في سابقة تُعدّ مثالاً صارخاً على تداخل السياسة بالصحة العامة، أثار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ووزير صحته روبرت كينيدي الابن جدلاً واسعاً بتصريحات ربطت بين استخدام دواء الباراسيتامول (أسيتامينوفين Acetaminophen) خلال الحمل، وارتفاع معدلات اضطراب طيف التوحد (Autism Spectrum Disorder – ASD). هذه المزاعم، التي نقلها عدد من المشاهير والأطباء دون تمحيص، أثارت قلقاً غير مبرر لدى الأمهات الحوامل، وتجاهلت عقوداً من الأبحاث العلمية التي تؤكد أن التوحد اضطراب معقد لا ينتج عن سبب واحد. هذا التقرير العلمي يسلط الضوء على ما تقوله الأبحاث الحديثة، ويفكك المزاعم المضللة، ويقدم نصائح موثوقة بناءً على إرشادات الهيئات الطبية العالمية.
تفنيد المزاعم: ما الذي يقوله العلم؟
لقد أظهر البحث العلمي الحديث أن المزاعم التي تربط بين الباراسيتامول والتوحد ضعيفة للغاية وغير مثبتة. وتؤكد أحدث الدراسات أن أي “ارتباط” محتمل بين الأمرين لا يعني بالضرورة وجود “علاقة سببية”.
الارتباط لا يثبت السببية: هذا هو المفهوم العلمي الأهم في هذا النقاش. فمجرد تزامن حدوث أمرين (مثل تناول الباراسيتامول وظهور التوحد) لا يعني أن أحدهما تسبب في الآخر. فعلى سبيل المثال، أشار العديد من الخبراء إلى أن السبب الذي يدفع المرأة الحامل لتناول الباراسيتامول، مثل الحمى أو العدوى، قد يكون هو العامل الحقيقي الذي يزيد من خطر التوحد، وليس الدواء نفسه. وقد أكدت دراسة نُشرت في عام 2024 وشملت أكثر من 2.4 مليون طفل في السويد أن العلاقة بين الباراسيتامول والتوحد تختفي تماماً عند دراسة حالات الأشقاء الذين تناولت أمهاتهم الدواء في حمل دون الآخر. وهذا دليل قوي على أن العوامل الوراثية أو البيئية الأخرى هي التي كانت السبب، وليست الباراسيتامول.
موقف الهيئات الطبية العالمية: في أعقاب تصريحات ترامب، سارعت منظمات طبية مرموقة مثل الكلية الأمريكية لأطباء النساء والتوليد (ACOG) إلى إعادة تأكيد موقفها الرسمي: الباراسيتامول لا يزال يعتبر الدواء الأكثر أماناً لعلاج الحمى والألم خلال فترة الحمل، عند استخدامه بالجرعات الموصى بها ولأقصر فترة ممكنة. وقد حذرت هذه المنظمات من أن الامتناع عن علاج الحمى، الذي قد يسببه الخوف من هذه الشائعات، يحمل مخاطر أكبر على صحة الأم والجنين.
أسباب التوحد الحقيقية: تعقيد الأسباب وتنوعها
يؤكد الإجماع العلمي أن التوحد اضطراب معقد ينشأ عن مجموعة من التفاعلات بين العوامل الوراثية والعوامل البيئية المحفزة.
إن فهم هذه الأسباب المعقدة يوضح لماذا يعد اختزال التوحد في عامل واحد، مثل الباراسيتامول أو اللقاحات، تبسيطاً مضللاً وخطراً.
لماذا ارتفعت معدلات التشخيص؟
يُشير ترامب وكينيدي الابن إلى “ارتفاع معدلات التوحد” كدليل على وجود مشكلة ما. إلا أن العلماء يؤكدون أن هذا الارتفاع لا يعكس زيادة حقيقية في عدد الحالات، بل يعكس:
قصة الفولات (Folate): بين العلاج المحتمل والادعاءات المضللة
أشار ترامب وكينيدي الابن أيضاً إلى نقص حمض الفوليك (Folate) كأحد الأسباب المحتملة للتوحد. وهنا، يمزجون بين حقيقة علمية وادعاء غير مثبت.
إن الخلط بين هذين المفهومين هو أسلوب مضلل يستخدمه بعضهم لإعطاء مصداقية زائفة لتصريحاتهم.
دعوة للالتزام بالعلم والمسؤولية
إن الجدل حول الباراسيتامول والتوحد يذكرنا بأهمية التزام الأطباء والإعلاميين بالدقة العلمية والمهنية. فالنشر غير المسؤول للمعلومات المضللة، حتى وإن كان بنية حسنة، يمكن أن يسبب ضرراً حقيقياً للأفراد والأسر.
إن توعية الجمهور يجب أن تكون مبنية على الأدلة العلمية الراسخة، لا على الشائعات أو التصريحات السياسية. ويجب أن تكون الرسالة واضحة: الباراسيتامول دواء آمن وفعال خلال الحمل، ومخاطر الحمى والألم على صحة الأم والجنين أكبر بكثير من أي مخاطر مزعومة للدواء.
إن دعم مجتمع التوحد لا يكون بإثارة المخاوف، بل بتقديم رعاية متخصصة، والتركيز على العلاجات السلوكية التي أثبتت فعاليتها، والاستثمار في الأبحاث التي تساعدنا على فهم هذا الاضطراب بشكل أعمق.
السواقي المنسية: مصر تُحيي تراث الألفي عام لتوليد الكهرباء النظيفة.. طاقة المستقبل بين جنبات الماضي…
في عالم يتزايد فيه الاعتماد على المقاييس الكمية لتقييم الأداء، أصبح ما يعرف بـ "تصنيف…
في عالم الجوائز العلمية المرموقة التي تتسابق فيها العقول لفك أسرار الكون، تبرز جوائز "إيج…
لم يعد الانقراض كلمة نهائية في قاموس العلم الحديث. فبعد قرون من اختفاء طائر الدودو…
كان حلم تصنيع آلات دقيقة بحجم الذرات والجزيئات مجرد خيال علمي، لكن اليوم، بفضل التقدم…