
محتويات المقال :
بقلم: د. طارق قابيل
العاصمة الإدارية الجديدة – لم يكن المشهد في العاصمة الإدارية الجديدة هذا الأسبوع مجرد احتفال بروتوكولي، بل كان إعلاناً صريحاً عن ميلاد “جمهورية العلم الحديثة”. تحت رعاية السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وبحضور رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، انطلقت فعاليات المعرض الدولي لتسويق مخرجات البحوث والابتكار (IRC EXPO 2025)، بالتزامن مع الجمعية العمومية للشراكة بين الأكاديميات (IAP).
بصفتي مراقباً للمشهد العلمي، أستطيع القول إن ما يحدث الآن هو تحول مفصلي من مرحلة “النشر من أجل الترقية” إلى مرحلة “البحث من أجل التنمية”. إننا نشهد تطبيقاً عملياً لمفهوم “اقتصاد المعرفة” (Knowledge Economy)، حيث يصبح العقل البشري هو رأس المال الأغلى، والابتكار هو العملة الصعبة.
خارطة طريق وطنية: العلم في خدمة الاقتصاد
في كلمته التي اتسمت بالرؤية الاستراتيجية، وضع الدكتور أيمن عاشور، وزير التعليم العالي والبحث العلمي، النقاط على الحروف. الاستراتيجية الوطنية للتعليم العالي والبحث العلمي 2030 لم تعد حبراً على ورق، بل تحولت إلى واقع ملموس يرتكز على “السياسة الوطنية للابتكار المستدام”.
الهدف هنا واضح وطموح: تحويل مصر إلى مركز إقليمي (Hub) للابتكار في الشرق الأوسط وإفريقيا. ولا يقتصر الأمر على الشعارات، بل يعتمد على استثمار “العائد الديموغرافيا” المتمثل في شبابنا، وتأهيلهم في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، ليكونوا وقوداً للتحول الرقمي والصناعي.
لغة الأرقام: قفزات نوعية وليست مجرد إحصاءات
دعونا نتحدث بلغة العلم؛ لغة الأرقام التي لا تجامل. البيانات التي تم الكشف عنها خلال المؤتمر تشير إلى صعود صاروخي للمؤشرات المصرية، وهو ما يستدعي التوقف عنده بالفحص والتحليل:
1. ظاهرة “أفضل 2%” (قائمة ستانفورد) لطالما كان التواجد في قائمة جامعة ستانفورد لأفضل 2% من علماء العالم حلماً فردياً. اليوم، أصبح ظاهرة جماعية مصرية.
لقد قفز عدد العلماء المصريين في هذه القائمة المرموقة من 396 عالماً فقط في عام 2019، ليصل إلى 1106 علماء في تقرير 2024. هذا الارتفاع ليس مجرد زيادة عددية، بل هو دليل دامغ على ارتفاع “جودة الاستشهاد” (Citation Impact)، أي أن العالم بات يثق في مخرجات الباحث المصري ويبني عليها.
2. الزعامة الإقليمية في تصنيف “سيماجو” في تصنيف SCImago للمؤسسات البحثية، احتلت مصر المركز الـ 25 عالمياً من حيث عدد الأبحاث المستشهد بها (بإجمالي يقارب 41,897 بحثاً). الأهم من ذلك، هو أن مصر تتربع الآن على العرش الإفريقي والشرق أوسطي (المركز الأول)، متفوقة على دول ذات ميزانيات بحثية ضخمة.
3. الجودة قبل الكم (معيار Q1) انتهى عصر “النشر في أي مكان”. تشير الإحصاءات إلى نضج المجتمع البحثي المصري، حيث إن 53.5% من الأبحاث المصرية منشورة في مجلات الربع الأول (Q1)، وهي المجلات الأقوى والأكثر تأثيراً عالمياً. بل إن 78% من إنتاجنا العلمي يقع في الفئتين Q1 و Q2. هذه رسالة للعالم بأن “صنع في مصر” علمياً يعني الجودة والدقة.
القاهرة: عاصمة التكنولوجيا والابتكار
في سابقة تاريخية، دخلت القاهرة الكبرى نادي الكبار، حيث تم تصنيفها ضمن أفضل 100 تجمع علمي وتكنولوجي (S&T Cluster) على مستوى العالم، محتلة المركز 83.
القاهرة هي الممثل الوحيد لقارة إفريقيا والمنطقة العربية في هذا التصنيف. هذا يعني أن عاصمتنا باتت بيئة جاذبة للأفكار، والشركات الناشئة، والاستثمارات التكنولوجية، تماماً مثل وادي السيليكون أو تجمعات طوكيو ولندن.
ويتجلى هذا النجاح في قطاع ريادة الأعمال (Entrepreneurship)، حيث تصدرت مصر القارة الإفريقية وجاءت ثالثة إقليمياً في حجم استثمارات الشركات الناشئة، بقيمة بلغت 2 مليار دولار في السنوات الأربع الأخيرة. هذا هو المعنى الحقيقي لتحويل البحث العلمي إلى “قيمة سوقية”.
تدويل العلم وشراكات عابرة للحدود
لم تغفل الاستراتيجية المصرية أهمية الانفتاح على العالم. لقد نجحنا في “تدويل التعليم” عبر استصدار قرارات لـ 9 أفرع لجامعات أجنبية مرموقة. والخبر الأبرز هو انضمام مصر كشريك كامل في برنامج “هورايزون أوروبا” (Horizon Europe)، وهو أضخم برنامج لتمويل البحث العلمي في الاتحاد الأوروبي. هذا الانضمام يمنح الباحث المصري “جواز مرور” للعمل بندية تامة مع نظرائه في أوروبا، والمنافسة على تمويلات ضخمة كانت بعيدة المنال سابقاً.
كما أن تحول بنك المعرفة المصري (EKB) من مجرد مكتبة رقمية إلى مؤسسة “مُصدِّرة للمعرفة” للدول العربية والإفريقية، يعد إنجازاً للقوة الناعمة المصرية.
كلمات للتاريخ
في هذا المحفل، أكدت د. جينا الفقي، القائم بأعمال رئيس أكاديمية البحث العلمي، أن وجود 80 دولة مشاركة في المعرض هو اعتراف دولي بمكانة مصر. ومن الجانب الدولي، أشادت الدكتورة مارجريت هامبورغ (رئيس الشراكة بين الأكاديميات) بالدور المصري في قيادة قاطرة العلم في الجنوب العالمي، بينما أكدت الممثلة الإيطالية أن الشراكة مع مصر هي خيار استراتيجي لأوروبا.
المستقبل يبدأ الآن
عزيزي القارئ، إن ما نراه اليوم في IRC EXPO 2025 ليس مجرد معرض، بل هو إثبات قدرة. إن امتلاكنا لـ 853 باحثاً لكل مليون نسمة، ووجودنا القوي في المحافل الدولية، يؤكد أن البنية التحتية البشرية جاهزة للانطلاق.
التحدي القادم هو الاستدامة، وضمان أن يجد كل بحث علمي طريقه إلى مصنع، أو مستشفى، أو مزرعة، ليحقق رفاهية المواطن. نحن الآن على الطريق الصحيح، والقطار قد غادر المحطة باتجاه المستقبل.
سعدنا بزيارتك، جميع مقالات الموقع هي ملك موقع الأكاديمية بوست ولا يحق لأي شخص أو جهة استخدامها دون الإشارة إليها كمصدر. تعمل إدارة الموقع على إدارة عملية كتابة المحتوى العلمي دون تدخل مباشر في أسلوب الكاتب، مما يحمل الكاتب المسؤولية عن مدى دقة وسلامة ما يكتب.
التعليقات :