ضوء كمومي مضغوط فائق السرعة: اختراق علمي يفتح آفاقاً جديدة للاتصالات المشفرة بسرعات “البيتاهرتز”
على مدى قرن من الزمان، ظل مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ خيطًا رفيعًا يفصل بين عالمنا المرئي والمملكة الساحرة لميكانيكا الكم. لقد كان هذا المبدأ بمثابة جدار زجاجي شفاف، يهمس لنا بأن هناك حدودًا قصوى لمعرفتنا المطلقة بالطبيعة، وأننا لن نتمكن أبدًا من الإمساك بـموقع الجسيم وطاقته في آن واحد وبدقة كاملة. بدا وكأنه قيد أبدي، محكوم بمقدار ثابت من الضوضاء الكمومية.
ولكن، وكما يحدث دائمًا في سباق العلم، لم يكن هذا الحد سوى نقطة انطلاق للعقول النيّرة.
هنا يسطع نجم عربي جديد في سماء الفيزياء العالمية: الدكتور محمد حسن، الأستاذ المشارك في الفيزياء بجامعة أريزونا. قاد هذا العالم المصري الأصل فريقًا دوليًا ليقوم بما كان يُعدّ ضربًا من الخيال: ليس فقط مراقبة مبدأ عدم اليقين، بل التحكم فيه وتصوير دينامياته في الزمن الحقيقي بـدقة أتّوثانية مذهلة! (الأَتُّوثَانِيَة هي جزء من كوينتيليون من الثانية).
إن هذا الإنجاز ليس مجرد انتصار علمي آخر؛ إنه تحويل للقيد إلى قوة. فباستخدام تقنية مبتكرة لتوليد “الضوء المضغوط فائق السرعة“، أثبت الدكتور حسن وفريقه أن عدم اليقين ليس حاجزًا صلبًا، بل كمية مرنة يمكن “ضغطها” وتشكيلها لتخدم غاياتنا. هذا الاكتشاف يفتح الباب لثورة حقيقية في البصريات الكمومية فائقة السرعة، ويعد بعهد جديد من الاتصالات المشفرة التي تصل إلى سرعات البيتاهرتز غير المسبوقة، مما يجعل اعتراض المعلومات أمرًا مستحيلاً تقريباً. فلنغوص معًا في تفاصيل هذا الإنجاز الذي سيعيد تعريف حدود الممكن في عصر التكنولوجيا الكمومية.
تفاصيل الاختراق العلمي وتقنية “الضوء المضغوط فائق السرعة“
يقع في صلب هذا الإنجاز استخدام نوع خاص من الضوء يُعرف باسم “الضوء المضغوط“، ولكن بآلية جديدة أسرع بكثير.
ما هو الضوء المضغوط (الكمومي)؟
لتوضيح مفهوم الضوء المضغوط، يشرح الدكتور حسن بأن الضوء العادي يشبه “بالونًا مستديرًا” تتوزع فيه عدم اليقين (أو “الضوضاء الكمومية” بالتساوي بين خاصيتيه المتلازمتين (الشدة والطور). أما الضوء المضغوط (أو الضوء الكمومي)، فيشبه “بالونًا ممدودًا على شكل بيضاوي. في هذه الحالة، يتم ضغط عدم اليقين في خاصية واحدة لتصبح أكثر هدوءًا ودقة، بينما يزداد عدم اليقين في الخاصية الأخرى للتعويض، ليظل حاصل ضربهما عند الحد الأدنى الذي يفرضه مبدأ هايزنبرغ.
للتوضيح بلغة علمية: الضوء يتميز بمتغيرين مترافقين يُعرفان بـمركبتي التربيع. الضوء المضغوط يقلل من تباين (عدم اليقين في) إحدى المركبتين إلى ما دون الحد الكمومي القياسي على حساب زيادة التباين في الأخرى.
تجاوز حاجز الزمن: من الميلي ثانية إلى الأتّوثانية
في التطبيقات التقليدية – مثل أجهزة كشف موجات الجاذبية حيث يُستخدم الضوء المضغوط لتقليل ضوضاء الخلفية – كانت نبضات الضوء المضغوط تستغرق فترات زمنية طويلة تصل إلى الملي ثانية. كان التحدي الذي واجهه الدكتور حسن وفريقه هو توليد هذا الضوء الكمومي باستخدام نبضات فائقة السرعة تُقاس بـالفمتوثانية.
كان التحدي التقني الرئيسي يتمثل في مسألة “مطابقة الطور“بين ألوان الليزر المختلفة، وهو ما يتطلب عادةً إعدادات معقدة للغاية. لكن الفريق تمكن من التغلب على ذلك بفضل التكنولوجيا التي طورها الدكتور حسن سابقاً.
الآلية الجديدة لتوليد الضوء المضغوط فائق السرعة
طور الباحثون طريقة مبتكرة لإنتاج نبضات الضوء الكمومي فائقة القِصر، معتمدين على عملية بصرية غير خطية تُعرف باسم “الخلط الرباعي للموجات” . وتتمثل العملية فيما يلي:
تقسيم شعاع الليزر: تم تقسيم شعاع ليزر واحد إلى ثلاثة حُزَم متماثلة.
التفاعل في مادة شفافة: تم تركيز هذه الحُزَم الثلاثة داخل قطعة من الكوارتز المصهور وهي مادة شفافة تُستخدم في البصريات.
توليد الضوء المضغوط: أدى تفاعل الحُزَم الليزرية داخل الكوارتز المصهور (الوسط غير الخطي) إلى توليد الضوء المضغوط فائق السرعة.
التحكم في عدم اليقين في الزمن الحقيقي
الأهم من مجرد توليد الضوء المضغوط فائق السرعة هو قدرة الفريق على التحكم والتبديل ديناميكيًا بين خاصيتي الضغط:
ضغط الشدة: في المناهج السابقة للضوء المضغوط فائق السرعة (في الأبحاث الأولية)، كان الضغط يتم عادةً في طور الفوتون وهو ما يقابل موضعه النسبي داخل الموجة.
ضغط السعة/الشدة: تمكن فريق الدكتور حسن بدلاً من ذلك من ضغط شدة الفوتون أو، مما جعل عدم اليقين في الشدة أقل.
آلية التحكم: أظهر الباحثون القدرة على التبديل بين ضغط الشدة وضغط الطور بمجرد إجراء تعديل ميكانيكي بسيط، وهو تغيير زاوية المادة المصنوعة من الكوارتز المصهور بالنسبة لحزمة الليزر المقسمة. هذا التعديل البسيط يتحكم في توقيت وصول الفوتونات المختلفة، وهو ما يحدد أي خاصية يتم “ضغطها”.
هذه القدرة على المراقبة والتحكم في تقلبات عدم اليقين الكمومي في الزمن الحقيقي، بدقة غير مسبوقة تصل إلى الأتّوثانية، تمثل جوهر الاختراق العلمي.
الآثار التطبيقية: عصر جديد للاتصالات والأمن الكمومي
لا تقتصر أهمية هذا الاكتشاف على الفيزياء الأساسية فحسب، بل تمتد لتشمل تطبيقات عملية ثورية، لا سيما في مجال الاتصالات والقياس الكمومي.
بروتوكول اتصال كمومي فائق الأمان
قدم الفريق بروتوكول تشفير كمومي جديد يعمل بسرعات البيتاهرتز، أي كوادريليون هرتز، باستخدام نبضات الضوء المضغوط فائق السرعة.
تعزيز الأمان:
كانت التقنيات السابقة تستخدم الضوء المضغوط لتشفير البيانات، ولكن الدكتور حسن يشير إلى أنه حتى لو اكتشف المتنصت (المتطفل) محاولة اعتراض البيانات، فإنه قد يتمكن من الحصول على بعض المعلومات باستخدام مفتاح فك التشفير.
باستخدام الطريقة الجديدة، يتم تشفير البيانات مباشرة على شكل الموجة الكمومية المضغوطة فائقة السرعة.
هذا يعني أن المتطفل، بالإضافة إلى حاجته لمعرفة مفتاح فك التشفير، يجب أن يكون على علم بالسعة الدقيقة للنبضة للضوء المضغوط.
طبقة الحماية المزدوجة: أي محاولة اعتراض أو قياس للبيانات تؤدي حتمًا إلى إحداث اضطراب في الحالة الكمومية للضوء (وهو ما يُعرف بنظرية القياس الكمومي)، وهذا الاضطراب يؤثر تحديدًا على ضغط السعة/الشدة للنبضة. نتيجة لذلك، يصبح من المستحيل على المتسلل تحديد عدم اليقين الصحيح، مما يجعل البيانات المشفرة التي يحصل عليها غير دقيقة وغير قابلة للاستخدام.
يُطلق على هذه التقنية اسم بروتوكول تشفير كمومي أتّوثاني يوفر سرعة وأمانًا غير مسبوقين للشبكات الكمومية المستقبلية.
تطبيقات أخرى واعدة
يشير الدكتور حسن إلى أن الضوء الكمومي فائق السرعة يفتح المجال أمام تطبيقات أوسع في البصريات الكمومية فائقة السرعة، وهو مجال علمي جديد نشأ بفضل هذا الدمج بين علوم الليزر فائق السرعة والبصريات الكمومية. تشمل هذه التطبيقات:
الاستشعار الكمومي : تطوير أجهزة استشعار وحساسات فائقة الدقة للرصد البيئي والمختبرات.
القياسات الفائقة : تحسين دقة القياسات الفيزيائية إلى مستويات غير مسبوقة.
الكيمياء والبيولوجيا: إمكانية تطوير طرق تشخيص أكثر دقة واكتشاف أدوية جديدة من خلال مراقبة التفاعلات على مستوى الجسيمات الأولية وفي أزمنة قصيرة للغاية (أتّوثانية).
الحوسبة الكمومية : توفير أساس متين لتطوير أجهزة كمومية تعمل بسرعات البيتاهرتز .
من نظرية القيد إلى هندسة المستقبل الكمومي
يمثل الاكتشاف الأخير الذي قاده الدكتور محمد حسن قفزة نوعية لا تقتصر على حدود الفيزياء فحسب، بل تمتد لتشمل البنية التحتية لمستقبلنا التكنولوجي. فبعد عقود من التعامل مع مبدأ عدم اليقين على أنه سقف معرفي ثابت، نجح هذا الفريق في تحويله إلى أرضية خصبة للابتكار. لقد أثبتوا عملياً أن الضوضاء الكمومية ليست مجرد عائق، بل هي كمية ديناميكية يمكن التحكم بها والتبديل بين خصائصها (الشدة والطور) ببراعة غير مسبوقة، وذلك في أزمنة قصيرة جداً تُقاس بـالأَتُّوثَانِيَة، وهي أسرع لمحة زمنية يمكن للبشرية التحكم بها حالياً.
إن الفوائد المباشرة لهذا الإنجاز تتجسد أولاً في إرساء الأساس لمجال علمي جديد هو البصريات الكمومية فائقة السرعة، ومن ثم في فتح الباب أمام اتصالات كمومية فائقة الأمان وغير قابلة للاختراق. فمن خلال دمج نبضات الضوء المضغوط مع سرعات الفمتوثانية، أصبحت البيانات تُشفّر في قلب الخاصية الكمومية نفسها (عدم اليقين)، مما يجعل أي محاولة للاعتراض تحدث اضطراباً فورياً في البيانات المشفرة ويجعلها بلا قيمة للمتطفل. هذا التطور يعد بتحقيق سرعات نقل بيانات تقترب من البيتاهرتز، وهو ما سيمثل ثورة في شبكات الإنترنت الكمومية المستقبلية.
لقد أكد هذا البحث، المنشور في مجلة علمية مرموقة، على أن دور العلماء العرب، وتحديداً الدور الريادي للباحث المصري الدكتور حسن، هو دور محوري في رسم ملامح المستقبل التكنولوجي. إن قدرتنا الآن على “هندسة” عدم اليقين الكمومي تفتح الباب واسعاً ليس فقط لتطوير تقنيات التشفير، بل أيضاً لتقدم مذهل في الحساسات الكمومية فائقة الدقة، والتشخيص الطبي، واكتشاف الأدوية من خلال رصد التفاعلات الجزيئية والذرية في الزمن الحقيقي.
في الختام، يمثل هذا الاكتشاف خطوة عملاقة نحو ترويض أعقد مبادئ الكون، مؤكداً أن حدود المعرفة تظل دائماً في حالة توسع لا تتوقف، وأن ما كان يوماً قيداً، قد أصبح اليوم مفتاحاً لمستقبل الاتصالات والتقنيات الكمومية.
عمر ياغي ونوبل الكيمياء.. من تحديات شُحّ المياه إلى ثورة الأطر المعدنية العضوية (MOFs) الحلم…
مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2025 (Nobel Prize in Physics 2025) لثلاثة من أبرز…
تُعد مملكة دلمون واحدة من أقدم الممالك الحضارية في تاريخ الشرق الأدنى القديم، والتي ازدهرت…
الفرامل الخفية لـ "جيش المناعة": اكتشاف الخلايا التائية التنظيمية يفتح آفاق علاج أمراض المناعة الذاتية…
السواقي المنسية: مصر تُحيي تراث الألفي عام لتوليد الكهرباء النظيفة.. طاقة المستقبل بين جنبات الماضي…
في سابقة تُعدّ مثالاً صارخاً على تداخل السياسة بالصحة العامة، أثار الرئيس الأمريكي السابق دونالد…