات السياسية التي تلقي بظلالها على حرية البحث العلمي والتبادل المعرفي.
عندما يضحك العلم على نفسه
تاريخ الجائزة:
البداية والنشأة: تأسست جوائز “إيج نوبل” على يد “مارك أبراهامز”، محرر مجلة “حوليات الأبحاث غير المحتملة” (Annals of Improbable Research) في عام 1991. جاءت الفكرة كطريقة ساخرة للاحتفاء بالأبحاث التي لا تلقى اهتمامًا كبيرًا، والتي غالبًا ما تكون مبتكرة وغريبة الأطوار. اسم الجائزة نفسه هو تلاعب لفظي، حيث يجمع بين كلمة “نوبل” (Nobel) وكلمة “Ig Nobel” التي يمكن فهمها باللغة الإنجليزية كـ “ignoble” أي “دنيء” أو “وضيع”، في إشارة ساخرة إلى التناقض بينها وبين جائزة نوبل المرموقة.
حفل التكريم الغريب: يُقام الحفل السنوي في مسرح سانديرز في جامعة هارفارد، وهو احتفال يجمع بين المرح والجدية. يتميز الحفل بطقوسه غير التقليدية:
الطائرات الورقية: تقليد قديم حيث يرمي الجمهور طائرات ورقية على المسرح، في إشارة إلى أن الأبحاث قد تكون “غير ذات أهمية”.
محاضرات الـ 24 ثانية: يطلب من الفائزين إلقاء محاضرة قصيرة جدًا لتجنب الإطالة.
مسؤول الشرح” (Ms. Sweepee): فتاة صغيرة تقف بجانب الفائزين وتكرر عبارة “من فضلك توقف، أنا أشعر بالملل” إذا استمر الفائز في الحديث أكثر من اللازم.
الفائزون بجائزة نوبل الحقيقية: غالبًا ما يشارك في الحفل فائزون سابقون بجوائز نوبل الأصلية، مما يضيف طابعًا فكاهيًا وعلميًا في الوقت نفسه.
الهدف الحقيقي وراء الفكاهة: على الرغم من طابعها الفكاهي، فإن “إيج نوبل” تحمل رسالة عميقة. يقول “أبراهامز” إن الهدف هو “تشجيع الناس على الاهتمام بالعلم والبحث“. الأبحاث الفائزة بالجائزة، على الرغم من غرابتها، هي في النهاية أبحاث حقيقية ومنشورة في دوريات علمية محكمة. إنها تذكرنا بأن العلم ليس دائمًا عملًا جافًا أو مملًا، بل يمكن أن يكون مليئًا بالفضول والمرح.
أمثلة على أبحاث فائزة على مر التاريخ:
تنوعت الأبحاث الفائزة بالجائزة عبر السنين، وشملت مجالات علمية مختلفة:
هذه الأمثلة تؤكد أن البحث العلمي يمكن أن يتطرق إلى أي موضوع، مهما بدا غريبًا، وأن النتائج قد تكون مفاجئة ومثيرة للتفكير.
جوائز “إيج نوبل” 2025: عندما يغيب الفائزون
عادةً ما تكون حفلات توزيع جوائز “إيج نوبل” مسرحًا للبهجة والفكاهة، حيث يرتدي العلماء ملابس غريبة ويقدمون محاضرات لا تتجاوز 24 ثانية، بينما تتطاير الطائرات الورقية المصنوعة من الأوراق في القاعة. لكن النسخة الخامسة والثلاثين من الجائزة، التي أقيمت في جامعة بوسطن يوم 18 سبتمبر 2025، كانت “غير نمطية” على حد وصف منظميها. فقد اختار ما يقرب من نصف الفائزين العشرة عدم الحضور، والسبب لم يكن مرتبطًا بجدول أعمالهم، بل بأمور أكثر عمقًا وتعقيدًا.
أبحاث مضحكة وتحديات جادة
تكافئ “إيج نوبل” الأبحاث التي تبدو سخيفة للوهلة الأولى، لكنها تحمل في طياتها أسئلة علمية جادة. هذا العام، كان من بين الفائزين فريق من علماء النفس الألمان الذين وجدوا أن الأشخاص يصبحون أفضل في التحدث باللغات الأجنبية بعد تناول الكحول. كما كرمت الجائزة باحثين من الهند لابتكارهم حلًا لتقليل رائحة القدمين من خلال رفوف الأحذية، وفريقًا من إسرائيل أثبت أن الكحول يضعف قدرة الخفافيش على الطيران وتحديد المواقع بالصدى.
ولكن على الرغم من الطابع المرح لهذه الأبحاث، كانت أسباب غياب الفائزين جادة. يقول “مارك أبراهامز”، مؤسس الحفل ومحرر مجلة “حوليات الأبحاث غير المحتملة”: “لقد كان الوضع مؤلمًا حقًا بالنسبة لنا. كنا نحاول جاهدين أن نؤكد للفائزين مدى حرصنا على وجودهم، وفي الوقت نفسه نريدهم أن يكونوا آمنين ومرتاحين”.
السياسة تلقي بظلالها على الحفل
لم تكن الصراعات والقيود مجرد “حواجز” عادية، بل كانت نتاجًا مباشرًا للأجواء السياسية السائدة.
الحل البديل: حفل جوائز “إيج نوبل” في عواصم العالم
لم يستسلم “مارك أبراهامز” للوضع. فقد أدرك أن المشكلة أعمق من مجرد إلغاء رحلات طيران. ولهذا، أعلن عن خطط لإقامة ثلاث حفلات بديلة للفائزين خلال الأشهر القادمة في لندن وبرلين وطوكيو. هذه الخطوة تعد بمثابة اعتراف صريح بأن الولايات المتحدة، التي كانت تاريخيًا مركزًا للبحث العلمي والتبادل الثقافي، لم تعد وجهةً آمنة أو مرحبةً للعلماء من جميع أنحاء العالم. هذه الحفلات البديلة تمثل محاولةً للحفاظ على روح الجائزة، وتأكيدًا على أن العلم يجب أن يظل عابرًا للحدود، بعيدًا عن الخلافات السياسية التي تفرق بين الناس.
هل يمكن للعلم أن يظل “مرحًا”؟
إن جوائز “إيج نوبل” ليست مجرد حفلة للضحك. إنها تذكير بأهمية البحث العلمي الأساسي، الذي قد يبدو غريبًا أو غير عملي في البداية، ولكنه يغذي الفضول البشري ويفتح آفاقًا جديدة. تقول عالمة النفس البيولوجي “جولي مينلا”، التي فازت بجائزة طب الأطفال هذا العام، إن العلماء يجب ألا ينسوا “متعة الاكتشاف” و”الفرح” الذي يأتي من البحث التجريبي الأساسي. وتضيف أن السعي وراء الأفكار “الأكثر سذاجة” التي تكرمها جوائز “إيج نوبل” يمثل “أفضل ما في الحرية”.
لقد أثبتت أحداث هذا العام أن حتى أكثر الاحتفالات العلمية مرحًا ليست بمنأى عن تأثيرات السياسة العالمية. إن غياب الفائزين بسبب قيود التأشيرات والتوترات الدولية هو بمثابة ناقوس خطر يهدد التعاون العلمي الدولي. فالعلم يزدهر في بيئة منفتحة ومرحبة، حيث يمكن للأفكار أن تتدفق بحرية، والباحثين أن يلتقوا ويتبادلوا المعرفة دون خوف. وإذا أصبحت السياسة حجر عثرة في طريق هذا التدفق، فإن المتعة والاكتشاف لن يكونا وحدهما ما يضيع، بل سيضيع معهما تقدم البشرية.
دعوة للفضول والاستكشاف
في الختام، إن جوائز “إيج نوبل” ليست مجرد حدث سنوي يجذب الانتباه بوسائله الساخرة، بل هي دعوة مفتوحة للجميع، من العلماء إلى عامة الناس، لتقدير قيمة الفضول والاستكشاف. إنها تذكرنا بأن المعرفة لا تأتي دائمًا من الأبحاث الجليلة فقط، بل يمكن أن تولد أيضًا من الأسئلة الأكثر غرابة. في عالم يركز على النتائج العملية المباشرة، تقدم “إيج نوبل” نموذجًا بديلاً يثمن “متعة الاكتشاف“ و**”حرية البحث”**. فهي تعيد للعلم جوهره كرحلة إنسانية لا تنتهي من التساؤل والتعجب، وتثبت أن الضحك يمكن أن يكون البوابة الأولى للتفكير العميق.
هل تعتقد أننا بحاجة إلى المزيد من “الضحك” في عالمنا العلمي؟
لم يعد الانقراض كلمة نهائية في قاموس العلم الحديث. فبعد قرون من اختفاء طائر الدودو…
كان حلم تصنيع آلات دقيقة بحجم الذرات والجزيئات مجرد خيال علمي، لكن اليوم، بفضل التقدم…
تُعدّ الطاقة المتجددة، وخاصة الطاقة الشمسية، حجر الزاوية في بناء اقتصادات المستقبل المستدامة. فمع تزايد…
في سماء يوليو 2025، لفت جرم سماوي غامض الأنظار، مذنب ضخم أطلق عليه اسم "3…
تعتبر أعماق المحيطات آخر الحدود المجهولة على كوكب الأرض، فهي عوالم غامضة لم تكشف بعد…
لطالما كانت كسور العظام كابوساً يؤرق الملايين حول العالم، فالطرق التقليدية لعلاجها غالباً ما تقتضي…